سورة الإسراء تفسير مجالس النور الآية 42

قُل لَّوۡ كَانَ مَعَهُۥۤ ءَالِهَةࣱ كَمَا یَقُولُونَ إِذࣰا لَّٱبۡتَغَوۡاْ إِلَىٰ ذِی ٱلۡعَرۡشِ سَبِیلࣰا ﴿٤٢﴾

تفسير مجالس النور سورة الإسراء

المجلس الحادي والعشرون بعد المائة: حوار مع المشركين


من الآية (40- 60)


بعد بناء المجتمع المسلم وفق هذه الأسس والمبادئ الربَّانية، شرَعَ القرآن في فتح حوارٍ مع الآخر الذي كان يُناصِبُ هذا المجتمع العداءَ، ويُقابِلُ عقيدةَ التوحيد الصافية بعقيدة شِركيَّة وثنِيَّة لا تستند إلى فِطرة ولا منطِق، ولا بقيَّة من حُجَّة أو دليل:
أولًا: بدأ بمسألة جُزئيَّة لكنها خطيرة، وتُعدُّ نموذجًا صارخًا للانحراف في طريقة التفكير ونظرة الإنسان للإله ﴿أَفَأَصۡفَىٰكُمۡ رَبُّكُم بِٱلۡبَنِینَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنَـٰثًاۚ إِنَّكُمۡ لَتَقُولُونَ قَوۡلًا عَظِیمࣰا﴾.
ثانيًا: انتقل من هذه الجُزئيَّة إلى أصل الداء عندهم ﴿قُل لَّوۡ كَانَ مَعَهُۥۤ ءَالِهَةࣱ كَمَا یَقُولُونَ إِذࣰا لَّٱبۡتَغَوۡاْ إِلَىٰ ذِی ٱلۡعَرۡشِ سَبِیلࣰا﴾ أي: لنازَعَتْه هذه الآلهة المزعومة في سلطانه، كما يفعل ملوك الأرض، ولظهَرَ أثرُ هذا الاضطراب في مُلك الله سبحانه، لكن الكون لا زال كما كان في غاية الإتقان والاتِّساق، والخضوع للناموس الكوني الذي وضَعَه خالِقُ هذا الكون ﴿تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِیهِنَّۚ وَإِن مِّن شَیۡءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ﴾.
ثالثًا: أنَّ هؤلاء قد حِيلَ بينهم وبين فَهمِ القرآن؛ بسبب عنادِهم وتكبُّرِهم، وما ملأ صُدورَهم ونُفوسَهم من غلٍّ وحسدٍ، فصُمَّت آذانُهم، وعَمِيَت أبصارُهم ﴿وَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ جَعَلۡنَا بَیۡنَكَ وَبَیۡنَ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأَخِرَةِ حِجَابࣰا مَّسۡتُورࣰا ﴿٤٥﴾ وَجَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن یَفۡقَهُوهُ وَفِیۤ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرࣰاۚ﴾، وهذا الجَعْلُ الإلهيُّ جَعْلٌ سُننيُّ مُستندٌ إلى عالم الأسباب، وليس فيه معنى الجَبْر والإكراه؛ إذ إنَّ اللهَ لا يظلِمُ أحدًا مِن خلقه.
رابعًا: أنهم كانوا يستَمِعُون القرآنَ، لكن ليس مِن أجل الفهم والتفكُّر، بل لمُحاربته والسخرية منه ﴿نَّحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا یَسۡتَمِعُونَ بِهِۦۤ إِذۡ یَسۡتَمِعُونَ إِلَیۡكَ وَإِذۡ هُمۡ نَجۡوَىٰۤ إِذۡ یَقُولُ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِن تَـتَّـبِعُونَ إِلَّا رَجُلࣰا مَّسۡحُورًا﴾، وهذا الموقف يتَّسِقُ مع ما قبله، ويزيده تفسيرًا ووضوحًا.
خامسًا: أنهم كانوا يشتُمُون رسولَ الله ، ويضربون له الأمثال والتشبيهات الباطلة؛ فمرَّةً بالساحر، ومرَّةً بالشاعر، ومرَّةً بالكاذِبِ، وكلُّ هذا تعبيرٌ عن نار الحَسَد التي تكاد تأكُلُ قُلوبَهم ﴿ٱنظُرۡ كَیۡفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلۡأَمۡثَالَ فَضَلُّواْ فَلَا یَسۡتَطِیعُونَ سَبِیلࣰا﴾، فهذا الحسد لا يمكن أن يؤدِّي إلى خيرٍ وإلى حكمٍ عادل ومنصف، ومن هنا كانت فتنتهم وضلالهم.
