سورة الكهف تفسير مجالس النور الآية 60

وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَاۤ أَبۡرَحُ حَتَّىٰۤ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَیۡنِ أَوۡ أَمۡضِیَ حُقُبࣰا ﴿٦٠﴾

تفسير مجالس النور سورة الكهف

المجلس السابع والعشرون بعد المائة: قصة النبي موسى مع الرجل الصالح


من الآية (60- 82)


من فرائد سورة الكهف هذه القصة: قصة النبي موسى وفتاه مع الرجل الصالح عليهم السلام، فمع كثرة تكرار اسم موسى وحياته المتنوعة مع أخيه هارون وقومهما، ومع فرعون وملئه في عددٍ غير قليلٍ مِن سور القرآن، إلا أنَّ هذه القصة لم تتكرَّر ولم ترِدْ إلا في هذه السورة، والتي يمكن الوقوف مع تسلسُل أحداثها المُثِيرة كما يأتي:
أولًا: تبدأ القصة بتحديد هدف واضح سار إليه موسى مع فتاه بعزمٍ وإصرار ﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَاۤ أَبۡرَحُ حَتَّىٰۤ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَیۡنِ أَوۡ أَمۡضِیَ حُقُبࣰا﴾.
والقرآن لم يُشِر بدايةً إلى الغاية من قصد هذا المكان، ولكن السياق يقودنا إلى أنَّ الغاية كانت مُلاقاة الرجل الصالح، والذي لم يُسمِّه القرآن أيضًا، ولكن الثابت في الأخبار أنه الخضِر عليه السلام كما سيأتي، ويبدو من السياق أيضًا أن الله قد كلَّف موسَى بمُلاقاة هذا الرجل والتعلُّم منه ﴿قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰۤ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدࣰا﴾.
وقد جعل الله لموسى علامةً واضحةً على قُرب وصوله إلى هذا المكان؛ حيث سيأخذ الحوت الذي معهما طريقه إلى البحر، وسيترك أثرًا له غائرًا في الماء ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجۡمَعَ بَیۡنِهِمَا نَسِیَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِیلَهُۥ فِی ٱلۡبَحۡرِ سَرَبࣰا﴾، ﴿وَٱتَّخَذَ سَبِیلَهُۥ فِی ٱلۡبَحۡرِ عَجَبࣰا﴾، وهذه من دلائل الرعاية الإلهية المباشرة والدقيقة لهذه السفرة الفريدة.
ثانيًا: وصل موسى إلى مُبتغاه، والْتَقَى بالرجل الذي قال الله فيه: ﴿فَوَجَدَا عَبۡدࣰا مِّنۡ عِبَادِنَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُ رَحۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَـٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمࣰا﴾ وحين طلب موسى أن يتتلمَذَ على يديه، أجابَه بلُغة العالم الواثق بما معه من العلم: ﴿قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِیعَ مَعِیَ صَبۡرࣰا ﴿٦٧﴾ وَكَیۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرࣰا﴾، وهنا يردُّ التلميذ الحريص كلَّ الحرص على التعلُّم: ﴿قَالَ سَتَجِدُنِیۤ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ صَابِرࣰا وَلَاۤ أَعۡصِی لَكَ أَمۡرࣰا﴾، وهنا بدأ المُعلِّم يُملِي شروطَه: ﴿قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِی فَلَا تَسۡـَٔلۡنِی عَن شَیۡءٍ حَتَّىٰۤ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرࣰا﴾.
إنه مشهد لا تكاد الكلمات تَقوَى على وصفه أو تحليله؛ فموسى النبي الرسول، والقائد التاريخي الكبير يجلس ليتعلَّم مِن رجلٍ هو بالتأكيد أقلُّ منه منزلةً، وأقلُّ شأنًا. إنها تربية القرآن لنا دعاة ومدعوِّين، علماء ومتعلِّمين، قبل أن تكون قصَّة توثيقيَّة لذلك الحدث الغابر في التاريخ.
ثالثًا: كان المشهد الأول بعد اللقاء والاتفاق على أسس الصحبة أنّهما ركبا في سفينة لمساكين يعملون في البحر، فقام الرجل الصالح بخرقها، وهنا لم ير الكليم عليه السلام بُدًّا من النهي عن المنكر، خاصَّةً أنه رسولٌ مُبلِّغٌ لشريعة الله، فأنساه هذا شرطه مع الخضر ﴿فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰۤ إِذَا رَكِبَا فِی ٱلسَّفِینَةِ خَرَقَهَاۖ قَالَ أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَیۡـًٔا إِمۡرࣰا﴾، ولم يكن ردُّ صاحبه عليه إلا أن ذكَّرَه بالشرط: ﴿قَالَ أَلَمۡ أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِیعَ مَعِیَ صَبۡرࣰا﴾، فاعتذر له موسى عليهما السلام: ﴿ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ﴾.
