سورة مريم تفسير مجالس النور الآية 43

یَـٰۤأَبَتِ إِنِّی قَدۡ جَاۤءَنِی مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَمۡ یَأۡتِكَ فَٱتَّبِعۡنِیۤ أَهۡدِكَ صِرَ ٰ⁠طࣰا سَوِیࣰّا ﴿٤٣﴾

تفسير مجالس النور سورة مريم

المجلس الثاني والثلاثون بعد المائة: شذرات من سير النبيين


من الآية (41- 58)


بعد ذِكر ما جرى لزكريَّا وابنه يحيى، ثم لمريم وابنها المسيح عليهم السلام، عاد القرآن ليُذكِّر بإشاراتٍ سريعةٍ بنماذج أسبَق وأكثر عمقًا في التاريخ، إنه يُؤكِّد أنَّ رسالةَ الأنبياء في هذه الحياة واحدة مهما اختلفت أماكنهم، وتباعَدَت أزمانُهم، فلنَقِف مع هذه الشذَرَات المُبارَكات:
أولًا: حوار إبراهيم عليه السلام مع أبيه، حوار الابن البار بأبيه المشفق عليه: ﴿یَـٰۤأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا یَسۡمَعُ وَلَا یُبۡصِرُ وَلَا یُغۡنِی عَنكَ شَیۡـࣰٔا﴾ سؤال يمزج العقل بالعاطفة، والمعرفة بالوجدان، ثم يُطَمْئِنُ أباهُ أن نصيحته هذه ليست فكرة عابرة، أو ردَّة فعلٍ طائشة، لا، بل هي العلم الأكيد، العلم الموصِل إلى الحقِّ والحقيقة ﴿یَـٰۤأَبَتِ إِنِّی قَدۡ جَاۤءَنِی مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَمۡ یَأۡتِكَ فَٱتَّبِعۡنِیۤ أَهۡدِكَ صِرَ ٰ⁠طࣰا سَوِیࣰّا﴾ ثم يُكرِّر هذا الخطاب بعبارات مختلفة وأساليب متنوعة مرَّات ومرَّات، والله وحده يعلم كم كان بين المرة والأخرى.
فما كان مِن أبيه إلا أن يتوعَّده ويُهدِّده ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِی یَـٰۤإِبۡرَ ٰ⁠هِیمُۖ لَىِٕن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ﴾، فلم يجِد إبراهيم عليه السلام بُدًّا من الهجرة، لكنه ترك سلامًا ودودًا لأبيه مع أنه مُصِرٌّ على شركه وكفره ﴿قَالَ سَلَـٰمٌ عَلَیۡكَۖ سَأَسۡتَغۡفِرُ لَكَ رَبِّیۤۖ إِنَّهُۥ كَانَ بِی حَفِیࣰّا﴾ فلما اعتزل أباه وقومه عوَّضَه الله بذريَّةٍ صالحةٍ طيِّبةٍ ﴿فَلَمَّا ٱعۡتَزَلَهُمۡ وَمَا یَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبۡنَا لَهُۥۤ إِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَۖ وَكُلࣰّا جَعَلۡنَا نَبِیࣰّا﴾ وهنا يكون الربط والسياق الموحَّد مع القصَّتَين السابقتَين.
ثانيًا: اصطفاء الله لموسى عليه السلام ﴿وَٱذۡكُرۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مُوسَىٰۤۚ إِنَّهُۥ كَانَ مُخۡلَصࣰا وَكَانَ رَسُولࣰا نَّبِیࣰّا ﴿٥١﴾ وَنَـٰدَیۡنَـٰهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلۡأَیۡمَنِ وَقَرَّبۡنَـٰهُ نَجِیࣰّا ﴿٥٢﴾ وَوَهَبۡنَا لَهُۥ مِن رَّحۡمَتِنَاۤ أَخَاهُ هَـٰرُونَ نَبِیࣰّا﴾ هكذا، فكما وهَبَ الله لإبراهيم ولزكريَّا ولمريم ما تقَرُّ به عيُونُهم، وهَبَ هارون لموسى، هارون الأخ والنبيّ والعضيد، وفي قوله: ﴿وَوَهَبۡنَا﴾ تأكيدٌ لسياق الجوِّ العائلي لهذه السورة المباركة، وقد خصَّ الله موسى بتكليمه سبحانه: ﴿وَنَـٰدَیۡنَـٰهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلۡأَیۡمَنِ وَقَرَّبۡنَـٰهُ نَجِیࣰّا﴾.
ثالثًا: رعاية إسماعيل عليه السلام لأهله وحرصه عليهم ﴿وَٱذۡكُرۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ إِسۡمَـٰعِیلَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولࣰا نَّبِیࣰّا ﴿٥٤﴾ وَكَانَ یَأۡمُرُ أَهۡلَهُۥ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِۦ مَرۡضِیࣰّا﴾ وهي شذرةٌ تربويّةٌ أسريّةٌ تؤكِّد أيضًا السياق العام للسورة.
رابعًا: التذكير بأسماء عددٍ من الأنبياء بإشارات سريعة ﴿وَٱذۡكُرۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ إِدۡرِیسَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّیقࣰا نَّبِیࣰّا ﴿٥٦﴾ وَرَفَعۡنَـٰهُ مَكَانًا عَلِیًّا ﴿٥٧﴾ أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ مِن ذُرِّیَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحࣲ وَمِن ذُرِّیَّةِ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ وَإِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ وَمِمَّنۡ هَدَیۡنَا وَٱجۡتَبَیۡنَاۤۚ إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتُ ٱلرَّحۡمَـٰنِ خَرُّواْ سُجَّدࣰا وَبُكِیࣰّا ۩﴾ ويلحظ هنا تكرار كلمة ﴿ذُرِّیَّةࣰ﴾ في تأكيدٍ مستمرٍّ لسياق السورة وموضوعها الأساس.


