سورة مريم تفسير مجالس النور الآية 62

لَّا یَسۡمَعُونَ فِیهَا لَغۡوًا إِلَّا سَلَـٰمࣰاۖ وَلَهُمۡ رِزۡقُهُمۡ فِیهَا بُكۡرَةࣰ وَعَشِیࣰّا ﴿٦٢﴾

تفسير مجالس النور سورة مريم

المجلس الثالث والثلاثون بعد المائة: حال الخلَف بعد أولئك النبيين


من الآية (59- 98)


بعد ما عرَضَه القرآن من سلسلة النماذج المباركة للنبيين السابقين وحالهم مع الله، وعناية الله بهم، واستجابته لدعائهم، ومدِّهم بأسباب الثبات، ومُواصلة المهمة الكبيرة بين ذويهم ومع قومهم، شرَعَ القرآن بتشخيصِ حال الخَلَف الذين جاءوا بعد طول العهد وتعاقب الأجيال، وهنا يسلِّط القرآن الضوءَ على حالةٍ واسعةٍ من الاختلاف واضطراب الرؤية، وشيُوع الانحراف عن ذلك النهج النبوي السديد، وهو في خِضَمِّ هذا التشخيص لا يفتَأُ عن التذكير والمحاورة، والترغيب والترهيب، ويمكن تلخيص ذلك في النقاط الآتية:
أولًا: إن الخلف بشكلٍ عام قد نكَصُوا عن ذلك الهدي النبوي ﴿۞ فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَ ٰ⁠تِۖ﴾ فاستحقُّوا بهذا العقاب الأخروي ﴿فَسَوۡفَ یَلۡقَوۡنَ غَیًّا﴾ ثم استثنى الله تعالى مَن تاب منهم وأصلح ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا یُظۡلَمُونَ شَیۡـࣰٔا﴾.
ثانيًا: ذكر القرآن بعد إضاعة الصلاة واتِّباع الشهوات حالةً أشدَّ وأبعَدَ عن ثوابت الإيمان، وهي التشكيك بالبعث والحياة الآخرة ﴿وَیَقُولُ ٱلۡإِنسَـٰنُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوۡفَ أُخۡرَجُ حَیًّا﴾ وهنا بدأ القرآن يُحاورُ هذا الصنف: ﴿أَوَلَا یَذۡكُرُ ٱلۡإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَـٰهُ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ یَكُ شَیۡـࣰٔا﴾ وإذ لم تنفع هذه المُحاججة العقلية يذهب القرآن إلى هزّ هذه النفوس من داخلها ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحۡشُرَنَّهُمۡ وَٱلشَّیَـٰطِینَ ثُمَّ لَنُحۡضِرَنَّهُمۡ حَوۡلَ جَهَنَّمَ جِثِیࣰّا﴾ إنّه التصوير الذي يُرهب الإنسان ويدفعه من داخله للتفكير في جدِّية الأمر وخطورته.
ثالثًا: يعرض القرآن سببًا غير مباشر للغفلة عن الآخرة والتشكيك بها ﴿وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتُنَا بَیِّنَـٰتࣲ قَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ لِلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ أَیُّ ٱلۡفَرِیقَیۡنِ خَیۡرࣱ مَّقَامࣰا وَأَحۡسَنُ نَدِیࣰّا ﴿٧٣﴾ وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَحۡسَنُ أَثَـٰثࣰا وَرِءۡیࣰا﴾ إنّه الترف إذن؛ الترف الذي يُعمي أهله ويشغلهم عن حقيقة أمرهم وما ينتظرهم في قابل أيامهم، هؤلاء الذين يظنُّون أنَّهم المُصطَفَون من دون خلق الله، وأنَّهم مُستحِقُّون لهذا الترف بحكم تميُّزهم عن الآخرين ﴿أَفَرَءَیۡتَ ٱلَّذِی كَفَرَ بِـَٔایَـٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَیَنَّ مَالࣰا وَوَلَدًا ﴿٧٧﴾ أَطَّلَعَ ٱلۡغَیۡبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحۡمَـٰنِ عَهۡدࣰا﴾.
رابعًا: ثم يعرض القرآن أشنَع الشناعات وأبشَع البشاعات التي انحدر إلى قاعها العقل البشري: ﴿وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ وَلَدࣰا ﴿٨٨﴾ لَّقَدۡ جِئۡتُمۡ شَیۡـًٔا إِدࣰّا ﴿٨٩﴾ تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تُ یَتَفَطَّرۡنَ مِنۡهُ وَتَنشَقُّ ٱلۡأَرۡضُ وَتَخِرُّ ٱلۡجِبَالُ هَدًّا ﴿٩٠﴾ أَن دَعَوۡاْ لِلرَّحۡمَـٰنِ وَلَدࣰا ﴿٩١﴾ وَمَا یَنۢبَغِی لِلرَّحۡمَـٰنِ أَن یَتَّخِذَ وَلَدًا ﴿٩٢﴾ إِن كُلُّ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّاۤ ءَاتِی ٱلرَّحۡمَـٰنِ عَبۡدࣰا﴾.
خامسًا: بيَّن القرآن أن مهمة هذه الرسالة الخاتمة إنَّما هي الدعوة إلى الحقِّ، والتبصير به، والبشارة لكلِّ راغبٍ به مُقبِلٍ عليه، والنذارة لكلِّ لَدُودٍ مُعانِدٍ مُخاصِمٍ ﴿فَإِنَّمَا یَسَّرۡنَـٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلۡمُتَّقِینَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمࣰا لُّدࣰّا﴾.


