سورة الكهف تفسير مجالس النور الآية 85

فَأَتۡبَعَ سَبَبًا ﴿٨٥﴾

تفسير مجالس النور سورة الكهف

المجلس الثامن والعشرون بعد المائة: قصة ذي القرنين


من الآية (83- 98)


هذه هي القصَّة الأخيرة في هذا السورة، وهي من فرائدها أيضًا؛ حيث لم يأت ذِكرُ لذي القرنَين إلا في هذه السورة، ويمكن تلخيصُ الملامح الرئيسة لهذه القصة في النقاط الآتية:
أولًا: جاءت القصة جوابًا لقومٍ لم يُسمِّهم القرآن كانوا قد سألوا رسولَ الله عن ذي القرنين: ﴿وَیَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِی ٱلۡقَرۡنَیۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَیۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا﴾، والسائل على الأغلب هم أهل مكة؛ لأن السورة مكيَّة، ولا يبعُد أنَّ أهل الكتاب في يثرب قد لقَّنُوهم هذا السؤال بحُكم العلاقة التي كانت بين مكة ويثرب، ولا يبعُد أيضًا أن تكون قصص السورة الأخريات من هذا القبيل، وتبقى العبرة بمضمون القصة وليس بشخص السائل.
ثانيًا: إن الله قد مكَّن لذي القرنَين في الأرض دون أن يُحدِّد لنا هويته وتاريخه والأرض التي امتدَّ إليها سلطانه: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَءَاتَیۡنَـٰهُ مِن كُلِّ شَیۡءࣲ سَبَبࣰا﴾، لكن القرآن يؤكِّد في أكثر من موضع وبأكثر من قرينة صلاحَ هذا الرجل وعدله، ودفاعَه عن المظلومين والمستضعفين، بل كان ممن يُلهِمهم الله ويُسدِّدهم ﴿قُلۡنَا یَـٰذَا ٱلۡقَرۡنَیۡنِ إِمَّاۤ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّاۤ أَن تَـتَّـخِذَ فِیهِمۡ حُسۡنࣰا﴾، وكان ينسِبُ كلَّ هذا الخير والتمكين إلى ربه تبارك وتعالى: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّی فِیهِ رَبِّی خَیۡرࣱ فَأَعِینُونِی بِقُوَّةٍ﴾.
ثالثًا: يلخِّص القرآن حركةَ ذي القرنَين بثلاثة اتجاهات:
الأول: نحو الغرب ﴿حَتَّىٰۤ إِذَا بَلَغَ مَغۡرِبَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَغۡرُبُ فِی عَیۡنٍ حَمِئَةࣲ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوۡمࣰاۖ﴾.
والثاني: نحو الشرق ﴿حَتَّىٰۤ إِذَا بَلَغَ مَطۡلِعَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَطۡلُعُ عَلَىٰ قَوۡمࣲ لَّمۡ نَجۡعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتۡرࣰا﴾.
والثالث: لم يحدده القرآن، واكتفى بقوله: ﴿ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ﴿٩٢﴾ حَتَّىٰۤ إِذَا بَلَغَ بَیۡنَ ٱلسَّدَّیۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمࣰا لَّا یَكَادُونَ یَفۡقَهُونَ قَوۡلࣰا ﴿٩٣﴾ قَالُواْ یَـٰذَا ٱلۡقَرۡنَیۡنِ إِنَّ یَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰۤ أَن تَجۡعَلَ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَهُمۡ سَدࣰّا﴾.
وهذا يعني أنَّ يأجوج ومأجوج في مكانٍ ثالثٍ لا هو مطلع الشمس ولا مغربها، وما يقال: إنهم في جهة الشرق لا يحتمله السياق، والله أعلم.
رابعًا: إنه قام بإنشاء السدِّ؛ لقطع الممر الذي كان يهجم منه يأجوج ومأجوج على أولئك الناس، وقد كان الممر طريقًا بين جبلَين متساويَين في الارتفاع، فقام ذو القرنَين برَدمِه بقطع الحديد المُتماسِك بعد إيقاد النار عليه ﴿ءَاتُونِی زُبَرَ ٱلۡحَدِیدِۖ حَتَّىٰۤ إِذَا سَاوَىٰ بَیۡنَ ٱلصَّدَفَیۡنِ قَالَ ٱنفُخُواْۖ حَتَّىٰۤ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارࣰا قَالَ ءَاتُونِیۤ أُفۡرِغۡ عَلَیۡهِ قِطۡرࣰا﴾.
خامسًا: نجح السدُّ في منع يأجوج ومأجوج من شنِّ غاراتهم على هذه الأقوام؛ حيث أصبح السدُّ حائلًا بينهم ﴿فَمَا ٱسۡطَـٰعُوۤاْ أَن یَظۡهَرُوهُ وَمَا ٱسۡتَطَـٰعُواْ لَهُۥ نَقۡبࣰا﴾ ولكنه سيُدكُّ في موعده المحتوم ﴿قَالَ هَـٰذَا رَحۡمَةࣱ مِّن رَّبِّیۖ فَإِذَا جَاۤءَ وَعۡدُ رَبِّی جَعَلَهُۥ دَكَّاۤءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّی حَقࣰّا﴾.
سادسًا: ليس في حديث القرآن عن يأجوج ومأجوج ما يُخرِجهم عن المألوف في الطبيعة الآدميَّة، ولا عن حالهم بعد مرور كلِّ هذه القرون، والروايات بمجموعها مُتضاربة، ولا تُقدِّم أجوبةً مُتكاملةً عن قصَّة هؤلاء القوم، وأين هم الآن؟ وهل بإمكان هذا السدِّ أن يمنعهم الآن من الخروج؟ والأسلَم ترك أمرهم إلى الله دون الخوض في التفاصيل، ولا الجزم بشيءٍ يصدم النص الصريح، أو الواقع الملموس.


