سورة الإسراء تفسير مجالس النور الآية 39

ذَ ٰ⁠لِكَ مِمَّاۤ أَوۡحَىٰۤ إِلَیۡكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلۡحِكۡمَةِۗ وَلَا تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتُلۡقَىٰ فِی جَهَنَّمَ مَلُومࣰا مَّدۡحُورًا ﴿٣٩﴾

تفسير مجالس النور سورة الإسراء

المجلس العشرون بعد المائة: بناء المجتمع المسلم


من الآية (23- 39)


في هذه المجموعة من الآيات يعرض القرآن لمنظومة من القيم والأخلاق التي تُؤسِّس لمجتمعٍ نظيفٍ ومُتماسكٍ، يجِدُ الفردُ فيه أمنَه وسكينتَه وأُلفتَه:
أولًا: بر الوالدين ﴿۞ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوۤاْ إِلَّاۤ إِیَّاهُ وَبِٱلۡوَ ٰ⁠لِدَیۡنِ إِحۡسَـٰنًاۚ﴾ قرَنَ البرَّ بالتوحيد، بل جعل التوحيد مدخلًا للحديث عنه، والتنويه بشأنه وخطره، ثم ذكَّرَ بما يستدِرُّ العاطفة ﴿إِمَّا یَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ﴾، فكبير السن مهما كان مُستحقًّا للتوقير والرعاية، فكيف إذا كان والدًا؟
ثم فصَّلَ ﴿أَحَدُهُمَاۤ أَوۡ كِلَاهُمَا﴾، واحتاطَ غايةَ الحَيطة بقوله: ﴿فَلَا تَقُل لَّهُمَاۤ أُفࣲّ﴾ وهي مثالٌ لأدنَى العُقوق؛ كي يتنزَّه الناسُ عما هو فوقه، ثم أمر بالتذلُّل لهما: ﴿وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ﴾ والدعاء المستمر حبًّا ووفاءً لهما ﴿وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّیَانِی صَغِیرࣰا﴾.
ثانيًا: صلة الرحِم ﴿وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ﴾.
ثالثًا: رعاية المسكين وإعانة المُحتاج ﴿وَٱلۡمِسۡكِینَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِ﴾.
رابعًا: الابتعاد عن التبذير ﴿وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِیرًا ﴿٢٦﴾ إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِینَ كَانُوۤاْ إِخۡوَ ٰ⁠نَ ٱلشَّیَـٰطِینِۖ وَكَانَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورࣰا﴾، وليس بعد الترهيب مِن ترهيبٍ، فاعجَب بعد هذا لمن يُبذِّر أموال الأمة وثرواتها فيما لا فائدة فيه، أو يُسرف في الولائم والمناسبات غايةَ الإسراف، ثم يدَّعِي أنَّ هذا من الكرم، والكرم إنما هو البذلُ دون تحرُّج أو تردُّد في وجوه الخير، أما أكوام الطعام التي يُدعَى لها الأغنياء والمُترَفون، ويُحرَم منها الفقراء والمُعدَمون، فهذا هو الإسرافُ والتبذيرُ الذي حرَّمَه الله.
خامسًا: الاقتصاد في النفقة ﴿وَلَا تَجۡعَلۡ یَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومࣰا مَّحۡسُورًا﴾، وهذه النقطةُ تتمَّةٌ وتفصيلٌ لما قبلها.
سادسًا: القول اللَّيِّن ﴿فَقُل لَّهُمۡ قَوۡلࣰا مَّیۡسُورࣰا﴾.
سابعًا: الحفاظ على الأولاد وعدم تعريضهم للهلاك مهما كانت الأسباب ﴿وَلَا تَقۡتُلُوۤاْ أَوۡلَـٰدَكُمۡ خَشۡیَةَ إِمۡلَـٰقࣲۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِیَّاكُمۡۚ إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡـࣰٔا كَبِیرࣰا﴾.
ثامنًا: البُعد عن الزنا وكلِّ ما يُقرِّب منه ﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰۤۖ إِنَّهُۥ كَانَ فَـٰحِشَةࣰ وَسَاۤءَ سَبِیلࣰا﴾.
تاسعًا: الحفاظ على حياة الناس وتحريم القتل ﴿وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِی حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ ۗ﴾.
عاشرًا: الحفاظ على أموال اليتامى ﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡیَتِیمِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ﴾.
حادي عشر: الوفاء بالعهد ﴿وَأَوۡفُواْ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡـُٔولࣰا﴾.
ثاني عشر: العدل في الميزان وتجنُّب أكل أموال الناس بالباطل ﴿وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَیۡلَ إِذَا كِلۡتُمۡ وَزِنُواْ بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِیمِۚ﴾.
ثالث عشر: التثبُّت والتأكُّد من المعلومة قبل نشرها أو الأخذ بها ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَــٰۤىِٕكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولࣰا﴾.
رابع عشر: التواضُع وعدم التكبُّر على خلق الله ﴿وَلَا تَمۡشِ فِی ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّكَ لَن تَخۡرِقَ ٱلۡأَرۡضَ وَلَن تَبۡلُغَ ٱلۡجِبَالَ طُولࣰا﴾.
خامس عشر: التوحيد في البدء والختام، ففي البدء قال: ﴿۞ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوۤاْ إِلَّاۤ إِیَّاهُ﴾، وفي الختام قال: ﴿وَلَا تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتُلۡقَىٰ فِی جَهَنَّمَ مَلُومࣰا مَّدۡحُورًا﴾.
تجدُرُ الإشارة هنا إلى أن هذه الوصايا قد ورَدَت بألفاظ متقاربة في الوصايا العشر الواردة في سورة الأنعام، مع بعض التوسُّع هنا والتفصيل، وإذا عُلِم أن السورتَين نزَلَتا بمكة، أدرَكنا مدى اهتمام القرآن المبكر بمنظومة القيم والأخلاق، وبهذا التفصيل والتأكيد، على خلاف ما كان يظنُّه بعضُ الباحثين في القرآن مِن أنَّ القرآن المكي لم يتعرَّض إلا لمسائل التوحيد والعقيدة!
نعم إنَّ إلزامية التشريع وتنفيذه على الناس يحتاج إلى الدولة، لكن منظومة القيم والأخلاق مُتعلِّقة ببناء المجتمع قبل بناء الدولة؛ وإنما الدولة تنبَثِق من المجتمع، وتعكِس صورته الذاتية وبناءه الداخلي.


