سورة مريم تفسير مجالس النور الآية 16

وَٱذۡكُرۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مَرۡیَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانࣰا شَرۡقِیࣰّا ﴿١٦﴾

تفسير مجالس النور سورة مريم

المجلس الحادي والثلاثون بعد المائة: قصة مريم وابنها المسيح


من الآية (16- 40)


مريم، تلك الفتاة التي نذَرَتها أمُّها لله وهي جنين لم ير الحياة بعد، فأنبتها الله نباتًا حسنًا، وكفَّلها أحد أنبيائه، ورزقها في المحراب بما حيَّر كافلها حتى كان يسألها: ﴿أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَاۖ﴾، فتقول: ﴿هُوَ مِنۡ عِندِ ٱلـلَّــهِۖ﴾ [آل عمران: 37]، ثم رأَت بعينَيها معجزة زكريَّا في استجابة الله لندائه الخفي، فبشَّرَه على كِبَر سنِّه وعُقْم امرأته بيحيى النبي الكريم ابن النبي الكريم.
هذه هي مريم التي نزلت هذه السورة باسمها، تواجه في هذا المقطع ما لم تُواجِهه أنثى على الإطلاق! وهذه الآيات تُجلِّي لنا هذه القصَّة الفريدة، وكما يأتي:
أولًا: اعتزلت مريم قومَها واحتجبت عنهم ناحية الشرق؛ لحاجةٍ لم يذكرها القرآن، فأرسل الله إليها ملَكًا من عنده بصورة بشر سوِيٍّ معتدل الخلقة ﴿وَٱذۡكُرۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مَرۡیَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانࣰا شَرۡقِیࣰّا ﴿١٦﴾ فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابࣰا فَأَرۡسَلۡنَاۤ إِلَیۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرࣰا سَوِیࣰّا﴾.
ثانيًا: لم تعلَم مريم حقيقة هذا الملك فارتابت منه، وطلبت منه أن يبتعد عنها، ونادته بنداء الإيمان والتقوى تُذكِّره بالله وتخوِّفه منه ﴿قَالَتۡ إِنِّیۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِیࣰّا﴾.
ثالثًا: عرَّفها المَلَك بنفسه وأنه مُرسلٌ إليها من الله لأمرٍ قدَّره الله وقضاه بهذه الصورة ﴿قَالَ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَـٰمࣰا زَكِیࣰّا﴾.
رابعًا: أنكرت مريم ذلك وتعجّبت منه بحكم بشريّتها والناموس الكوني الذي وضعه الله في هذه الحياة ﴿قَالَتۡ أَنَّىٰ یَكُونُ لِی غُلَـٰمࣱ وَلَمۡ یَمۡسَسۡنِی بَشَرࣱ وَلَمۡ أَكُ بَغِیࣰّا﴾، فالغلام لا يأتي من المرأة دون أن يمسّها الرجل زواجًا أو بغاءً، ومريم الفتاة العذراء التي لم تتزوج، والحَصَان الطاهرة التي لم تعرف الحرام.
خامسًا: أجابها المَلَك بلُغة القدر والإرادة الإلهيَّة المطلقة التي لا تحدُّها كلُّ نواميس الكون، وهل النواميس التي نخضع لها ونتعامل بها إلا مِن صنع الله الواحد سبحانه؟ ﴿قَالَ كَذَ ٰ⁠لِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَیَّ هَیِّنࣱۖ وَلِنَجۡعَلَهُۥۤ ءَایَةࣰ لِّلنَّاسِ وَرَحۡمَةࣰ مِّنَّاۚ وَكَانَ أَمۡرࣰا مَّقۡضِیࣰّا﴾ وقد حمل لها في هذا الجواب بشارات عظيمة في هذا المولود المعجزة أنّه آية من الله ورحمة للناس.
سادسًا: حملت مريم بعيسى كما قدَّر الله القدير سبحانه، ولم يذكر القرآن لنا عن مدَّة الحمل هذه، ولا ما مرَّت به من أحوالٍ جسديَّة ونفسيَّة واجتماعيَّة، واكتَفَى بقوله: ﴿۞ فَحَمَلَتۡهُ فَٱنتَبَذَتۡ بِهِۦ مَكَانࣰا قَصِیࣰّا﴾ أي: ذهبت بعيدًا عن قومها، والسياق يُوحِي بخشيتها من مواجهة قومها.