سادسًا: بعد موقفهم من التوحيد ومن الوحي، عرَضَ القرآن لمسألة أخرى ربما تكون السببَ الأساسَ لضلالهم، وعدم شعورهم بالحاجة إلى النظر الجادِّ وتحمُّل المسؤولية، ألا وهي: مسألة الجزاء، وعقيدة البعث والحساب ﴿وَقَالُوۤاْ أَءِذَا كُنَّا عِظَـٰمࣰا وَرُفَـٰتًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ خَلۡقࣰا جَدِیدࣰا﴾، وقد ردَّ القرآن تساؤُلَهم هذا الذي يحمل معنى الإنكار والاستهزاء: ﴿۞ قُلۡ كُونُواْ حِجَارَةً أَوۡ حَدِیدًا ﴿٥٠﴾ أَوۡ خَلۡقࣰا مِّمَّا یَكۡبُرُ فِی صُدُورِكُمۡۚ فَسَیَقُولُونَ مَن یُعِیدُنَاۖ قُلِ ٱلَّذِی فَطَرَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةࣲۚ﴾.
سابعًا: ردَّ القرآن أيضًا دعواهم وجودَ آلهة مع الله ﴿قُلِ ٱدۡعُواْ ٱلَّذِینَ زَعَمۡتُم مِّن دُونِهِۦ فَلَا یَمۡلِكُونَ كَشۡفَ ٱلضُّرِّ عَنكُمۡ وَلَا تَحۡوِیلًا﴾.
ثامنًا: وأما طلبهم المُتكرِّر بإنزال المعجزات المادِّيَّة، فقد ردَّه القرآن بقوله: ﴿وَمَا مَنَعَنَاۤ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡـَٔایَـٰتِ إِلَّاۤ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَۚ وَءَاتَیۡنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبۡصِرَةࣰ فَظَلَمُواْ بِهَاۚ وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡـَٔایَـٰتِ إِلَّا تَخۡوِیفࣰا﴾؛ إذ مشكلةُ الحاسد ليست في نوعيَّة الدليل وطريقة الاستدلال، وإنما هي مشكلةٌ ذاتيةٌ نفسيةٌ، وربما لا تزيدها المعجزات القاهرة إلا حسدًا مُضافًا؛ ولذا كانت المعجزة القرآنية تُخاطِبُ العقولَ والنفوسَ والقلوبَ، وتدعو لتغيير الداخل، وليس لإقامة الحُجَّة المجردة.
تاسعًا: يذكُر القرآن أيضًا مسألةً لها صلة بالمعجزات المادية، وهي: إخبارُ النبيِّ لأهل مكة بما حصل له ليلة الإسراء والمعراج، وما رآه من آيات ربه، فكان ذلك فتنةً مُضافةً لهم؛ حيث ازدادُوا عنادًا وتكذيبًا، مع أن النبيَّ أثبَتَ لهم صدقَ دعواه هذه ﴿وَمَا جَعَلۡنَا ٱلرُّءۡیَا ٱلَّتِیۤ أَرَیۡنَـٰكَ إِلَّا فِتۡنَةࣰ لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلۡمَلۡعُونَةَ فِی ٱلۡقُرۡءَانِۚ وَنُخَوِّفُهُمۡ فَمَا یَزِیدُهُمۡ إِلَّا طُغۡیَـٰنࣰا كَبِیرࣰا﴾.
عاشرًا: وفي كلِّ جولةٍ من جولات الحوار يُذكِّر القرآن دائمًا بالعاقبة التي تنتَظِرُ الجميع ﴿وَإِن مِّن قَرۡیَةٍ إِلَّا نَحۡنُ مُهۡلِكُوهَا قَبۡلَ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ أَوۡ مُعَذِّبُوهَا عَذَابࣰا شَدِیدࣰاۚ﴾ هذا بالنسبة للمُعاندين المُكذِّبين، أما الذين يَرجُون رحمةَ الله بصدقٍ، فلهم شأنٌ آخر وعاقبةٌ أخرى ﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ یَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِیلَةَ أَیُّهُمۡ أَقۡرَبُ وَیَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَیَخَافُونَ عَذَابَهُۥۤۚ﴾.
