سورة الكهف تفسير مجالس النور الآية 107

إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ كَانَتۡ لَهُمۡ جَنَّـٰتُ ٱلۡفِرۡدَوۡسِ نُزُلًا ﴿١٠٧﴾

تفسير مجالس النور سورة الكهف

المجلس التاسع والعشرون بعد المائة: وقفات ختامية


من الآية (99- 110)


في ختام هذا التجوال التاريخي في صفحات فريدة من سفر هذا الإنسان وحركته على هذه الأرض، بدءًا من قِصَّةِ أصحاب الكهف وأحداثها المثيرة، ثم مع الرجلَين المتحاورَين بشأن جنَّة الدنيا وجنَّة الآخرة، ثم قصَّة موسى وفتاه مع الرجل الصالح، وأخيرًا ذو القرنَين وبناؤه للسد العجيب لصدِّ يأجوج ومأجوج، بعد كل هذا يعود القرآن مُذكِّرًا بالحقائق الكبرى التي هي أكبر من كلِّ هذه الأرض، وأوسع من كلِّ ذلك التاريخ، فلنتدبَّر:
أولًا: أن هذه الحياة كلها ستتوقف وستنتهي بحلوها ومرها، وصالحها وطالحها؛ لتبدأ حياة أخرى بنظامٍ جديدٍ، وعمرٍ خالدٍ مديدٍ ﴿۞ وَتَرَكۡنَا بَعۡضَهُمۡ یَوۡمَىِٕذࣲ یَمُوجُ فِی بَعۡضࣲۖ وَنُفِخَ فِی ٱلصُّورِ فَجَمَعۡنَـٰهُمۡ جَمۡعࣰا﴾.
ثانيًا: أنّ التمايُز هناك سيكون على أساس العمل الذي قدَّمه الناس في هذه الحياة ﴿وَعَرَضۡنَا جَهَنَّمَ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡكَـٰفِرِینَ عَرۡضًا ﴿١٠٠﴾ ٱلَّذِینَ كَانَتۡ أَعۡیُنُهُمۡ فِی غِطَاۤءٍ عَن ذِكۡرِی وَكَانُواْ لَا یَسۡتَطِیعُونَ سَمۡعًا﴾، ﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَاۤىِٕهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَلَا نُقِیمُ لَهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَزۡنࣰا ﴿١٠٥﴾ ذَ ٰ⁠لِكَ جَزَاۤؤُهُمۡ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَایَـٰتِی وَرُسُلِی هُزُوًا﴾.
إن هؤلاء الأشقياء قد عطَّلُوا منافذ المعرفة في نفوسهم، فكانت أعينهم في غطاءٍ، وآذانهم في صَممٍ، وكانوا غارقين في السخرية والاستهزاء بعباد الله، أمَّا عباد الله هؤلاء الذين آمنوا بالله ورسله، واستشعروا عِظَم المسؤولية وجديَّة الأمر، فلهم - بلا شكٍّ - وضعٌ آخر ﴿ذَ ٰ⁠لِكَ جَزَاۤؤُهُمۡ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَایَـٰتِی وَرُسُلِی هُزُوًا ﴿١٠٧﴾ خَـٰلِدِینَ فِیهَا لَا یَبۡغُونَ عَنۡهَا حِوَلࣰا﴾.
ثالثًا: نبَّه القرآن في هذه السورة بالذات على سببٍ رئيسٍ من أسباب الضلال يخصُّ الصادقين في تديُّنهم أكثر من الكاذبين، والجادِّين أكثر من العابِثِين، إنها صورة الإنسان المتشبِّث بعقيدته الموروثة - مهما كانت - تشبُّث المتعصِّب المُنغَلِق الذي لا يرى الحقَّ إلا فيها، ولا يرى النجاةَ إلا معها، لكنها عقيدةٌ غير مفحُوصة، ولا قائمة على دليلٍ أو تفكُّرٍ أو تدبُّرٍ ﴿قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِینَ أَعۡمَـٰلًا ﴿١٠٣﴾ ٱلَّذِینَ ضَلَّ سَعۡیُهُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ یَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ یُحۡسِنُونَ صُنۡعًا﴾.
هؤلاء المساكين عادةً ما يكونون جنودًا أوفياء ومخلصين لقادتهم وآلهتهم المزيَّفة، إنهم يقدِّمون أرواحهم وأموالهم في الطريق الخطأ، ولديهم القدرة على معاداة العالمين من أجل فكرة عبثيَّة، أو بدعة مشوهة لا تستقيم على أصلٍ، ولا تؤدِّي إلى غاية.
رابعًا: أنَّ عِلم الله أوسَع من أن تُحيط به الكلمات، أو تستوعِبُه الأرض بمَن عليها وما عليها ﴿قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادࣰا لِّكَلِمَـٰتِ رَبِّی لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبِّی وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدࣰا﴾ في إشارةٍ إلى أن ما ورد في هذه السورة من أخبار غيبيَّة إنّما هو من علم الله الذي لا يقصُر عن شيء، ولا يغيب عنه شيء.
خامسًا: التفريق بين علم الله الشامل والكامل، وبين العوارض البشريَّة التي تصيب الأنبياء عليهم السلام، وقد اقتَضَى هذا تعريف النبي تعريفًا دقيقًا بالسور الجامع المانع ﴿قُلۡ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ بَشَرࣱ مِّثۡلُكُمۡ یُوحَىٰۤ إِلَیَّ﴾.
فالنبيُّ هو إنسانٌ من حيث صفاته البشريَّة وعوارضه واحتياجاته، وإنما يتميَّز بالوحي، ومن ثَمَّ كان لا بُدَّ من التفريق بين الجانبَين في شخصيَّة النبيِّ، والضابط في هذا أن كلَّ قول أو فعل أو تقرير منه متصلٌ بوظيفته في تبليغ الوحي، فهذا الحقُّ المطلق، وهو محل التأسِّي الواجب؛ لأنَّه الوحي المُنبَثِق من علمِ الله وحكمته ورحمته تبارك وتعالى، وما عدا ذلك مما لا يتَّصِلُ بالوحي، ولا يشعر بطلب القُربَى والثواب من الله مثل: الأكل، والشرب، والنوم، واللبس، والركوب، والسُّكنَى، والمرض، والتعب، والنسيان، والفرح، والغضب، والبيع، والشراء .. إلخ مما لم ترِد معه قرينةُ الوحي، فهو مِن الصفات البشريَّة التي لا تدخل في مسمَّى الدين إلا من حيث إفادتها للإباحة؛ لأن النبيَّ لا يرتكِب المحرَّم، والله أعلم.
وقد جاء ذِكرُ هذا التعريف مُناسبًا لسورة الكهف وما فيها من أخبارٍ فريدةٍ جاء بها الوحي؛ لتأكيد ثبوتها أولًا، ولتمييزها ثانيًا عن العوارض البشريَّة للأنبياء؛ كالنسيان الذي أثبَتَه الله لموسى وفتاه ﴿نَسِیَا حُوتَهُمَا﴾، وأشار به إلى نبيِّنا محمد عليهم السلام ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْیۡءٍ إِنِّی فَاعِلࣱ ذَ ٰ⁠لِكَ غَدًا ﴿٢٣﴾ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِیتَ﴾، والله أعلم.
سادسًا: رسم طريق النجاة بكلمات موجزة ومباشرة ولا تحتمل اللَّبسَ أو الغموضَ ﴿فَمَن كَانَ یَرۡجُواْ لِقَاۤءَ رَبِّهِۦ فَلۡیَعۡمَلۡ عَمَلࣰا صَـٰلِحࣰا وَلَا یُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦۤ أَحَدَۢا﴾، إنه الإيمان بالله وحده، والالتزام العملي بمُقتَضَيات هذا الإيمان كما جاء في سورة العصر: ﴿وَٱلۡعَصۡرِ ﴿١﴾ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَفِی خُسۡرٍ ﴿٢﴾ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَفِی خُسۡرٍ﴾ [العصر].


