المجلس الثاني والعشرون بعد المائة: معركة الإنسان مع الشيطان
من الآية (61- 72)
يُكرِّر القرآن الكريم قصة المعركة الأولى بين الإنسان والشيطان التي دارت قبل نزول آدم على هذه الأرض، وفي كل مرَّة يضيف القرآن صورةً جديدةً، أو بُعدًا آخر للمعركة، ولنقِف مع هذا المقطع مُتدبِّرين ومُتَّعِظين:
أولًا: أمر الله الملائكة - ومعهم إبليس - بالسجود لآدم، فسجد الملائكةُ وأبَى إبليس ﴿وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ﴾ وهذا هو محور القصَّة الذي يتكرَّر معها حيثما ورَدَت.
ثانيًا: تأكيد على تكريم الله لهذا الإنسان وبيان فضله ﴿۞ وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِیۤ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَـٰهُمۡ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَـٰهُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَفَضَّلۡنَـٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِیرࣲ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِیلࣰا﴾، وهو تكريمٌ مُتَّصلٌ بالمسؤولية الكبرى التي يتحمَّلها الإنسان بإدارة هذه الأرض برِّها وبحرِها، وقد زوَّدَه الله بكلِّ ما يلزمه من أدوات ماديَّة ومعنويَّة من رزقٍ متنوع متعدد، وتسخير المخلوقات وتذليلها له.
ثالثًا: كان هذا التكريم سببًا لإيقاد جمرة الحسد الممزوج بالتكبُّر، والتي دفعت إبليس إلى المجاهرة بالتمرُّد على أمر الله ﴿قَالَ ءَأَسۡجُدُ لِمَنۡ خَلَقۡتَ طِینࣰا ﴿٦١﴾ قَالَ أَرَءَیۡتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِی كَرَّمۡتَ عَلَیَّ﴾ الآية.
وفي هذا درسٌ بليغٌ: أنَّ أساس الشر قد لا يكون عن غفلةٍ أو جهلٍ، ولا عن عجزٍ أو كسلٍ، وإنما الحسد الذي يدفع الإنسان دفعًا للهاوية، والتكبُّر الذي يُعمِي القلب والبصر عن حقائق الأمور وعواقبها.
رابعًا: العناد، وهي الصفة الملازمة للحسد والتكبر، والتي تعني: الاستمرار في طريق الغواية ومحاربة الحقِّ وأهله ﴿لَىِٕنۡ أَخَّرۡتَنِ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ لَأَحۡتَنِكَنَّ ذُرِّیَّتَهُۥۤ إِلَّا قَلِیلࣰا﴾، وهذا إعلانٌ رسميٌّ لبداية المعركة المستمرّة بين الإنسان والشيطان.
خامسًا: أدوات الشيطان التي استعملها في معركته هذه مع الإنسان إنما كانت في تحريك غرائز الإنسان في الأموال والأولاد، والوعود الكاذبة، والتزيين الباطل، كما قال في موضع آخر: ﴿قَالَ یَـٰۤـَٔادَمُ هَلۡ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلۡخُلۡدِ وَمُلۡكࣲ لَّا یَبۡلَىٰ﴾ [طه: 120]، لكنه هنا أضافَ صورةً أكثر جلبةً وضجيجًا ﴿وَٱسۡتَفۡزِزۡ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتَ مِنۡهُم بِصَوۡتِكَ وَأَجۡلِبۡ عَلَیۡهِم بِخَیۡلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكۡهُمۡ فِی ٱلۡأَمۡوَ ٰلِ وَٱلۡأَوۡلَـٰدِ وَعِدۡهُمۡۚ وَمَا یَعِدُهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ إِلَّا غُرُورًا﴾.
سادسًا: أنّ هذه المعركة ستقسم الناس على فريقين: الأول هم الناجون الفائزون، وهم الموصولون بالله، والمتوكلون عليه وحده ﴿إِنَّ عِبَادِی لَیۡسَ لَكَ عَلَیۡهِمۡ سُلۡطَـٰنࣱۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِیلࣰا﴾، والثاني هم حزب الشيطان وجنده ﴿قَالَ ٱذۡهَبۡ فَمَن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاۤؤُكُمۡ جَزَاۤءࣰ مَّوۡفُورࣰا﴾.
سابعًا: أنّ عاقبة المعركة ستظهر جليَّة في ذلك اليوم الموعود ﴿یَوۡمَ نَدۡعُواْ كُلَّ أُنَاسِۭ بِإِمَـٰمِهِمۡۖ فَمَنۡ أُوتِیَ كِتَـٰبَهُۥ بِیَمِینِهِۦ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ یَقۡرَءُونَ كِتَـٰبَهُمۡ وَلَا یُظۡلَمُونَ فَتِیلࣰا ﴿٧١﴾ وَمَن كَانَ فِی هَـٰذِهِۦۤ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِی ٱلۡأَخِرَةِ أَعۡمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِیلࣰا﴾.
ثامنًا: وفي ثنايا هذه المعركة تأتي التوجيهات الربّانية والتذكير بالحقائق الكبرى التي تُثبِّت المؤمنين وتحميهم، وتمدّهم بأسباب الصمود والمنعة ﴿رَّبُّكُمُ ٱلَّذِی یُزۡجِی لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ فِی ٱلۡبَحۡرِ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦۤۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِكُمۡ رَحِیمࣰا ﴿٦٦﴾ وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فِی ٱلۡبَحۡرِ ضَلَّ مَن تَدۡعُونَ إِلَّاۤ إِیَّاهُۖ فَلَمَّا نَجَّىٰكُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ أَعۡرَضۡتُمۡۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَـٰنُ كَفُورًا ﴿٦٧﴾ أَفَأَمِنتُمۡ أَن یَخۡسِفَ بِكُمۡ جَانِبَ ٱلۡبَرِّ أَوۡ یُرۡسِلَ عَلَیۡكُمۡ حَاصِبࣰا ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمۡ وَكِیلًا ﴿٦٨﴾ أَمۡ أَمِنتُمۡ أَن یُعِیدَكُمۡ فِیهِ تَارَةً أُخۡرَىٰ فَیُرۡسِلَ عَلَیۡكُمۡ قَاصِفࣰا مِّنَ ٱلرِّیحِ فَیُغۡرِقَكُم بِمَا كَفَرۡتُمۡ ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمۡ عَلَیۡنَا بِهِۦ تَبِیعࣰا﴾.