حادي عشر: وفي ثنايا هذه المجادلة يُذكِّرُ القرآن عبادَ الله المؤمنين بأهمية القول الحسن، خاصَّةً وهم يدعُون إلى الله ويُحاوِلُون الإصلاح ﴿وَقُل لِّعِبَادِی یَقُولُواْ ٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ یَنزَغُ بَیۡنَهُمۡۚ إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ كَانَ لِلۡإِنسَـٰنِ عَدُوࣰّا مُّبِینࣰا﴾.


﴿أَفَأَصۡفَىٰكُمۡ رَبُّكُم بِٱلۡبَنِینَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنَـٰثًاۚ﴾ تسفِيهٌ لزعمهم أن الملائكة بنات الله، وبيان لتخبُّطهم وقَولهم في الغيب بلا علمٍ ولا دليلٍ، ونظرتهم الدونيَّة عن الأنثى، ثم نسبة هذا الدُّون إلى الله! وكأنَّهم بهذا يرون حالهم أفضل من حال خالقهم؛ إذ هُمْ لهم الأولاد البنون والبنات، بينما ينسبون له سبحانه البنات خاصَّة! إنه نموذجٌ للانحراف والشَّطَط.
﴿صَرَّفۡنَا﴾ نوَّعنا أساليبَ الخطاب.
﴿إِذࣰا لَّٱبۡتَغَوۡاْ إِلَىٰ ذِی ٱلۡعَرۡشِ سَبِیلࣰا﴾ أي: لو كان مع الله آلهة، لسَلَكَت هذه الآلهة طريقًا لمُنازَعَة الله في مُلكِه، ولظهَرَ هذا في اضطراب نظام الكون.
﴿تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِیهِنَّۚ﴾ تسبيح الفطرة الشاهدة بوحدانية الخالق، وفيه ردٌّ على شناعتهم بنسبة الولد إلى الله.
﴿وَإِن مِّن شَیۡءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ﴾ تأكيدٌ شامل لكل مخلوقات الله، ودفعٌ لتوهُّم أنَّ العقلاء وحدهم هم الذين يسبحونه، والباء للمصاحبة، بمعنى أنهم يُسبِّحون الله مُستصحِبِين حمدَه تعالى.
﴿وَلَـٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِیحَهُمۡۚ﴾ لأنه تسبيح الحال وليس تسبيح المقال، بمعنى أنَّ كلَّ الأشياء دالَّة بوجودها ونظام خلقها على كمال الخالق ووحدانيَّته وتنزيهه عن النقص، لكن المشركين لا يعقِلُون هذه المعاني، ولا يتدبَّرُون هذه الأحوال الملموسة والمحسوسة، ومن ثَمَّ كان التعقيب بـ ﴿إِنَّهُۥ كَانَ حَلِیمًا غَفُورࣰا﴾؛ فالسياقُ يُوحِي بأنَّ الخطاب مُوجَّهٌ للمشركين والغافلين؛ ولذا اقتَضَى الحلم والمغفرة.
﴿حِجَابࣰا مَّسۡتُورࣰا﴾ أي: حجابًا ساترًا بينهم وبين تدبُّر آيات القرآن، وهو حجاب الغرور والتكبُّر، كما كان حجابهم عن تدبُّر آيات الكون حجاب الجهل والغفلة، وكلها من نوع الحجاب المعنوي المتعلِّق بالصفات التكليفية، وليس الحجاب الحسِّي مِن صَمَمٍ ونحوه.
﴿وَجَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً﴾ أغطِيَة تحُولُ بينهم وبين الفهم والتدبُّر، وهو جَعْلٌ بمُقتضى السُّنن الإلهيّة العادلة، وهذا شبيهٌ بقوله تعالى في أوائل البقرة: ﴿خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ﴾ [البقرة: 7] أي: بما كسبوا وظلموا.
﴿وَفِیۤ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرࣰاۚ﴾ وقر التكبُّر الذي يمنعهم من سماع الحقِّ.
﴿إِن تَـتَّـبِعُونَ إِلَّا رَجُلࣰا مَّسۡحُورًا﴾ قولة المشركين بعد أن ضاقوا ذرعًا بهذا القرآن، فلم يجدوا أبرَعَ مِن هذه التهمة لتنفير الناس عنه، وفيه إشارةٌ أيضًا لإعجابهم الخفيِّ بلُغة القرآن وبيانه، وفي الآية أيضًا تنزيهٌ لمقام الرسول الكريم عن السحر.