رابعًا: المشهد الثاني كان الأشدَّ على موسى عليه السلام﴿فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰۤ إِذَا لَقِیَا غُلَـٰمࣰا فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسࣰا زَكِیَّةَۢ بِغَیۡرِ نَفۡسࣲ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَیۡـࣰٔا نُّكۡرࣰا ﴿٧٤﴾ ۞ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِیعَ مَعِیَ صَبۡرࣰا ﴿٧٥﴾ قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَیۡءِۭ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَـٰحِبۡنِیۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّی عُذۡرࣰا﴾.
خامسًا: المشهد الثالث، والذي يبدو أنه الأخفُّ من حيث إنه لم يشكِّل انتهاكًا ظاهرًا للشريعة ﴿فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَتَیَاۤ أَهۡلَ قَرۡیَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَاۤ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن یُضَیِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِیهَا جِدَارࣰا یُرِیدُ أَن یَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥ ۖ﴾، ولكن صبر موسى نفد ﴿قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَیۡهِ أَجۡرࣰا﴾، وهنا أعلن صاحِبُه انتهاءَ الرفقة ﴿قَالَ هَـٰذَا فِرَاقُ بَیۡنِی وَبَیۡنِكَۚ﴾، ولا شكَّ أن القصَّة لا بد أن تتوقَّف؛ إذ المقصود التربوي والتعليمي قد تحقَّقَ بهذه النماذج الثلاثة.
سادسًا: في وقفةِ الفراق كان الرجل الصالح يشرح لسيدنا موسى عليهما السلام الجوانبَ التي خفِيَت عليه في كلِّ مشهد ﴿أَمَّا ٱلسَّفِینَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَـٰكِینَ یَعۡمَلُونَ فِی ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِیبَهَا وَكَانَ وَرَاۤءَهُم مَّلِكࣱ یَأۡخُذُ كُلَّ سَفِینَةٍ غَصۡبࣰا ﴿٧٩﴾ وَأَمَّا ٱلۡغُلَـٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَیۡنِ فَخَشِینَاۤ أَن یُرۡهِقَهُمَا طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰا ﴿٨٠﴾ فَأَرَدۡنَاۤ أَن یُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَیۡرࣰا مِّنۡهُ زَكَوٰةࣰ وَأَقۡرَبَ رُحۡمࣰا ﴿٨١﴾ وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـٰمَیۡنِ یَتِیمَیۡنِ فِی ٱلۡمَدِینَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزࣱ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحࣰا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن یَبۡلُغَاۤ أَشُدَّهُمَا وَیَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةࣰ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِیۚ ذَ ٰ⁠لِكَ تَأۡوِیلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرࣰا﴾.
سابعًا: الملْحَظ الجدير بالتوقف هنا قوله: ﴿وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِیۚ﴾، فهذه الجوانب التي خفِيَت على النبيِّ موسى أطْلَعَ الله عليها هذا الرجل لحكمة ظاهرة في سياق القصَّة، وهذا تأكيدٌ عمليٌّ لقوله تعالى في بداية القصَّة: ﴿وَعَلَّمۡنَـٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمࣰا﴾ وهو تعليمٌ مقترنٌ بالأمر، وهو أمارة النبوَّة الظاهرة.
والقول بنفي النبوَّة عنه يفتح البابَ لدعاوى كثيرة؛ من ادِّعاء نزول الأوامر الإلهية على البشر بعد النبيِّ الخاتم ، كما هو شأن الرافضة مع أئمَّتِهم، وهذا يقدَحُ أيضًا بختم النبوَّة من حيث المضمون والفحوى، فإذا كان التعليم الإلهي المباشر لعباده مستمرًّا وفيه أمرٌ ونهيٌ قد يصل إلى خرق السفينة، وقتل الغلام، فما معنى انقطاع الوحي إذن؟
ثامنًا: أما الدرس المحوري الظاهر في القصَّة فهو درسٌ للعلماء، فهذا هو النبي الكريم والكليم الذي واجه فرعون وسلطانه، وقارون وماله، وقادَ شعبًا كبيرًا ومُعقَّدًا غاية التعقيد، يقِفُ بنفسه ليتعلَّم ممن هو أقل منه، مِن رجلٍ لم يذكُر القرآن اسمه، بل ولم يذكره إلا في هذا الموضع كمعلِّمٍ لموسى فقط، ثم هذه الروح الجادَّة في البحث عن أهل العلم والتشبُّث بهم، والتي جعلت موسى يُصِرُّ على مُلاقاة هذا المعلِّم حتى لو أفنَى الحِقَب من عُمره!