﴿ذِی ٱلۡقَرۡنَیۡنِۖ﴾ يحتمل أنه سُمِّي بذلك؛ لأنَّه كان يُضفِّر شعره ضفيرتَين، والعرب تسمي الضفائر قرونًا، أو أنه كان يلبس شيئًا على رأسه بقرنَين بارزَين، وقد يكون لسببٍ آخر لا نعرفه، والمسألة ليست مما ينبني عليه العمل، والله أعلم.
﴿وَءَاتَیۡنَـٰهُ مِن كُلِّ شَیۡءࣲ سَبَبࣰا﴾ أيَّدْناه بكلِّ أسباب القوة والتمكين التي تناسب عصره وجيله.
﴿فَأَتۡبَعَ سَبَبًا﴾ سلك طريقًا مُعيَّنًا.
﴿مَغۡرِبَ ٱلشَّمۡسِ﴾ المكان الذي تسقط فيه الشمس عند غروبها فيما يراه الناظر، والمقصُود جِهة الغرب.
﴿فِی عَیۡنٍ حَمِئَةࣲ﴾ ماء أسود مختلط بالطين.
﴿قُلۡنَا یَـٰذَا ٱلۡقَرۡنَیۡنِ﴾ خطاب الله له بصيغة مباشرة محمول على الإلهام، وليس من مانع يمنعه أن يكون نبيًّا، والله أعلم.
﴿لَّمۡ نَجۡعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتۡرࣰا﴾ لأنهم قوم بدائيون لا يعرفون البناء، فليس لهم مساكن، ولا قرى تسترهم عن الشمس مثل باقي الأمم.
﴿حَتَّىٰۤ إِذَا بَلَغَ بَیۡنَ ٱلسَّدَّیۡنِ﴾ جبلَين متقابلَين كأنهما شِقَّا الصَّدَفة، يؤكده قوله تعالى الآتي: ﴿حَتَّىٰۤ إِذَا سَاوَىٰ بَیۡنَ ٱلصَّدَفَیۡنِ﴾.
﴿لَّا یَكَادُونَ یَفۡقَهُونَ قَوۡلࣰا﴾ من غيرهم؛ لغرابة لُغَتهم، وانعزالهم عن العالم من حولهم.
﴿إِنَّ یَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ﴾ هم قومٌ من بني آدم، ولم يذكر القرآن عنهم أمرًا مُستغرَبًا في خِلقَتهم، وكانوا يعتَدُون على الأقوام المجاورة لهم.
﴿فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا﴾ نجمع لك من المال ما يمكنك من بناء السد.
﴿قَالَ مَا مَكَّنِّی فِیهِ رَبِّی خَیۡرࣱ﴾ أي: ما أعطانيه ربي خير مما تجمعونه لي.
﴿رَدۡمًا﴾ يردم به الفجوة بين الجبلَين، وهذه هي طبيعة هذا السد.
﴿زُبَرَ ٱلۡحَدِیدِۖ﴾ قِطَع الحديد.
﴿حَتَّىٰۤ إِذَا سَاوَىٰ بَیۡنَ ٱلصَّدَفَیۡنِ﴾ ردم الفجوة التي بين الجبلَين بشكل كامل.
﴿أُفۡرِغۡ عَلَیۡهِ قِطۡرࣰا﴾ معدنًا مُذابًا يجمع قِطَع الحديد في بناءٍ واحدٍ.
﴿فَمَا ٱسۡطَـٰعُوۤاْ أَن یَظۡهَرُوهُ وَمَا ٱسۡتَطَـٰعُواْ لَهُۥ نَقۡبࣰا﴾ أي: لم يتمكَّنُوا مِن الصعود عليه ولا فتح ثغرة فيه، فبقوا محجوزين وراءَه، وممنوعين من الإغارة على جيرانهم، وأضاف التاءَ على فعل (اسطاع)؛ لأن النقب أصعب من الظهور، وزيادة المبنى تدلُّ على زيادة المعنى.