﴿ٱنظُرۡ كَیۡفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلۡأَمۡثَالَ فَضَلُّواْ فَلَا یَسۡتَطِیعُونَ سَبِیلࣰا﴾، تأكيدٌ لتنزيهه ، وتشنيعٌ شديدٌ على مَن يتجاوز حدودَ الأدب معه، بأبي هو وأمِّي.
﴿وَقَالُوۤاْ أَءِذَا كُنَّا عِظَـٰمࣰا وَرُفَـٰتًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ خَلۡقࣰا جَدِیدࣰا﴾ سؤال استنكاري مليء بالجهل وقلَّة الملاحظة، وقد أكَّدوه وكرَّروه ﴿ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾.
﴿قُلِ ٱلَّذِی فَطَرَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةࣲۚ﴾ جوابٌ على سؤالهم المكرر المملول، ليقيم عليهم الحجة، فمن خلقكم أوَّل مرةٍ مِن العدم، كان أقدَرَ على إعادة خلقكم ولو كنتم ﴿حِجَارَةً أَوۡ حَدِیدًا ﴿٥٠﴾ أَوۡ خَلۡقࣰا مِّمَّا یَكۡبُرُ فِی صُدُورِكُمۡۚ﴾ بمعنى أنكم لن تُعجِزُوه سبحانه في أيِّ صورةٍ أو طَورٍ كنتم.
﴿فَسَیُنۡغِضُونَ إِلَیۡكَ رُءُوسَهُمۡ وَیَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَۖ﴾ يتساءلون مع تحريك رؤوسهم نحوك، كما يفعل المستغرِب أو المستهزِئ.
﴿یَوۡمَ یَدۡعُوكُمۡ فَتَسۡتَجِیبُونَ بِحَمۡدِهِۦ﴾ يناديكم للخروج من قبوركم، والنداء هنا بمعنى: الأمر التكويني الذي لا يملك معه الخلق إلا الاستجابة، وآنذاك يُقِرُّ الجميعُ لله وحده بالحمد؛ لأنه وحده الإله الحقُّ الذي يستحِقُّ الحمدَ والتعظيمَ تبارك وتعالى.
﴿وَقُل لِّعِبَادِی یَقُولُواْ ٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُۚ﴾ بإطلاقٍ، مع كلِّ خلق الله، فهذا الأليَق بعباد الله.
﴿إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ یَنزَغُ بَیۡنَهُمۡۚ﴾ يُثير الفتن والشحناء.
﴿إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ كَانَ لِلۡإِنسَـٰنِ عَدُوࣰّا مُّبِینࣰا﴾ للإنسان بإطلاقٍ أيضًا؛ مؤمنهم وكافرهم، وفيه دعوة لطيفة للمؤمنين أن يُنقذوا إخوانهم في الإنسانية ممن وقع في شباك الشيطان.
﴿إِن یَشَأۡ یَرۡحَمۡكُمۡ أَوۡ إِن یَشَأۡ یُعَذِّبۡكُمۡۚ﴾ مشيئة مرتبطة بأسمائه الحسنى ولا تنفكُّ عنها، فهو الرحيمُ الحكيمُ الملكُ الحقُّ الذي لا يظلم أحدًا مِن خلقه، فلا يُعذِّب إلا مَن استحقَّ العذاب فعلًا، وأما رحمتُهُ فهي الأصلُ الذي سبق غضبه.
﴿وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِمَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۗ﴾ حقيقة كليَّة جاء بها تمهيدًا للرد على اعتراض المشركين على نبوته ، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، والله أعلم بالنبيين أيضًا ودرجاتهم ومَن يصلح منهم لهذا الزمان أو ذاك ﴿وَلَقَدۡ فَضَّلۡنَا بَعۡضَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ عَلَىٰ بَعۡضࣲۖ﴾.
﴿وَءَاتَیۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورࣰا﴾ مثالٌ على التفضيل، وكأنَّه يقول للمشركين: لستم أنتم الذين تختارون الأنبياء على هواكم، ولستم أنتم الذين تعلمون من يصلح منهم لكم أو لغيركم.