وأخيرًا فتلك المشاهد الحيَّة التي أقنعت موسى عليه السلام بما يمكن تسميته اليوم بالتنوُّع المعرفي، فالمنظور المعرفي لناظرٍ قد يختلف عن منظور آخر، وهذا بطبيعته يؤدِّي إلى اختلاف في التصوُّرات والأحكام، ومن ثَمَّ كان لا بُدَّ من الْتِقاء المناظير في بؤرة علميَّة مشتركة ومتفاعلة ومتكاملة للوصول إلى الحقيقة الكاملة.
أما الروايات التي تَحكِي بعض حيثِيَّات القصة ومقدِّماتها وأسبابها، فيمكن الرجوع إليها في كتب التفسير بالمأثور؛ كتفسير الطبري، وابن كثير، وأبواب التفسير أيضًا في صِحاح السنَّة، وخاصَّةً عند البخاري ومسلم، ففيهما البُلْغَةُ الموثوقة، ويكفينا هنا أخذ العبرة العمليَّة من السياق القرآني مَشيًا على المنهجيَّة المعتمدة في تأليف هذا الكتاب.

﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ﴾ وهو يوشع بن نون.
﴿لَاۤ أَبۡرَحُ﴾ لا أترك المسير.
﴿مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَیۡنِ﴾ ملتقى البحرين، ولم يرد دليلٌ صحيحٌ في تحديد هذا الموقع، فلا يحسُن تفسير القرآن بغير بيِّنة، وكلُّ ما ذكَرَه المُفسِّرون هنا من تحديدٍ جغرافي للموقع قائم على الظنِّ والتقدير، والله أعلم.
﴿أَوۡ أَمۡضِیَ حُقُبࣰا﴾ أزمانًا طويلةً غير محددة.
﴿نَسِیَا حُوتَهُمَا﴾ أي: لم ينتَبِها له حينما خرج من المتاع الذي كان معهما ودخل البحر.
﴿فَٱتَّخَذَ سَبِیلَهُۥ فِی ٱلۡبَحۡرِ سَرَبࣰا﴾ أي: عند دخوله البحر ترك نفقًا في الماء غير ملتئم؛ ليكون علامةً لهما.
وقصة الحوت كلُّها آيةٌ من آيات الله لا تنطَبِق عليها نواميس الأرض؛ ولذلك قال عنه في الآية الثانية: ﴿وَٱتَّخَذَ سَبِیلَهُۥ فِی ٱلۡبَحۡرِ عَجَبࣰا﴾، والله أعلم.
﴿وَمَاۤ أَنسَىٰنِیهُ إِلَّا ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ﴾ أي: ما أنساني ذكر الحوت ومتابعة حركته إلا الشيطان.
﴿ذَ ٰ⁠لِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِۚ ﭹ﴾ أي: مكان نزول الحوت في البحر؛ لأنّه علامة المكان الذي فيه الرجل الصالح، و﴿نَبۡغِۚ﴾ أصله نَبغِي، وهو مضارع مرفوع، وإنما حُذِفَت الياء تخفيفًا.
﴿فَٱرۡتَدَّا عَلَىٰۤ ءَاثَارِهِمَا قَصَصࣰا﴾ رجعا يتتبَّعَان خطواتهما طلبًا للمكان الذي نسيا عنده الحوت.
﴿فَوَجَدَا عَبۡدࣰا مِّنۡ عِبَادِنَاۤ﴾ هو الخضر عليه السلام.
﴿فَلَا تَسۡـَٔلۡنِی عَن شَیۡءٍ حَتَّىٰۤ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرࣰا﴾ لا تبدأني بالسؤال والإنكار حتى أُخبرك أنا بحقيقة الأمر الذي أفعله.
﴿فَٱنطَلَقَا﴾ تكرر هذا الفعل في هذه القصَّة ثلاث مراتٍ؛ ليدل على الحركة والفاعلية، كما يدل أيضًا على أنّ هذه الأحداث لم تكن في مكانٍ واحدٍ.
﴿إِمۡرࣰا﴾ عملًا فظيعًا.
﴿حَتَّىٰۤ إِذَا لَقِیَا غُلَـٰمࣰا فَقَتَلَهُۥ﴾ قَتْلُ الخضِر للغلام مسألة أشكلت على كثيرين؛ إذ المبادرة إلى قتل الغلام عملٌ مخالفٌ للشرع، حتى لو افترض كفره، أو أنّ الله طبع على قلبه بالكفر، أو أنه سيرهق أبَوَيه بالكفر، فكلُّ هذا ليس مُسوِّغًا شرعيًّا لقتله؛ ولذلك لا يمكن القياس عليه، ولا اتخاذ هذه الحادثة دليلًا على فعلٍ قريبٍ أو مثيلٍ.
