بعد الصورة التي عرَضَها القرآن الكريم لنموذج من الصراع بين فريقَي الحقِّ والباطل، يعرض القرآن هنا صورةً لنموذج آخر يُلامِسُ خوالِجَ النفوس، والنظرة المختلفة لهذا الكون والحياة، ومعايير السعادة والشقاء، في حوار ثنائيٍّ هادئ إلى حدٍّ كبيرٍ، فلا يظهر فيه ذلك الصخب، وتلك الحركة المليئة بالحيويَّة والمفاجآت مما رأيناه في قصة
الكهف، ويمكن رسم معالم القصة الجديدة كما يأتي:
أولًا: قدَّم القرآن لهذه القصَّة بتأكيد قواعد المفاصلة بين الحقِّ والباطل وبما يشبه حلقة الوصل بين القصة الأولى والقصة الثانية
﴿وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَاۤءَ فَلۡیُؤۡمِن وَمَن شَاۤءَ فَلۡیَكۡفُرۡۚ﴾ فهنا طريقٌ للحقّ وآخر للباطل، والإنسان مخيّرٌ بينهما بلا إجبارٍ ولا إكراهٍ، وهو يتحمل مسؤوليته الكاملة في هذا الخيار
﴿إِنَّـاۤ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِینَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ﴾ هذه هي عاقبة الكافرين الظالمين.
أما عاقبة أهل الإيمان والصلاح فقد جاءت بقوله تعالى:
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ إِنَّا لَا نُضِیعُ أَجۡرَ مَنۡ أَحۡسَنَ عَمَلًا﴾.
ثانيًا: تدور القصَّة كلُّها حول رجلَين، أحدهما: غنيٌّ لكنه كافر، والثاني: فقيرٌ لكنه مؤمن
﴿۞ وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلࣰا رَّجُلَیۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَیۡنِ مِنۡ أَعۡنَـٰبࣲ وَحَفَفۡنَـٰهُمَا بِنَخۡلࣲ وَجَعَلۡنَا بَیۡنَهُمَا زَرۡعࣰا﴾.
ثالثًا: كان الرجل الكافر مزهوًّا بماله، مغرورًا بقوَّته
﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمࣱ لِّنَفۡسِهِۦ قَالَ مَاۤ أَظُنُّ أَن تَبِیدَ هَـٰذِهِۦۤ أَبَدࣰا ﴿٣٥﴾ وَمَاۤ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَاۤىِٕمَةࣰ وَلَىِٕن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّی لَأَجِدَنَّ خَیۡرࣰا مِّنۡهَا مُنقَلَبࣰا﴾، وكان يتعالَى على صاحبه الفقير ويقول له:
﴿أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالࣰا وَأَعَزُّ نَفَرࣰا﴾.
رابعًا: أما صاحبه الفقير فكان متمسِّكًا بإيمانه
﴿لَّـٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّی وَلَاۤ أُشۡرِكُ بِرَبِّیۤ أَحَدࣰا﴾، وكان حريصًا على دعوة صاحبه لهذا الإيمان
﴿قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ یُحَاوِرُهُۥۤ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِی خَلَقَكَ مِن تُرَابࣲ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةࣲ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلࣰا﴾.
إنه يُذكِّره بتأريخ خلقه ونموِّه من طورٍ إلى طور حتى بلغ هذا الأشدَّ، وأنه ليس له في قصَّة خلقه شأن، فالله هو الذي خلقه من العدم، ومن ثَمَّ فهو الأعلم به وبما يُصلِحه، وكان يُذكِّره أيضًا بنعمة الله عليه لعله يشكرها ولا يكفرها، ويستعملها بالخير بدل أن تشطَّ به نحو التكبُّر على عباد الله، وسوء الخُلق معهم
﴿وَلَوۡلَاۤ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَاۤءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالࣰا وَوَلَدࣰا﴾.
وكان يُحذِّرُه من عاقبة هذا السلوك المُشِين بحقِّ الله وبحقِّ عباد الله
﴿فَعَسَىٰ رَبِّیۤ أَن یُؤۡتِیَنِ خَیۡرࣰا مِّن جَنَّتِكَ وَیُرۡسِلَ عَلَیۡهَا حُسۡبَانࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَتُصۡبِحَ صَعِیدࣰا زَلَقًا ﴿٤٠﴾ أَوۡ یُصۡبِحَ مَاۤؤُهَا غَوۡرࣰا فَلَن تَسۡتَطِیعَ لَهُۥ طَلَبࣰا﴾، إنه يُذكِّره بأنَّ السموات والأرض بيد الله وحده، وأنَّه سبحانه الذي سخّر له كلّ هذه النعم قادر على أن يقلبها عليه بما يشاء، وكيفما يشاء.
خامسًا: ثم يعرض القرآن عاقبةَ هذا العناد والمكابرة الباطلة
﴿وَأُحِیطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصۡبَحَ یُقَلِّبُ كَفَّیۡهِ عَلَىٰ مَاۤ أَنفَقَ فِیهَا وَهِیَ خَاوِیَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَیَقُولُ یَـٰلَیۡتَنِی لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّیۤ أَحَدࣰا﴾.
سادسًا: وفي ختام هذه القصَّة عاد القرآن ليؤكِّد تلك الحقائق الكبرى التي هي أكبر من هذه الحياة وما فيها من تفاوت بين الأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، وأنَّ ما أصاب حديقة هذا المعاند المتكبر سيُصيب الحياة كلَّها؛ لأنَّ الله لم يكتب لها الخلود
﴿وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا كَمَاۤءٍ أَنزَلۡنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِیمࣰا تَذۡرُوهُ ٱلرِّیَـٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ مُّقۡتَدِرًا﴾.
وأما الذي يبقى حقيقةً فإنَّما هو العمل الصالح والذِّكر الطيِّب
﴿ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِینَةُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَٱلۡبَـٰقِیَـٰتُ ٱلصَّـٰلِحَـٰتُ خَیۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابࣰا وَخَیۡرٌ أَمَلࣰا﴾، ووفق هذا المعيار العادل سيواجه الناس مصيرهم المحتوم الذي هو آتٍ آتٍ، طال الزمان أم قصُر
﴿وَیَوۡمَ نُسَیِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَةࣰ وَحَشَرۡنَـٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدࣰا ﴿٤٧﴾ وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفࣰّا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدࣰا ﴿٤٨﴾ وَوُضِعَ ٱلۡكِتَـٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِینَ مُشۡفِقِینَ مِمَّا فِیهِ وَیَقُولُونَ یَـٰوَیۡلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلۡكِتَـٰبِ لَا یُغَادِرُ صَغِیرَةࣰ وَلَا كَبِیرَةً إِلَّاۤ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرࣰاۗ وَلَا یَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدࣰا﴾.
وهكذا تكون القصة بين المؤمن وصاحبه الكافر كأنها مدخل للوصول إلى هذه الحقائق وتأكيدها.