﴿فَلَا یَمۡلِكُونَ كَشۡفَ ٱلضُّرِّ عَنكُمۡ وَلَا تَحۡوِیلًا﴾ يتحدَّى القرآن تلك الأوثان المعبودة من دون الله أن تكشف الضُّرَّ عن أصحابها أو تُحوِّلَه عنهم.
﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ﴾ يتضرَّعون إلى الله وهم الأنبياء الذين تقدَّم ذكرهم، والسياق جاء للمقارنة والمقابلة، كأنه يقول للمشركين: هؤلاء الأنبياء هم الذين يدعون فيستجيب الله لهم، بخلاف أصنامكم التي تدعونها فلا تقدر على جوابكم.
﴿یَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِیلَةَ﴾يطلبون كلَّ ما يُقرِّبهم إلى الله.
﴿أَیُّهُمۡ أَقۡرَبُ﴾ إشارة إلى التنافس المحمود في الطاعات.
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحۡذُورࣰا﴾ يحذَرُه المؤمنون؛ لأنهم يعلمون أنه الحقُّ، وفيه تخويفٌ للمشركين وتنبيهٌ.
﴿وَإِن مِّن قَرۡیَةٍ إِلَّا نَحۡنُ مُهۡلِكُوهَا﴾ قرية مشركة وظالمة مثل قريتكم، والخطاب لأهل مكة, وعموم القرية مخصوصٌ بالسياق الظاهر في تمييز المؤمنين عن المشركين، ومخصوصٌ أيضًا بمثل قوله تعالى في موضع آخر: ﴿وَمَا كُنَّا مُهۡلِكِی ٱلۡقُرَىٰۤ إِلَّا وَأَهۡلُهَا ظَـٰلِمُونَ﴾ [القصص: 59].
﴿كَانَ ذَ ٰ⁠لِكَ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مَسۡطُورࣰا﴾ في علم الله الأزلي.
﴿وَمَا مَنَعَنَاۤ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡـَٔایَـٰتِ إِلَّاۤ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَۚ﴾ وما صَرَفَنا عن إنزال المعجزات وخوارق العادات الحسِّيَّة إلا تكذيب الأقوام السابقة بها، فكانت سببًا في هلاكهم، ثم ذكر مثالًا لذلك: ﴿وَءَاتَیۡنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبۡصِرَةࣰ﴾ أي: آية بيِّنة، وفيه إشارة أنَّ القوم الذين بُعث فيهم محمد لن يستأصلهم الله بعذاب؛ لأن رسالته باقية ما بقي الليل والنهار.
﴿وَإِذۡ قُلۡنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِۚ﴾ الناس هنا هم المشركون، والمقصود تطمِينُ النبيِّ وتسليته لما يلقاه منهم من المكر والصدود والإيذاء، كأنه يقول له: لا تبتئس؛ فكلُّ حركاتهم وسكناتهم تحت علمنا وقدرتنا، ولكن لكلِّ أجل كتاب.
﴿وَمَا جَعَلۡنَا ٱلرُّءۡیَا ٱلَّتِیۤ أَرَیۡنَـٰكَ إِلَّا فِتۡنَةࣰ لِّلنَّاسِ﴾ اختبارًا لهم، ولتمييز المؤمن الصادق عن غيره، والأقرَبُ مِن سياق السورة أنها: ما رآه النبيُّ ليلة الإسراء، وهي رؤية حسِّيَّة وليست مناميَّة؛ إذ المنام لا يكون فتنةً.
﴿وَٱلشَّجَرَةَ ٱلۡمَلۡعُونَةَ فِی ٱلۡقُرۡءَانِۚ﴾ معطوفة على الرؤية، بمعنى: أنها فتنة للناس كذلك؛ لأنها من الأخبار الغيبيَّة، فلا يؤمن بها إلا المؤمن الصادق. وقد ورد أنَّ بعض المشركين كان يسأل مُشكِّكًا: كيف لشجرة تبقى في جهنم ولا تأكلها النار؟ وما علِمَ أن بقاءَه حيًّا في النار أغرب من بقاء الشجرة، لكن الآخرة لها نواميسها التي لا تُشبهها نواميس الدنيا.
والشجرة هذه قد ذكرها القرآن في أكثر من موضع؛ منها قوله: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةࣱ تَخۡرُجُ فِیۤ أَصۡلِ ٱلۡجَحِیمِ ﴿٦٤﴾ طَلۡعُهَا كَأَنَّهُۥ رُءُوسُ ٱلشَّیَـٰطِینِ﴾ [الصافات: 64- 65].