فإذا كان الله وحده هو من يفعل ذلك - وهو القادر سبحانه على كل شيء -، ففي أي طريق يَتِيهُ أولئك الناس الذين يبتَغُون سعادتَهم في خطوات الشيطان؟!
﴿ءَأَسۡجُدُ لِمَنۡ خَلَقۡتَ طِینࣰا﴾ أي: خلقتَه من طِين، والطين طورٌ من أطوار خلق آدم عليه السلام، والسؤال فيه معنى التهكُّم بآدم والسخرية منه تكبُّرًا وغرورًا. ﴿لَأَحۡتَنِكَنَّ ذُرِّیَّتَهُۥۤ إِلَّا قَلِیلࣰا﴾ تهديدٌ وَقِحٌ باستئصال ذرية آدم، وحملهم على معصية الله الواحد الأحد سبحانه. ﴿جَزَاۤءࣰ مَّوۡفُورࣰا كافيًا لكم ولمن تبعكم. ﴿وَٱسۡتَفۡزِزۡ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتَ مِنۡهُم بِصَوۡتِكَ﴾ استخِفَّ واستزِلَّ من تقدر عليهم بوسوستك، وسمى الوسوسة هنا صوتًا؛ تشبيهًا له بقائد الجيش الذي يُصدِرُ أوامرَه بقوَّة، والتشبيهُ هنا مُناسِبٌ للسياق والصورة الكليَّة للمشهَد. ﴿وَأَجۡلِبۡ عَلَیۡهِم بِخَیۡلِكَ وَرَجِلِكَ﴾ اجمع عليهم كلَّ راكبٍ وكلَّ مَاشٍ من جُندك وأتباعك، وفيه تأكيدٌ لمشهد المعركة. ﴿وَشَارِكۡهُمۡ فِی ٱلۡأَمۡوَ ٰلِ وَٱلۡأَوۡلَـٰدِ﴾ تقريرٌ لمداخل الشيطان الكبيرة التي ينفُذُ مِن خلالها لإفساد الحياة، المال كسبًا واحتكارًا، وتبذيرًا وإنفاقًا له في وجوه الباطل والعُدوان والمآثم المختلفة، والأولاد بتنشئتهم على الضلال والرذيلة والمنكر، وقد تبدأ هذه التنشئة الفاسدة بالعلاقات الجنسية المحرَّمة، واختيار الزوجة التي لا تتحمَّل مسؤولية بيتها وأولادها، وهكذا. ﴿وَعِدۡهُمۡۚ﴾ اخدَعهم بالوعود الباطلة من التمكين في الدنيا والتكذيب بالآخرة. ﴿إِنَّ عِبَادِی لَیۡسَ لَكَ عَلَیۡهِمۡ سُلۡطَـٰنࣱۚ﴾ ليس لك قوَّة على إغوائهم، وهم الموصولون بي ذِكرًا ومعرفةً وعبادةً. ﴿یُزۡجِی﴾ يسُوق. ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فِی ٱلۡبَحۡرِ﴾ الخوف من التِّيه والغَرَق. ﴿وَكَانَ ٱلۡإِنسَـٰنُ كَفُورًا﴾ للنِّعمة ناسيًا لها، غافلًا عن شُكرها، وهذا ظاهرٌ في طَبعِ الإنسان وسجيَّته العامة، وليس على سبيل الاستغراق لكلِّ فردٍ فيه. ﴿حَاصِبࣰا﴾ ريحًا عاصفةً ترمِيكم بالحصباء، وهي الحصى. ﴿قَاصِفࣰا مِّنَ ٱلرِّیحِ﴾ ريحًا تقصِف سُفُنَكم وتقلبها في البحر. ﴿تَبِیعࣰا﴾ من يُناصركم ويثأر لكم. ﴿وَحَمَلۡنَـٰهُمۡ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ﴾ ذلَّلنا لهم البَرَّ والبحرَ. ﴿وَفَضَّلۡنَـٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِیرࣲ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِیلࣰا﴾ تفضيلًا تقتضيه وظيفتهم على هذه الأرض، وهي: الاستخلاف وإدارة الأرض بحُكم الله وشرعه. ﴿یَوۡمَ نَدۡعُواْ كُلَّ أُنَاسِۭ بِإِمَـٰمِهِمۡۖ﴾ هو يوم يقومُ الناس للحساب، ويكون التمايُز بالأعمال المدوَّنة في كتاب كلِّ واحدٍ منهم، فيتميَّز هناك أتباع الأنبياء عن أتباع الشياطين. ﴿فَتِیلࣰا﴾ الشيء التافِه، وأصله القشر المفتُول في شقِّ النواة. ﴿وَمَن كَانَ فِی هَـٰذِهِۦۤ أَعۡمَىٰ﴾ عن الحقِّ، والمجاز ظاهر فيه ﴿فَهُوَ فِی ٱلۡأَخِرَةِ أَعۡمَىٰ﴾ عن الجنة وكلِّ خيرٍ فيها، وهو مجازٌ ظاهرٌ كذلك.