سورة الكهف تفسير مجالس النور الآية 12

ثُمَّ بَعَثۡنَـٰهُمۡ لِنَعۡلَمَ أَیُّ ٱلۡحِزۡبَیۡنِ أَحۡصَىٰ لِمَا لَبِثُوۤاْ أَمَدࣰا ﴿١٢﴾

تفسير مجالس النور سورة الكهف

المجلس الرابع والعشرون بعد المائة: أصحاب الكهف


من الآية (1- 28)


بدأت سورة الكهف بالتذكير بالأُسُس الإيمانيّة والدعويّة التي تُمثِّل المدخل المأمون لقراءة القصص الجديدة والفريدة التي تميَّزت بها هذه السورة، ومن هذه الأسس:
أولًا: تأكيد موثوقيَّة القرآن في كلّ أخباره وأحكامه ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَـٰبَ وَلَمۡ یَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ﴾.
ثانيًا: تأكيد رسالة القرآن، وأنه كتاب نِذارة وبِشارة ﴿قَیِّمࣰا لِّیُنذِرَ بَأۡسࣰا شَدِیدࣰا مِّن لَّدُنۡهُ وَیُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱلَّذِینَ یَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنࣰا ﴿٢﴾ مَّـٰكِثِینَ فِیهِ أَبَدࣰا ﴿٣﴾ وَیُنذِرَ ٱلَّذِینَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدࣰا﴾.
ثالثًا: نفي الموثوقيَّة عن كلّ مصدرٍ يُناقِضُ أصلَ التوحيد والفطرة والعقل السليم ﴿مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمࣲ وَلَا لِـَٔابَاۤىِٕهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةࣰ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَ ٰ⁠هِهِمۡۚ إِن یَقُولُونَ إِلَّا كَذِبࣰا﴾.
رابعًا: إنَّ فلسفة الخلق الكبرى إنما تقوم على الاختبار، وتمييز المصلح عن المفسد، وأهل الحقّ عن أهل الباطل ﴿إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِینَةࣰ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَیُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰا﴾.
خامسًا: إن مهمة الداعي أن يدعو الناس كلَّ الناس لهذا الهدي المستقيم، ثم يكِل الأمور إلى الله مهما أصرَّ أهل الباطل على باطلهم ﴿فَلَعَلَّكَ بَـٰخِعࣱ نَّفۡسَكَ عَلَىٰۤ ءَاثَـٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ یُؤۡمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلۡحَدِیثِ أَسَفًا﴾.
سادسًا: إنّ حياة الناس لها أمدٌ محدودٌ، وأجلٌ موقوتٌ، ثم يُفضِي كلُّ عاملٍ إلى ما عمل ﴿وَإِنَّا لَجَـٰعِلُونَ مَا عَلَیۡهَا صَعِیدࣰا جُرُزًا﴾.
بعد هذه المقدّمات يدخل القرآن في القصَّة الأولى، وهي قصَّة أصحاب الكهف، ويمكن تحديد عناصرها في الآتي:
أولًا: يلخِّصُ القرآن هويَّة أصحاب الكهف بقوله: ﴿نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَیۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّ ۚ إِنَّهُمۡ فِتۡیَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَـٰهُمۡ هُدࣰى﴾.
ثانيًا: إنهم كانوا في قومٍ مشركين ﴿هَـٰۤـؤُلَاۤءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦۤ ءَالِهَةࣰۖ لَّوۡلَا یَأۡتُونَ عَلَیۡهِم بِسُلۡطَـٰنِۭ بَیِّنࣲۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبࣰا﴾.
ثالثًا: إنهم كانوا يخشَون سطوة قومهم وأن يُكرِهوهم على الردَّة وعبادة الأوثان ﴿إِنَّهُمۡ إِن یَظۡهَرُواْ عَلَیۡكُمۡ یَرۡجُمُوكُمۡ أَوۡ یُعِیدُوكُمۡ فِی مِلَّتِهِمۡ وَلَن تُفۡلِحُوۤاْ إِذًا أَبَدࣰا﴾.
رابعًا: ولذلك قرَّروا اعتزال قومهم والبُعد عنهم ﴿وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا یَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥۤاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ یَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَیُهَیِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقࣰا﴾.
