﴿سُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِیۤ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ﴾ نسَبَ الفعلَ إلى الله، ووصف النبي
ﷺ بالعبد؛ إذ ليس في هذا الإسراء سببٌ من أسباب المادة التي هي بمقدُور البشر.
وأعجَبُ ممن يَرُومُ تأويلَه على غير حقيقته، مع أنَّ في القرآن ما هو أعجَبُ؛ كنقل عرش بلقيس من
سبأ إلى بيت المقدس، مع أنَّ الذي عنده عِلم الكتاب نسَبَ الفعلَ لنفسه، فقال:
﴿أَنَا۠ ءَاتِیكَ بِهِۦ﴾ [النمل:40]، والمسافةُ أيضًا أبعَد، والمنقول أثقَلُ وأعسَرُ في النَّقل.
فالصحيحُ: أنَّ الإسراء كان بالروح والجسد، وهو أمرٌ خارِقٌ للعادة - دون ريب -، وأسرَى مِن سَرَى، والسُّرَى: السَّيْرُ ليلًا.
﴿ٱلۡأَقۡصَا﴾ الأبعَدُ مسافةً عن المسجد الحرام، وهو المسجد الثاني الذي بناه سيدنا إبراهيم
عليه السلام بعد الكعبة، وقد جاء في «البخاري» وغيره عن أبي ذر: قُلتُ: يا رسول الله! أيُّ مسجدٍ وُضِعَ في الأرض أول؟ قال: «المَسْجِدُ الحَرَامُ»، قُلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: «المَسْجِدُ الأَقْصَى»، قُلتُ: كَم بينهما؟ قال: «أَرْبَعُونَ سَنَة».
﴿لِنُرِیَهُۥ مِنۡ ءَایَـٰتِنَاۤۚ﴾ علَّةُ الإسراء: أن يرى محمدٌ
ﷺ آياتِ الله التي هي في عالم الغَيب بالنسبة لنا، وقد جاء ذِكرُ هذه الآيات في أحاديث الإسراء والمعراج مع إشارات سريعة في مواضع أخرى من القرآن، كما في سورة النجم، أما وجه كونها علَّة، فلا يبدو للناظر سِوَى التثبيت، لكن الجزمُ به والقَصرُ عليه بحاجةٍ إلى دليلٍ من الغَيبِ، وعلاقةُ الرُّسُل
عليهم السلام بالسماء أوسَع من أنْ يحُدَّها نظرٌ، والله أعلم.
﴿ذُرِّیَّةَ مَنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٍۚ﴾ نداءٌ فيه شيءٌ من اللوم والعتب؛ لأن الذين نجَّاهم الله مع
نوح عليه السلام كانوا من المؤمنين، فلا ينبغي لهم النكوص والنكران.
﴿لَتُفۡسِدُنَّ فِی ٱلۡأَرۡضِ مَرَّتَیۡنِ﴾ الظاهرُ مِن الأخبار أنهما قد حصَلَتا بالفعل، إما أن تكون كلاهما على يد البابليِّين بقيادة سنحاريب، ثم بُختنصَّر، وهذا الأوفَقُ للسياق، وإما أن تكون الأولى على يد بُختنصَّر وما عُرف بالسَّبْي البابِلِي، والثانية بعد أن أرجَعَهم كُورش ملك فارس، وأعادَ لهم مُلكَهم، فسلَّط الله عليهم
الرومان.
﴿بَعَثۡنَا عَلَیۡكُمۡ عِبَادࣰا لَّنَاۤ﴾ هم أهلُ بابِل، والإضافةُ ليسَت للتشريف، وإنما للاختصاص، بقرينة قوله:
﴿بَعَثۡنَا﴾.
﴿فَجَاسُواْ خِلَـٰلَ ٱلدِّیَارِۚ﴾ طافُوا بها بأمان دون مقاومة منكم.
﴿ثُمَّ رَدَدۡنَا لَكُمُ ٱلۡكَرَّةَ عَلَیۡهِمۡ﴾ بمُعاونة الفرس الذين هدُّوا مملكةَ بابِل، وأعادوا مُلك بني إسرائيل.
﴿أَكۡثَرَ نَفِیرًا﴾ حشدًا للقتال.
﴿فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ ٱلۡأَخِرَةِ﴾ المرَّة الثانية من الإفساد.
﴿لِیَسُـࣳۤـُٔواْ وُجُوهَكُمۡ﴾ يَغزُونكم مرَّة ثانية فيحصُل لكم السوء والمهانة.
﴿وَلِیَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةࣲ﴾ دلالةً على أن البابليِّين دخلوا المسجد من قَبل.
﴿وَلِیُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِیرًا﴾ يُدمِّرون كلَّ شيءٍ ظهروا عليه وتمكَّنُوا منه.
وهنا إشكالٌ؛ فالمعروف أن البابليِّين هم من دمَّر مملكةَ إسرائيل أولًا، وفي المرَّة الثانية كان التدمير على يد
الرومان، والآيةُ تُشيرُ إلى أنَّ التدميرَ في المرَّتَين كان مِن جهةٍ واحدةٍ، ومِن قومٍ مُعيّنين، ولَيسَا مِن قومَين مُختلِفَين؛ فإما أن تكون المرَّة الأولى على يد سنحاريب، والثانية على يد بُختنصَّر أو (نبوخذنصَّر)، وكلاهما من أرض بابِل، فينتَظِمُ الكلام، وإما أن يكون عَودُ الضمير على الاسم دون المسمَّى، كما تقول: عِندِي دِرهَم ونِصفُه، أي: نِصفُ دِرهَم آخر؛ إذ تسليطُ
الرومان عليهم هو كتسليطِ البابليِّين، فكلاهما مبعُوثٌ مِن الله لتأديب بني إسرائيل، والتخريجُ الأولُ أوفَقُ للسياق، وعليه يكون غَزوُ
الرومان وما بعده لا صلَةَ له بالمرَّتَين المنصُوص عليهما في القرآن، وإنما كلُّ هذا يدخُلُ في الإنذار المستمر والمتكرر:
﴿وَإِنۡ عُدتُّمۡ عُدۡنَاۚ﴾.