﴿إِمَّا یَبۡلُغَنَّ عِندَكَ﴾ إشارة إلى كفالته لهما.
﴿فَلَا تَقُل لَّهُمَاۤ أُفࣲّ﴾ النهي عن أدنى الإيذاء ليدخل ما فوقه من باب أَولَى.
﴿وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ﴾ غايةٌ في التواضُع والتذلُّل، ونسبة الذُّلِّ إلى الجناح نسبةٌ مجازيَّةٌ على عادة العرب في ذلك، وقد نزل القرآن بلُغَتهم.
﴿لِلۡأَوَّ ٰ⁠بِینَ﴾ التائبين العائدين إلى الله.
﴿وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِ﴾ الذي انقطَعَت به الطريق، وحِيلَ بينه وبين ما يملِكُه في بلده، أما إذا كان يتمكَّن من التواصل مع ماله بالطرق الحديثة؛ كالبطاقات الائتمانية ونحوها فلا يدخل في ذلك.
﴿وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِیرًا﴾ لا تُنفِق مالك في غير حاجة وبغير وجه حقٍّ، فالمالُ مالُ الله، وأنت مُستخلَفٌ فيه.
﴿إِخۡوَ ٰ⁠نَ ٱلشَّیَـٰطِینِۖ﴾ قُرناءَهم وأشباهَهم في عمل الفساد، والتبذير: فساد المال، وهو من كَفَرَ النعمةَ؛ ولذلك عقَّب ببيان وجه الشَّبَه هذا ﴿وَكَانَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورࣰا﴾.
﴿وَإِمَّا تُعۡرِضَنَّ عَنۡهُمُ ٱبۡتِغَاۤءَ رَحۡمَةࣲ مِّن رَّبِّكَ تَرۡجُوهَا فَقُل لَّهُمۡ قَوۡلࣰا مَّیۡسُورࣰا﴾ إذا أعرَضتَ عن المساكين وذوي القربى؛ لأنه ليس عندك ما تُنفِقه عليهم، وكنت تنتظر رِزقًا، فتلطَّف لهم بالقول حتى يأتيك ما تنتظر.
﴿وَلَا تَجۡعَلۡ یَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ﴾ كناية عن غاية الحرص والبخل، والخوف من نقص المال.
﴿وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ﴾ كناية عن الإسراف واللامبالاة.
﴿فَتَقۡعُدَ مَلُومࣰا مَّحۡسُورًا﴾ فتقعُد عاجزًا بعد تضييع مالك يلومك الناس، وتتحسَّر أنك لا تجِد ما تُنفِقُه على نفسك وأهل بيتك.
وهذا التوجيه الربَّانيُّ يحسِم تلك المفاهيم الخاطئة لعقيدة التوكُّل، والتي تجعل المسلم يتعامَلُ مع الحياة بلا حسابٍ، ولا تخطيطٍ، ولا نظرٍ في العواقب.
﴿وَلَا تَقۡتُلُوۤاْ أَوۡلَـٰدَكُمۡ خَشۡیَةَ إِمۡلَـٰقࣲۖ﴾ الإملاق: الجوع والفاقة، وهذا دليلٌ على أنَّ بعض الجاهلية كانوا يقتُلون بناتهم خشيةَ النفقة!
﴿خِطۡـࣰٔا﴾ بمعنى: خَطأ.
﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلزِّنَىٰۤۖ﴾ نهيٌ عن الزنا وعن ما يقرِّب إليه؛ كالنظرة القاصدة، والخلوة، والتبرُّج.
﴿فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِیِّهِۦ سُلۡطَـٰنࣰا﴾ بحكم الشرع وقوَّة القانون، وليس السلطان القدري الذي يتوهَّمُه بعض الناس، فالقاتل يقتصُّ منه القضاء العادل، فإن لم يكن هناك دولة ولا قضاء فلربما يفلِت القاتلُ من العقوبة الدنيوية لتلقَاه العقوبة الأخروية، وهذا واقعٌ؛ فكم مِن ظالم ٍ قاتلٍ مات من غير عقوبةٍ ولا قصاصٍ.
﴿فَلَا یُسۡرِف فِّی ٱلۡقَتۡلِۖ﴾ كأن يقتُل أخَا القاتل أو قريبَه، أو يقتُل أكثرَ مِن واحدٍ بقتيلِه، أو يتعدَّى حدَّ القتل المعروف فيحرِق أو يُمثِّل، ومِن الإسرافِ أيضًا: الاستِعجال قبل التبيُّن وقبل قضاء القاضي؛ إذ الأصل أنَّ هذا الحكم يثبُتُ عند القاضي بشرائِطِه المعروفة، وليس لآحاد الناس البَتُّ في مثل هذه الجنايات، وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورࣰا﴾ أي: بقوَّة القضاء.
﴿وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡیَتِیمِ﴾ مزيدًا من الاحتياط؛ لحاجة اليتامى إلى حماية أموالهم أكثر من غيرهم.
﴿إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ﴾ كأن يتَّجِر بها لمصلحة اليتيم.
﴿وَزِنُواْ بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِیمِۚ﴾ بالميزان العدل الذي ليس فيه مَيَلان.
﴿وَلَا تَقۡفُ﴾ لا تتبع.
﴿مَرَحًاۖ﴾ خُيَلاء.
﴿إِنَّكَ لَن تَخۡرِقَ ٱلۡأَرۡضَ وَلَن تَبۡلُغَ ٱلۡجِبَالَ طُولࣰا﴾ تمثيلٌ لعجز الإنسان، ودعوة له أن يعرف قَدرَه فلا يتكبَّر على عباد الله.
﴿كُلُّ ذَ ٰ⁠لِكَ كَانَ سَیِّئُهُۥ عِندَ رَبِّكَ مَكۡرُوهࣰا﴾ كلُّ ما تقدَّم مِن الوصايا والأحكام والمحظُورات، ثم احتَرَزَ بقوله: ﴿سَیِّئُهُۥ﴾؛ لأنه ليس كلُّ ما تقدَّم سيئًا.
﴿ذَ ٰ⁠لِكَ مِمَّاۤ أَوۡحَىٰۤ إِلَیۡكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلۡحِكۡمَةِۗ﴾ وصف لما تقدَّم من الوصايا والقِيَم، بمعنى: أنها جاءت في غاية الإتقان، من حيث معناها ومبناها وموقعها المناسب في خارطة البناء الإسلامي الشامل والمتكامل.
﴿مَلُومࣰا﴾ تستحق الملامة.
﴿مَّدۡحُورًا﴾ خاسرًا ومطرودًا من رحمة الله.