خامسًا: أجرَى الله عليهم آياته؛ حيث مكثوا في كهفهم رقودًا زمنًا لا يستطيعه حيٌّ في العادة ﴿وَلَبِثُواْ فِی كَهۡفِهِمۡ ثَلَـٰثَ مِاْئَةࣲ سِنِینَ وَٱزۡدَادُواْ تِسۡعࣰا﴾.
سادسًا: أنهم كانوا في كهفهم بحالٍ مختلفٍ عما اعتاده الناس في نومهم ويقظتهم ﴿وَتَحۡسَبُهُمۡ أَیۡقَاظࣰا وَهُمۡ رُقُودࣱۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡیَمِینِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَـٰسِطࣱ ذِرَاعَیۡهِ بِٱلۡوَصِیدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَیۡهِمۡ لَوَلَّیۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارࣰا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبࣰا﴾.
سابعًا: ثم إن الله بعَثَهم ليكونوا آيةً على إرادة الله المطلقة، وقدرته الظاهرة على البعث والنشور ﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَیۡهِمۡ لِیَعۡلَمُوۤاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَیۡبَ فِیهَاۤ﴾.
ثامنًا: إنّهم ظنُّوا أنّهم لم يلبثوا في رقادهم كلَّ هذا الزمن الذي تعاقبت فيه الأجيال ﴿قَالَ قَاۤىِٕلࣱ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا یَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ یَوۡمࣲۚ﴾؛ ولذلك كانوا خائفين حذرين ﴿فَٱبۡعَثُوۤاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَـٰذِهِۦۤ إِلَى ٱلۡمَدِینَةِ فَلۡیَنظُرۡ أَیُّهَاۤ أَزۡكَىٰ طَعَامࣰا فَلۡیَأۡتِكُم بِرِزۡقࣲ مِّنۡهُ وَلۡیَتَلَطَّفۡ وَلَا یُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا﴾.
تاسعًا: يتَّضِح أن قومهم بعد مرور هذه الأجيال قد تغيَّروا من الكفر إلى الإيمان، وقد جاء هذا في إشارةٍ قرآنيَّةٍ سريعةٍ: ﴿قَالَ ٱلَّذِینَ غَلَبُواْ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَیۡهِم مَّسۡجِدࣰا﴾؛ إذ لا يمكن أن يفكِّر ببناء المسجد إلا المؤمنون، والراجِحُ أنه مثل قوله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمَ مُصَلࣰّىۖ﴾ [البقرة:125]، وليس هنا محل بسط الخلاف في هذه المسألة.
عاشرًا: أعرض القرآن وفق منهجيَّته العمليَّة الهادفة عن كلِّ مِراءٍ وجدالٍ حول بعض التفاصيل التي لا تنفع العامل المتدبِّر ﴿قُل رَّبِّیۤ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا یَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِیلࣱۗ فَلَا تُمَارِ فِیهِمۡ إِلَّا مِرَاۤءࣰ ظَـٰهِرࣰا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِیهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدࣰا﴾.
حادي عشر: ختم الله هذه القصَّة بالوصيَّة العمليَّة المستنبطة من روح القصَّة وغاياتها: ﴿وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِیِّ یُرِیدُونَ وَجْهَهُۥ ۖ وَلَا تَعۡدُ عَیۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِیدُ زِینَةَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطࣰا﴾ فكما كان فتية الكهف عصبة واحدة على قلبٍ واحدٍ صابرين محتسبين - وإنْ وقف بوجههم الباطل كلّه -، فكذاك الواجب على أهل الإيمان في كلِّ مكانٍ وزمانٍ، مهما اختلَفَت أنسابهم وأحسابهم ومستوياتهم.


﴿وَلَمۡ یَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ﴾ العِوَج ضد الاستقامة.
﴿قَیِّمࣰا﴾ من الفعل قَوَمَ، وأصله الاعتدال والاستقامة، والقيام على الشيء بمعنى: رعايته والمحافظة عليه، ومنه القيمة بمعنى: المعيار الذي تُقاس به الأشياء، وكلُّ هذه المعاني مِن خصائص القرآن الكريم.
﴿لِّیُنذِرَ بَأۡسࣰا شَدِیدࣰا مِّن لَّدُنۡهُ﴾ يُنذِر الكافرين العذاب الشديد الذي ينتظرهم من الله.
