تبدأ هذه السورة بقصّة زكريَّا
عليه السلام وندائه الخفي لربه ـ أن يهبه غلامًا صالحًا بعد أن كبر سنُّه، ولم يُرزَق بولد، والقصَّة هذه كأنها تمهيد لموضوع السورة الأساس، ألا وهو قصَّة مريم وآيتها الكبرى بولادة عيسى
عليهما السلام، وقد كانت مريم في كفالة زكريَّا، وقد رأَت ما حصل، فكان هذا إعدادًا إيمانيًّا ونفسيًّا لها.
تجدُرُ الإشارة إلى أن الروح العائلية الحميمة ظاهرة في هذه السورة، فبعد الحديث عن زكريَّا ومريم، جاء الحديث عن إبراهيم
عليه السلام مع أبيه، ثم عن إبراهيم وبَنِيه إسماعيل وإسحاق ويعقوب، ثم عن موسى وأخيه
عليهم السلام، وهكذا، وكأنَّ القرآن يُقدِّم نماذجَ أسريَّة للاقتداء والتأسِّي، ثم في ثلث السورة الآخر يُحدِّثنا عن واقع البشريَّة بعد تلك النماذج، وما أصابها من تراجع وارتباك واختلاف.
وأما قصَّة زكريَّا وابنه
عليهما السلام فيمكن تلخيصها بحسب هذه السورة المباركة في النقاط الآتية:
أولًا: كان زكريّا
عليه السلام قد اشتعل رأسه شَيبًا، ووهن عظمه، لكنه لم يُرزق بولد، فأخذ يدعو ربه:
﴿إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَاۤءً خَفِیࣰّا ﴿٣﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّی وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّی وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَیۡبࣰا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَاۤىِٕكَ رَبِّ شَقِیࣰّا ﴿٤﴾ وَإِنِّی خِفۡتُ ٱلۡمَوَ ٰلِیَ مِن وَرَاۤءِی وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِی عَاقِرࣰا فَهَبۡ لِی مِن لَّدُنكَ وَلِیࣰّا ﴿٥﴾ یَرِثُنِی وَیَرِثُ مِنۡ ءَالِ یَعۡقُوبَۖ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِیࣰّا ﴿٦﴾ یَـٰزَكَرِیَّاۤ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـٰمٍ ٱسۡمُهُۥ یَحۡیَىٰ لَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ مِن قَبۡلُ سَمِیࣰّا﴾.
وقد جاء في دعائه هذا إشارات أنه كان يخشى على من بعده بسوء تصرُّفهم، وضياع العهد الذي يتركه لهم، وهو عهد الإيمان والنبوة والتقوى، فلم يكن يرى في مواليه - وهم عصَبَتُه وأقرباؤه - مَن هو أهلٌ لحَمل هذه الأمانة التي حملها زكريَّا عن آبائه وأجداده من آل يعقوب
عليهم السلام.
وأما التأويل أنَّ هذا كان خوفًا على ماله أن يذهب ويتفرَّق في عصَبَته، فهو تأويلٌ لا يلِيقُ بمقام الأنبياء
عليهم السلام، ثم ما الذي كان يملِكُه زكريَّا وهو رجلٌ نجَّارٌ يأكل من كسب يده، ولم يُعرف بالثراء، كما أخبر النبي
ﷺ في حديث مسلم؟.
وقد نصَّ في دعائه أنه يرجو الولد الذي يرثه ويرث من آل يعقوب، فهل ترك آل يعقوب أموالًا لدى زكريا؟ أو تركوا النبوة والعلم والهدى؟
وأخيرًا فالذي يدحَضُ هذا التأويل من أصله ما ورد في «البخاري» وغيره عن النبي
ﷺ أنه قال: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»، وقوله
ﷺ: «إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِيْنَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا العِلْمَ».
ثانيًا: استجابَ الله دعاءَ زكريَّا، وبشَّره بيحيى الذي لم يُسمَّ أحدٌ باسمِه من قبل
﴿یَـٰزَكَرِیَّاۤ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـٰمٍ ٱسۡمُهُۥ یَحۡیَىٰ لَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ مِن قَبۡلُ سَمِیࣰّا﴾.
ثالثًا: أظهر زكريَّا دهشَتَه وتعجُّبَه
﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ یَكُونُ لِی غُلَـٰمࣱ وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِی عَاقِرࣰا وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ ٱلۡكِبَرِ عِتِیࣰّا﴾، وهذا ليس على سبيل الشكِّ ولا الاستِبعاد؛ حيث إنه هو الذي دعا بهذا، ولو لم يكن يرجو لَمَا دعَا، ولكنه إظهارٌ جميلٌ لافتِقار العبد أمام قُدرة مولاه، ولجهلِه أمام علمه سبحانه، وفيه من تعظيم النعمة، وأنها لم تأتِ على عادة الناس، وكلّ هذا من كمال العبودية، وتمام الأدب والشكر.
رابعًا: طلب زكريَّا من ربه علامةً على بدء الحمل
﴿قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّیۤ ءَایَةࣰۖ﴾، وهو استعجالٌ يناسب طبيعة البشر في هذه البشارات، فأخبره الله تعالى بالعلامة:
﴿قَالَ ءَایَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَ لَیَالࣲ سَوِیࣰّا﴾ أي: أنه لن يقدر على الكلام طيلة هذه الليالي، بمعنى أن الله تعالى يسلب عنه القدرة على النطق فِيهنَّ، وهذه آيةٌ من الله وخرقٌ للعادة، وليس هو امتناعًا تكليفيًّا؛ لأن العمل التكليفي لا يصحُّ علامةً في هذا الأمر، والله أعلم.
خامسًا: واصَلَ زكريَّا دعوَتَه إلى الخير وتذكير الناس بالله، ولم ينشغل بشأنه الخاص
﴿فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنَ ٱلۡمِحۡرَابِ فَأَوۡحَىٰۤ إِلَیۡهِمۡ أَن سَبِّحُواْ بُكۡرَةࣰ وَعَشِیࣰّا﴾ أوحى إليهم؛ لأنه لا يقدر على الكلام، والوحيُ هنا: الإشارة.
سادسًا: بعث الله يحيى ليواصل دعوة أبيه كما كان يرجو الأب
عليهما السلام، واختصر القرآن حديثَه عن رسالة يحيى بهذه الكلمات:
﴿یَـٰیَحۡیَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَـٰبَ بِقُوَّةࣲۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِیࣰّا ﴿١٢﴾ وَحَنَانࣰا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةࣰۖ وَكَانَ تَقِیࣰّا ﴿١٣﴾ وَبَرَّۢا بِوَ ٰلِدَیۡهِ وَلَمۡ یَكُن جَبَّارًا عَصِیࣰّا ﴿١٤﴾ وَسَلَـٰمٌ عَلَیۡهِ یَوۡمَ وُلِدَ وَیَوۡمَ یَمُوتُ وَیَوۡمَ یُبۡعَثُ حَیࣰّا﴾.
إنها العلم والقوَّة والحُكم والتقوى والتواضع والمبرَّة بوالديه، هذه منظومة القيم التي جاء بها الأنبياء، وهي الكفيلة بإصلاح الفرد والمجتمع والأمة.