والذي يترجَّح لديَّ - والله أعلم- أنَّ الخضِر لم يكن في هذا الموقف سوى أداةٍ للقدر، فالله الذي بيده حياة الناس وموتهم قد كتب على هذا الغلام الموتَ في تلك اللحظة، فأوحَى إلى عبده الخضِر ليكون سببًا قدريًّا لا غير، وهذا هو قولُ الخضر نفسه: ﴿وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِیۚ﴾، وهذا تأكيدٌ لنبوَّته عليه السلام؛ إذ يستحيلُ أن يكون مِثل هذا الأمر كان بطريق الإلهام، أو بما يسمِّيه الصوفيَّة بالعلم اللَّدُنِّي، والله أعلم.
﴿أَقَتَلۡتَ نَفۡسࣰا زَكِیَّةَۢ﴾ بريئةً وطاهرةً عن كلِّ ما يستوجب القتل.
﴿نُّكۡرࣰا﴾ منكرًا كبيرًا مخالفًا لضرورات الشرع.
﴿فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَتَیَاۤ أَهۡلَ قَرۡیَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَاۤ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن یُضَیِّفُوهُمَا﴾ أي: أنهما وصَلَا في مسيرهما إلى قرية، فطلبا من أهلها طعامًا فردُّوهما، وقد ستَرَ الله على أهل هذه القرية فلم يُعرِّف بهم ولا بقريتهم، فالأَولَى الالتزام بهذا الأدب القرآني، والبُعد عن الخوض في اسم القرية ومكانها.
﴿فَوَجَدَا فِیهَا جِدَارࣰا یُرِیدُ أَن یَنقَضَّ﴾ أي: مائل إلى السقوط، وهو من باب المجاز؛ إذ الجدار ليست له إرادة.
﴿فَأَقَامَهُۥ ۖ ﭽ﴾ عدَّلَه ورمَّمَه.
﴿قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَیۡهِ أَجۡرࣰا﴾ لأن أهل هذه القرية لا يستحِقُّون منك أن تُقيمَ لهم هذا الجدار دون أجر، وقد سبق أن طلبنا منهم طعامًا فأبوا.
﴿وَكَانَ وَرَاۤءَهُم مَّلِكࣱ یَأۡخُذُ كُلَّ سَفِینَةٍ غَصۡبࣰا﴾ أي: صالحة؛ ولذلك خرقها حتى لا يأخذها الملك.
﴿وَأَمَّا ٱلۡغُلَـٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَیۡنِ فَخَشِینَاۤ أَن یُرۡهِقَهُمَا طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰا﴾ ذكر الحكمة القدرية والتي لا تحتمل القياس؛ لأنها من قبيل القدر الإلهي المتصل بإرادة الله المطلقة وليس من قبيل التشريع؛ إذ ليس في التشريع نظير لهذا، فالله أراد الخير للأبوين بموته، حتى لا يقودهما حبهما له إلى الكفر.
والدرس المستفاد هنا هو درسٌ قدريٌّ محضٌ، فالمؤمن الذي يواجه المصائب القدرية في حياته مما لا سبيل إلى دفعه، عليه أن يُحسِنَ الظنَّ بربه، ويستشعر رحمته بعبده، فربما لو كشف له حجابُ الغيب لرأى مصلحته في هذه المصائب، والله أعلم.
﴿فَأَرَدۡنَاۤ أَن یُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَیۡرࣰا مِّنۡهُ﴾ كأنه يتكلم بلسان القدر، فالإرادة لله، وما الخضِر هنا إلا السبب والأداة، والله أعلم.
﴿وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـٰمَیۡنِ یَتِیمَیۡنِ فِی ٱلۡمَدِینَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزࣱ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحࣰا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن یَبۡلُغَاۤ أَشُدَّهُمَا وَیَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةࣰ مِّن رَّبِّكَۚ﴾ فيه تأديبٌ عظيمٌ؛ وهو أنّ المؤمن لا يعمم بحكم السوء، فالقرية التي أبَت أن تُضيِّف موسى والخضِر عليهما السلام كان يعيش فيها رجلٌ صالحٌ، وقد ترك يتيمَين له يستحِقَّان الرعاية، وقد عرف الخضِر شأنَهما بإخبار الله له، فأقام لهما الجدار، ولم يُعاقبهما بفعل أهل قريتهما.