﴿فَلَعَلَّكَ بَـٰخِعࣱ نَّفۡسَكَ عَلَىٰۤ ءَاثَـٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ یُؤۡمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلۡحَدِیثِ أَسَفًا﴾ صورة لما كان يملأ قلبَ رسول الله من الحزن على قومه؛ حيث يتولَّون عنه بعد سماعهم الذكر وهم مُصِرُّون على كفرهم وضلالهم، وباخِعٌ نفسك: مُهلكها، عبارة عن شدة الحزن.
﴿وَإِنَّا لَجَـٰعِلُونَ مَا عَلَیۡهَا صَعِیدࣰا جُرُزًا﴾ ذاك يوم الساعة؛ حيث تتحول الأرض إلى خراب وتراب قاحل لا يمسك ماءً، ولا ينبت زرعًا.
﴿أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَـٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِیمِ كَانُواْ مِنۡ ءَایَـٰتِنَا عَجَبًا﴾ أي: هل ظننتَ أنّ ما جرى لأصحاب الكهف من الخوارق كان شيئًا عجيبًا في آيات الله؟ فآيات الله أكبر وأوسع من هذه القصة.
والتنبيه هنا على قدرة الله ومشيئته المطلقة سبحانه، خاصَّةً أن سورة الكهف قد ضمَّت من الآيات الباهرات في كلِّ قصةٍ من قصصها، أو مشهدٍ من مشاهدها.
﴿وَٱلرَّقِیمِ﴾ بمعنى: المرقوم، وهو الشيء الذي يُدوَّن عليه، ولعله لوح من صخر أو نحوه دوَّن عليه الناسُ أسماءَ أصحاب الكهف لما عثَرُوا عليهم، ولا يبعُد أيضًا أن يكون الرَّقِيم الجبل الذي كان فيه الكهف؛ إذ الرَّقِيم أيضًا: المكان المرتفع والبارز للدلالة، والله أعلم.
ثم إنَّ الناس قد اختلفوا في مكان الكهف والرَّقِيم على أقوالٍ كثيرة، والباب مفتوح للتنقيب والبحث العلمي، وليس في ذلك حرج، لكن تحديد المكان مهما كان لا تنبَنِي عليه مسألة دينية.
﴿إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡیَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ﴾ تنبيهٌ إلى دور الشباب في الخروج عن خيمة التقليد الفاسد، وقدرتهم على تحمل أعباء هذا الخروج.
﴿فَضَرَبۡنَا عَلَىٰۤ ءَاذَانِهِمۡ﴾ كناية عن النوم العميق؛ لأن الأذن السليمة لا يحجبها عن سماع الأصوات إلا النوم.
﴿لِنَعۡلَمَ أَیُّ ٱلۡحِزۡبَیۡنِ﴾ الفريقين، والظاهر أنّهما من أهل القرية الذين عثروا على أصحاب الكهف، واختلاف الناس في مثل هذا معروف ومعهود.
﴿أَحۡصَىٰ لِمَا لَبِثُوۤاْ﴾ مِن الإحصاء، وهو العَدُّ، والمقصود القول الأصوَب في تقدير المدة التي لبثوها.
﴿وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ﴾ ثبَّتناهم وصبَّرناهم، وهذا من جزاء الحسنة بالحسنة.
﴿إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦۤ إِلَـٰهࣰاۖ﴾ الأقرب أن القيام هنا معناه: القيام بالأمر، وتحمُّل المسؤوليَّة بغض النظر إن كانوا قد قالوا ذلك قيامًا أو جلوسًا، فالمدح في الثبات على الحقِّ وإعلانه ومواجهة الباطل به.
﴿شَطَطًا﴾ القول البعيد عن الصواب، وأصل الشَّطَط: البُعد.
﴿لَّوۡلَا یَأۡتُونَ عَلَیۡهِم بِسُلۡطَـٰنِۭ بَیِّنࣲۖ﴾ يُؤنِّبون قومهم ويلومونهم أنَّهم عبَدُوا آلهةً أخرى من دون الله بلا حجّة بيّنة ولا دليل.
﴿فَأۡوُۥۤاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ﴾ عرَّف الكهف بالألف واللام، وكأنه كان معهودًا فيما بينهم، ولربما كانوا بالفعل قد وضعوه في حسبانهم واختاروه مكانًا للاختباء عند الحاجة.