سابعًا: حين دنَت ساعة الولادة الْتَجَأَت إلى جِذعِ نخلةٍ، وهي تتمنَّى الموتَ خشيةً من كلام الناس، وهذا شأنُ كلِّ شريفةٍ حييَّةٍ، فكيف بمريم؟ ﴿فَأَجَاۤءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ یَـٰلَیۡتَنِی مِتُّ قَبۡلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسۡیࣰا مَّنسِیࣰّا﴾.
ثامنًا: هنا سمِعَت صوتًا يُجيبها ويطمئنها، والظاهرُ أنه صوتُ ابنها وحبيبها الوليد، وهذه أُولى مُعجزاته عليه السلام ﴿فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَاۤ أَلَّا تَحۡزَنِی قَدۡ جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِیࣰّا﴾ يُخبِر عن نفسه بما يُذهِب عن أمه الحزنَ والخوفَ، بمعنى أنه سيكون بين الناس عظيمًا، فالسَّراة: هم قادة المجتمع وعظماؤه، وتفسير السَّرِيِّ بجدول الماء ونحوه - وإن صح لغةً -، إلا أنه بعيد عن السياق؛ لأنها كانت تحمِل همَّ الفضيحة عند الناس، ولم تكن تشكو الجوع والعطش، بل ربما لم تفكِّر بهما أصلًا.
تاسعًا: بعد أن سمِعَت المعجزة واطمأنَّت إلى رعاية الله لها، وهدَأَت مشاعرها ومخاوفها، ناداها وليدُها مرة أخرى: ﴿وَهُزِّیۤ إِلَیۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ تُسَـٰقِطۡ عَلَیۡكِ رُطَبࣰا جَنِیࣰّا﴾ يُعلِّمها بما أودَعَه الله لها في هذه النخلة المباركة، وهذه مع كونها معجزةً، فهزُّ الجذع لا يسقط الرُّطَب، كما يعرف ذلك أهل النخيل.
وفيه أيضًا المبرَّة المبكرة لهذا المولود بوالدته عليهما السلام، والتي أكَّدَها مرة ثالثة بقوله: ﴿فَكُلِی وَٱشۡرَبِی وَقَرِّی عَیۡنࣰاۖ﴾ يُوصيها بما يصلح من حالها جسديًّا ونفسيًّا، إنها إشارات تربويَّة، تُعلِّم الولد الحرص على والدته، والاهتمام بها وبكلّ شؤونها.
عاشرًا: أما كيف ستُواجه قومها؟ فأخذ وليدها يُوصيها بما أوحى الله إليه: ﴿فَإِمَّا تَرَیِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدࣰا فَقُولِیۤ إِنِّی نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَـٰنِ صَوۡمࣰا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡیَوۡمَ إِنسِیࣰّا﴾.
حادي عشر: جاءت به تحمله إلى قومها ﴿فَأَتَتۡ بِهِۦ قَوۡمَهَا تَحۡمِلُهُۥ ۖ﴾، هنا كانت الصدمة لهم، فهم يعرفون مريم العذراء الطاهرة، لكنها ها هيَ تحمل دليلَ إدانتها بيدها ﴿قَالُواْ یَـٰمَرۡیَمُ لَقَدۡ جِئۡتِ شَیۡـࣰٔا فَرِیࣰّا ﴿٢٧﴾ یَـٰۤأُخۡتَ هَـٰرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمۡرَأَ سَوۡءࣲ وَمَا كَانَتۡ أُمُّكِ بَغِیࣰّا﴾، وقد أنصَفُوها فزكُّوا نسَبَها من جهة الأب ومن جهة الأم، ولكن ماذا يفعلون وهم بشرٌ وقد رأَوا ما لا قِبَلَ لهم بإدراكه ولا بفهمه؟
ثاني عشر: هنا أشارت مريم إلى وليدها الذي تحمله أن يسألوه، نعم فهي متأكدةٌ أنه سيتكلَّم؛ لأنها كانت منذ قليل تسمعُ له، تسمعُ لوصاياه ونصائحه وتطميناته عليهما السلام.