﴿۞ وَتَرَكۡنَا بَعۡضَهُمۡ یَوۡمَىِٕذࣲ یَمُوجُ فِی بَعۡضࣲۖ﴾ أي: قبل يوم القيامة؛ حيث يختلط يأجوج ومأجوج بعامة الناس، ويكثر الجهل والهرج والمرج، وتغشى الفتن، ويضطرب النظام.
﴿وَنُفِخَ فِی ٱلصُّورِ فَجَمَعۡنَـٰهُمۡ جَمۡعࣰا﴾ ذاك يوم البعث؛ حيث يُجمع الناس إلى خالقهم سبحانه.
﴿وَعَرَضۡنَا جَهَنَّمَ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡكَـٰفِرِینَ عَرۡضًا﴾ أي: أظهرناها لهم عيانًا بعد البعث، وقبل أن يحكُم الله عليهم بدخولها.
﴿وَكَانُواْ لَا یَسۡتَطِیعُونَ سَمۡعًا﴾ لا عن عاهَةٍ، بل عن عنادٍ وتكبُّرٍ؛ ولذلك استوجَبُوا العقاب.
﴿أَفَحَسِبَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤاْ أَن یَتَّخِذُواْ عِبَادِی مِن دُونِیۤ أَوۡلِیَاۤءَۚ﴾ في إشارةٍ إلى أن اتخاذ النِّدِّ مع الله هو كفرٌ ولو كان النِّدُّ عبدًا من عباد الله، كما هو شأنُ النصارى مع سيدنا عيسى عليه السلام، وقوله: ﴿مِن دُونِیۤ﴾ أي: من دون إذني، سواء أكانوا يعبدونه مع الله أم من دون الله.
﴿بِٱلۡأَخۡسَرِینَ أَعۡمَـٰلًا﴾ أكثرهم خسارة، وهم الذين يعملون ويجتهدون في عملهم، لكن بعقيدةٍ فاسدةٍ، ولغايةٍ منحرفةٍ.
﴿لَا یَبۡغُونَ عَنۡهَا حِوَلࣰا﴾ لا يطلبون عنها تحويلًا.
﴿لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ﴾ لانتهى ماؤه.
﴿كَلِمَـٰتُ رَبِّی﴾ علمه سبحانه الشامل، وما يتَّصِل به من إخبار بالغيب، وتشريع للحياة.
﴿قُلۡ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ بَشَرࣱ مِّثۡلُكُمۡ﴾ من حيث الخِلقة والحاجة الجسدية، والتعرُّض للطوارئ؛ كالنوم، والسهو، والنسيان بما لا يخدِشُ مقام العصمة.
أما تميُّزه - بأبي هو وأمِّي - عن سائر البشر بما خصَّه الله به - إضافةً إلى الوحي، ومقام النبوة، والرسالة الخاتمة - من حكمةٍ بالغةٍ، وخُلقٍ عظيم، وحِلمٍ كريم، فهذا لا يُنكِرُه إلا جاهلٌ أو حاسدٌ.