﴿یَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ﴾ يبسط رحمته عليكم.
﴿۞ وَتَرَى ٱلشَّمۡسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَ ٰ⁠وَرُ عَن كَهۡفِهِمۡ ذَاتَ ٱلۡیَمِینِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقۡرِضُهُمۡ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمۡ فِی فَجۡوَةࣲ مِّنۡهُۚ﴾ وصف لحالهم أثناء رقودهم في الكهف، فهم في المكان الأوسع أو الأوسط من الكهف، وليسوا في طرفٍ أو زاويةٍ منه، وكان مدخل كهفهم نحو الشمال؛ بحيث تدخل أشعة الشمس عند شروقها في جهته اليسرى فقط، ويبقى الظل في الجهة اليمنى، فإذا مالت نحو الغروب تحوَّل الظل إلى جهته اليسرى، وعلى هذا يكون الكهف في حالة اعتدال طيلة النهار، ويبقى للشمس مكان في زوايا الكهف من شروقها إلى غروبها، ومعنى تزاوَر: تميل، ومعنى تقرضهم: تتركهم، والله أعلم.
﴿وَتَحۡسَبُهُمۡ أَیۡقَاظࣰا وَهُمۡ رُقُودࣱۚ﴾ مَن يراهم يظنُّهم أيقاظًا، ربما بفتح عيونهم، أو بحركة أجسادهم؛ لأنه قال عقب هذا: ﴿وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡیَمِینِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ﴾، وربما يكون كلّ هذا من الأسباب التي لا نعرفها، لكن الله جعلها وسيلةً لحفظ هذه الأجساد من البِلَى، وهو سبحانه الأعلم والأحكم.
﴿وَكَلۡبُهُم بَـٰسِطࣱ ذِرَاعَیۡهِ بِٱلۡوَصِیدِۚ﴾ والوصيد مدخل الكهف، وهنا تكتمل الصورة الدقيقة للكهف ومن بداخله وحركة الشمس من حوله.
﴿فَٱبۡعَثُوۤاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ﴾ بنقودكم، والظاهر أنّها من الفضَّة.
﴿فَلۡیَنظُرۡ أَیُّهَاۤ أَزۡكَىٰ طَعَامࣰا﴾ أطيبُ وأطهرُ وأبعدُ عن الشبهة.
﴿وَلۡیَتَلَطَّفۡ﴾ في ذهابه وإيابه ومعاملته في السوق.
﴿وَلَا یُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا﴾ لا يجعل أحدًا من أهل القرية يشعر بكم وبمكانكم، وفيه تأكيد وجوب الحيطة والحذر، والأخذ بكل الأسباب المتيسِّرة؛ فإن احترام الأسباب التي وضعها الله في هذا الكون لا يقِلُّ أهميةً عن احتِرام أمره ونهيه وتطبيق شريعته سبحانه.
﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَیۡهِمۡ﴾ أي: جعلنا الناس يعثرون عليهم.
﴿إِذۡ یَتَنَـٰزَعُونَ بَیۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَیۡهِم بُنۡیَـٰنࣰاۖ﴾ ليحفظ هذه القصَّة، ويكون شاهدًا للأجيال، فردَّ آخرون وهم أصحاب الغلبة والسلطة: ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَیۡهِم مَّسۡجِدࣰا﴾.
والمسجد مكان للعبادة، وهو بُنيان أيضًا، ويؤدِّي غرضَ البُنيان مع إضافةِ معنى الإيمان والشكر، والأصل في المسجد أنه مكان لعبادة الله وحده، ويبعُد أن يكون هذا بقصد عبادتهم؛ إذ لو كان كذلك لأنكره القرآن لمحلِّ الإيهام، وتأخير البيان عن وقت حاجته ليس في حكمته ورحمته بخلقه سبحانه، كما أنَّ الآية ليست صريحةً في أنَّ البناء كان على أجسامهم أو أجداثهم، والله أعلم.
﴿سَیَقُولُونَ ثَلَـٰثَةࣱ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَیَقُولُونَ خَمۡسَةࣱ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَیۡبِۖ﴾ هكذا عقَّب القرآن على هذَين القولين إشارة إلى بطلانهما، ثم قال: ﴿وَیَقُولُونَ سَبۡعَةࣱ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّیۤ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا یَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِیلࣱۗ﴾ إشارة إلى أن هذا القول هو الأصوب، والله أعلم.