﴿فَأَشَارَتۡ إِلَیۡهِۖ قَالُواْ كَیۡفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِی ٱلۡمَهۡدِ صَبِیࣰّا﴾ هنا تكلَّم الصبيُّ، الصبيُّ الذي اختارَه الله ليكون آية إلى قيام الساعة ورحمة للناس ﴿قَالَ إِنِّی عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِیَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَجَعَلَنِی نَبِیࣰّا ﴿٣٠﴾ وَجَعَلَنِی مُبَارَكًا أَیۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَـٰنِی بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَیࣰّا ﴿٣١﴾ وَبَرَّۢا بِوَ ٰ⁠لِدَتِی وَلَمۡ یَجۡعَلۡنِی جَبَّارࣰا شَقِیࣰّا ﴿٣٢﴾ وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَیَّ یَوۡمَ وُلِدتُّ وَیَوۡمَ أَمُوتُ وَیَوۡمَ أُبۡعَثُ حَیࣰّا﴾.
إنه لم يتكلَّم بما يرفع التهمة عن والدته الزكيَّة الطاهرة، وإنّما راح يشرح لهم رسالته التي بعَثَه الله بها، لقد غَدَا يدعوهم إلى الحقّ الذي هو أكبر من الأرض وما عليها، وأكبر من الحياة وما فيها.
ثالث عشر: اختَتَمَ القرآن هذه القصة بجملةٍ من الدروس والتوجيهات الربَّانيَّة، مؤكِّدًا حقيقة السيد المسيح، ومفنِّدًا لقول النصارى فيه ﴿ذَ ٰ⁠لِكَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَۖ قَوۡلَ ٱلۡحَقِّ ٱلَّذِی فِیهِ یَمۡتَرُونَ ﴿٣٤﴾ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن یَتَّخِذَ مِن وَلَدࣲۖ سُبۡحَـٰنَهُۥۤۚ إِذَا قَضَىٰۤ أَمۡرࣰا فَإِنَّمَا یَقُولُ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ﴾، وأنّ الصراط المستقيم إنّما هو صراط التوحيد الخالص ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَن یَتَّخِذَ مِن وَلَدࣲۖ سُبۡحَـٰنَهُۥۤۚ إِذَا قَضَىٰۤ أَمۡرࣰا فَإِنَّمَا یَقُولُ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ﴾، وأنّ يوم الفصل آتٍ لا محالة ليُحقَّ الحقّ ويُبطِل الباطل، ويَلقَى كلٌّ جزاءَه ﴿أَسۡمِعۡ بِهِمۡ وَأَبۡصِرۡ یَوۡمَ یَأۡتُونَنَاۖ لَـٰكِنِ ٱلظَّـٰلِمُونَ ٱلۡیَوۡمَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ﴾.

﴿ٱنتَبَذَتۡ﴾ اعتزلت قومها وذهبت بعيدًا عنهم.
﴿فَأَرۡسَلۡنَاۤ إِلَیۡهَا رُوحَنَا﴾ المَلَكُ المُكلَّف بذلك، والأقرب أنه جبريل عليه السلام.
﴿إِنِّیۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِیࣰّا﴾ أي: إن كنت تخاف الله فستبتعد عنِّي.
﴿لِأَهَبَ لَكِ غُلَـٰمࣰا زَكِیࣰّا﴾ أي: ليَهَب الله لها، والمَلَك ليس سوى سببٍ غيبيٍّ لا نُدرك نحن البشر سرَّه في هذه القصَّة.
﴿وَلَمۡ یَمۡسَسۡنِی بَشَرࣱ﴾ لم يُعاشِرني زوجٌ.
﴿مَكَانࣰا قَصِیࣰّا﴾ مكانًا بعيدًا.
﴿فَأَجَاۤءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ﴾ ألجَأَها المخاض ودفع بها إلى جذع النخلة.
﴿وَكُنتُ نَسۡیࣰا مَّنسِیࣰّا﴾ تتمنَّى لو أنها ماتت قبل هذا ولم يبق لها ذكر بين الناس.