﴿یَـٰۤأَبَتِ إِنِّی قَدۡ جَاۤءَنِی مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَمۡ یَأۡتِكَ فَٱتَّبِعۡنِیۤ أَهۡدِكَ صِرَ ٰ⁠طࣰا سَوِیࣰّا﴾ فيه أنَّ صراط الله المستقيم إنما يُعرف بالعلم، وليس بالجهل أو الخرافة مما يسمِّيه الناس إيمان العجائز، أو الدروشة البعيدة عن منهج الاستدلال والاستنباط.
وفيه أيضًا أنَّ الداعي إلى الحقِّ ينبغي أن يُظهِر ما عنده من العلم؛ لينال ثقة المدعوِّين بما عنده، والتذرُّع بالتواضع وكراهة الظهور تذرُّع فاسد، وقد مرَّ معنا قول السِّبط يوسف عليه السلام: ﴿قَالَ ٱجۡعَلۡنِی عَلَىٰ خَزَاۤىِٕنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمࣱ﴾ [يوسف: 55].
﴿مَلِیࣰّا﴾ زمنًا طويلًا.
﴿سَأَسۡتَغۡفِرُ لَكَ رَبِّیۤۖ﴾ أطلُبُ منه سبحانه أن يغفرَ لك ذنبكَ.
وهنا مسألةٌ دقيقةٌ، وخلاصةُ القول فيها: أنَّ استغفار المسلم لغيره إن كان بمعنى طلب الهداية له، فهذا أمرٌ مشروعٌ ولا غُبار عليه، وإن كان بمعنى طلب العفو عنه مع بقائه على الشرك، أو أنّه قد مات على الشرك، فهذا محظورٌ؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَغۡفِرُ أَن یُشۡرَكَ بِهِۦ وَیَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَ ٰ⁠لِكَ لِمَن یَشَاۤءُۚ﴾، وعلى هذا يُحمل قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِیِّ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ أَن یَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِینَ وَلَوۡ كَانُوۤاْ أُوْلِی قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَحِیمِ ﴿١١٣﴾ وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ لِأَبِیهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةࣲ وَعَدَهَاۤ إِیَّاهُ فَلَمَّا تَبَیَّنَ لَهُۥۤ أَنَّهُۥ عَدُوࣱّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ ﮊ﴾ [التوبة: 113، 114].
﴿إِنَّهُۥ كَانَ بِی حَفِیࣰّا﴾ من الحفاوة واللطف والإكرام.
﴿فَلَمَّا ٱعۡتَزَلَهُمۡ وَمَا یَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبۡنَا لَهُۥۤ إِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَۖ﴾ من زوجته التي هاجرت معه واعتزلت قومها أيضًا، وهذه مناسبة ذكر إسحاق دون إسماعيل، ثم أفرَدَ الله ذِكرَ إسماعيل لمناسبة أخرى، وهي رعايته لأهله وحرصه عليهم، كما مرَّ.
﴿وَنَـٰدَیۡنَـٰهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلۡأَیۡمَنِ﴾ أي: من الجانب الأيمن للطور بالنسبة لموقف موسى عليه السلام، والطور جبل معروف.
﴿وَقَرَّبۡنَـٰهُ نَجِیࣰّا﴾ أي: مُناجيًا.
﴿وَٱذۡكُرۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ إِدۡرِیسَۚ﴾ نموذجٌ آخر، وقد أفاد التذكيرُ به معنى العمق التاريخي الطويل لهذه الدعوة المباركة؛ حيث إنه عليه السلام عاشَ بين آدم ونوح، ومن ثَمَّ جاء التذكير بهما أيضًا لتأكيد هذا المعنى ﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ مِن ذُرِّیَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحࣲ﴾ عليهم وعلى نبيِّنا الأكرم صلواتُ الله وتسليماتُه.