﴿فَلَا تُمَارِ فِیهِمۡ إِلَّا مِرَاۤءࣰ ظَـٰهِرࣰا﴾ إلا بقَدر أخذ العبرة الظاهرة دون تعمُّق في الأسماء والأعداد التي لا تؤثِّر في العبرة، ولا تزيد فيها ولا تنقص، ثم أكَّد هذا بقوله: ﴿وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِیهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدࣰا﴾، فما جاء في القرآن يكفيك عن السؤال.
﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْیۡءٍ إِنِّی فَاعِلࣱ ذَ ٰ⁠لِكَ غَدًا﴾ ذَكَر الغد، والمقصود كلّ ما يستقبل من الأوقات ﴿إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُۚ﴾ تأديبٌ لعباد الله في شخص النبيِّ القدوة - بأبي هو وأمِّي- أنّهم يحتاطون فيما يعزمون عليه بذكر مشيئة الله؛ لأنه وحده الذي يعلم الغيب، ويعلم قابل الأيام والساعات.
﴿وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِیتَ﴾ أي: إذا نسيت قول: (إِن شَاءَ الله) عند العزم على أمرٍ مستقبلي، فقُلْها متى تذكَّرتَ.
﴿وَلَبِثُواْ فِی كَهۡفِهِمۡ ثَلَـٰثَ مِاْئَةࣲ سِنِینَ وَٱزۡدَادُواْ تِسۡعࣰا﴾ الظاهر من الآية أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة، ثم مدَّ الله في عمرهم تسع سنين أخرى، فهذا معنى الزيادة الأظهر والأبسط، لكننا بحاجة لإثبات أنّهم عاشوا كلَّ هذه السنوات التسع بعد صحوتهم، وهذا الإشكال حتى إنْ لم نجد له جوابًا، فهو لا ينهض لوحده قرينةً على صرف الزيادة عن معناها الظاهر.
ولا يبعُد أن يكون المقصود: أنهم لبثوا في كهفهم تسع سنين وثلاثمائة، وإنّما سمَّاها زيادةً، على عادة العرب في قولهم مثلًا: أعطيتُه ألفًا وفوقها مائة، أي: أني لم أكتَفِ بالألف، بل زِدته عليها.
ولما كانت الثلاثمائة كثيرة فيما اعتادَه الخلق، اكتفى بذكرها القرآن أولًا، ثم عقَّب بإضافة الزيادة؛ ليكتمل العدد الصحيح الذي لا يعلمه إلا الله.
أما القول بأن التسع قُصِدَ بها الفارق بين السنين القمرية والشمسية، فهذا من حيث الحساب الفلكي صحيح ودقيق، لكنه يشكل من حيث تسميته زيادة؛ إذ الفارق بين التوقيتَين لا يحمل زيادة، ويشكل من ناحية أخرى: أن العرب الذين نزل القرآن بلُغَتهم لم يكن لهم عِلم بهذا الفارق في الحساب، فكيف فهِمُوا هذه الآية؟
نعم، لا بأس أن يقال: إنهم لبثوا في الحساب القمري تسع سنين وثلاثمائة، وأنه ظهر بالمقارنة أنه يساوي ثلاثمائة فقط من الحساب الشمسي، لا أن القرآن قصَدَ الحسابَين معًا، وبمستوى واحد من الدلالة، فهذا تكلُّف لا يحتمله المنهج القرآني، والله أعلم.
﴿أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ﴾ إثبات السمع والبصر لله تعالى بالكيفيَّة التي لا يُضاهِيه فيهما أحد من خلقه.
﴿یَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِیِّ﴾ في بداية النهوض للعمل اليومي؛ استعدادًا للإتقان والأداء الأفضل، وطلبًا للبركة والتوفيق الإلهي، وبعد العودة منه استغفارًا ومراجعةً ومحاسبةً.
﴿وَلَا تَعۡدُ عَیۡنَاكَ عَنۡهُمۡ﴾ لا تجاوزهم بنظرك واهتمامك إلى غيرهم.
﴿وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطࣰا﴾ شتاتًا لا يجمعه جامع، وذاك أمر أصحاب الهوى المتقلِّب بحب المصالح الآنيَّة.