﴿سَرِیࣰّا﴾ هو العظيم في قومه، كأنه يقول لها: إن ابنكِ هذا لن يكون سببًا في حَسرَتكِ وشقائِكِ عند قومِكِ، بل سيرفع مِن ذِكركِ، والسَّرِيُّ مفردٌ جمعُه: السَّراة، والسياق يقتضي هذا؛ لأنه قال لها: ﴿فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَاۤ أَلَّا تَحۡزَنِی قَدۡ جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِیࣰّا﴾ فالذي تحتَكِ لا يمكن أن يكون سببًا للحزن، والله أعلم.
﴿وَهُزِّیۤ إِلَیۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ تُسَـٰقِطۡ عَلَیۡكِ رُطَبࣰا جَنِیࣰّا﴾ معونة من الله لها؛ لأن هزَّ الجذع لا يُسقِط الرُّطَب في العادة، بل إن الجذع في العادة لا تَقوَى على هزِّه امرأةٌ وهي في المخاض.
أما القول بأن الجذع كان يابسًا وغير مُثمر أصلًا، فهذا لا دليل عليه، والأصلُ حملُ الكلام على المعتاد في هذه الحياة، وليس على الخوارق والنوادر، والله أعلم.
وقوله: ﴿رُطَبࣰا جَنِیࣰّا﴾ أي: كاملًا وصالًحا للجَنْي، وهو القَطْف.
وهنا أيضًا وقفة؛ إذ وقت نضج الرطب إنما يكون في الصيف وليس في الشتاء، وعليه فالتاريخ الميلادي الذي يعتمده النصارى اليوم، ويزعمون أنه يبدأ بولادة السيد المسيح لا يستقيم؛ لأن الولادة الميمونة ستكون في وسط الشتاء نهاية الشهر الثاني عشر، ولا يمكن أن يكون في هذا الوقت رُطَب، والله أعلم.
﴿نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَـٰنِ صَوۡمࣰا﴾ إمساكًا عن الكلام، وأصلُ الصوم: الإمساك والامتناع عمَّا هو مُعتاد من طعامٍ، أو شرابٍ، أو كلامٍ.
﴿شَیۡـࣰٔا فَرِیࣰّا﴾ أمرًا شنيعًا.
﴿یَـٰۤأُخۡتَ هَـٰرُونَ﴾ لم يرِد في القرآن ولا في السنَّة الصحيحة تعريف بهارُون هذا، ومُحالٌ أن تكون أختًا لهارُون أخي موسى عليهما السلام لفارق الزمن، والظاهر أنهم شبَّهوها به أو برجلٍ معروفٍ عندهم بالتقوى، كأنهم يقولون: يا شبيهةَ هارون، واستعمال الأخ والأخت لهذا الغرض معروف في اللغة، والله أعلم.
﴿ءَاتَىٰنِیَ ٱلۡكِتَـٰبَ﴾ أعطاني الإنجيل، واستعمل الفعل الماضي لتحقُّق وقوعه.
﴿یَمۡتَرُونَ﴾ يشكُّون ويختلفون، وقد أشار لهذا الاختلاف في الآية الآتية.
﴿فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَیۡنِهِمۡۖ﴾ مذاهب اليهود والنصارى من بين غالٍ حتى قال بألوهيَّته، وقَالٍ مُكذِّبٍ له وطاعن بأمه عليهما السلام.
﴿أَسۡمِعۡ بِهِمۡ وَأَبۡصِرۡ﴾ أي: ما أشدَّ سمعهم وبصرهم في ذلك اليوم.
﴿یَوۡمَ ٱلۡحَسۡرَةِ﴾ هو يوم القيامة؛ لأنه سيكون يوم ندم وملامة.
﴿إِنَّا نَحۡنُ نَرِثُ ٱلۡأَرۡضَ﴾ يخبر ربُّنا  أن هذه الأرض التي جعلها ميدانًا للتكليف والاختبار، ومنحها لهذا الإنسان على سبيل التخويل ستعود لله كما كانت قبل هذا التخويل والتكليف.