﴿۞ فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَ ٰ⁠تِۖ ﮯ﴾ الظاهر أنهم أتباع الأنبياء السابقين من اليهود والنصارى الذين طالَ بهم العهد فقَسَت قلوبهم، وابتَعَدوا عن هَدي أسلافهم، وفيه الإشارةُ إلى أهمية الصلاة، والتلازُم بين تركها وبين اتِّباع الشهوات، كما نبَّه في آيةٍ أخرى: ﴿إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَاۤءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ﴾ [العنكبوت: 45].
﴿فَسَوۡفَ یَلۡقَوۡنَ غَیًّا﴾ عذابًا أليمًا.
﴿جَنَّـٰتِ عَدۡنٍ﴾ جنات دائمة.
﴿كَانَ وَعۡدُهُۥ مَأۡتِیࣰّا﴾ يأتي الناس إليه فيرونه بعد أن كان لهم وعدًا غيبيًّا.
﴿وَلَهُمۡ رِزۡقُهُمۡ فِیهَا بُكۡرَةࣰ وَعَشِیࣰّا﴾ فهو رزقٌ دائمٌ غير منقطع.
﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَیۡنَ أَیۡدِینَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَیۡنَ ذَ ٰ⁠لِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِیࣰّا﴾ التفاتة في وسط السياق، والكلام هنا عن جبريل الذي يتنزل بهذا الوحي، فهو لا يتنزل من نفسه، وإنّما بأمر ربه، وأنّ الله لا ينسى - تبارك وتعالى عن ذلك -، والمقصود الكلِّيُّ لهذه الالتفاتة تأكيد صحة هذه الأخبار من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ، فالقرآن لا يتنزل برغبة النبيِّ ولا الملائكة، وإنّما بعلم الله الشامل وإرادته المطلقة سبحانه.
﴿هَلۡ تَعۡلَمُ لَهُۥ سَمِیࣰّا﴾ هل تعلم له شبيهًا ومُماثًلا في ذاته أو اسمه أو صفاته ـ؟
﴿أَوَلَا یَذۡكُرُ ٱلۡإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَـٰهُ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ یَكُ شَیۡـࣰٔا﴾ استدلالٌ على الخلق الثاني الذي يرتاب فيه المبطلون بالخلق الأول، فالذي خلقهم أوَّل مرةٍ قادر على إعادة خلقهم، بل هو بمقاييس البشر أهون وأيسر.
﴿ثُمَّ لَنُحۡضِرَنَّهُمۡ حَوۡلَ جَهَنَّمَ جِثِیࣰّا﴾ جاثون على ركبهم خائرون خائفون.
﴿ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِیعَةٍ أَیُّهُمۡ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحۡمَـٰنِ عِتِیࣰّا﴾ أي: لنخرجنَّ مِن كلِّ طائفةٍ وجماعةٍ قادَتهم وأكثرهم طغيانًا وظلمًا؛ ليراهم الناس مكشوفين مخزيين ثم يبدأ بهم العذاب.
﴿أَوۡلَىٰ بِهَا صِلِیࣰّا﴾ مَن يستحق أن يصلَى بنار جهنَّم.
﴿وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَاۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتۡمࣰا مَّقۡضِیࣰّا﴾ الخطاب لهؤلاء الجاثِين مع شياطينهم حول جهنَّم؛ دَفعًا لتوهُّم أنّ بُسطاءَهم مُبرَّؤون من العذاب بعد أن خصَّ العُتاة منهم وقادَةَ الشرِّ فيهم بنزعهم وإخراجهم أمام الملأ.
وما ورد من روايات حول تعميم هذا الخطاب لكلِّ الناس بمن فيهم أهل الإيمان لا ينهض لإخراج هذه الآية من سياقها، بل ولا ينهض لتغيير صورة الوعد والوعيد الكليَّة التي أكَّدها القرآن بمئات الآيات؛ أنَّ الوعد بالجنة للتُّقاة المؤمنين، وأنَّ الوعيد بالنار للعصاة الكافرين، وهذا محلُّ اتفاق جميع المفسِّرين؛ أنَّ الأتقياء لا يدخلون النار مُطلقًا، ولكنهم حينما أرادوا الجمع بين هذا الأصل القرآني المحكم وبين تلك الروايات فسَّروا ورودَ المتقين على النار بمرورهم عليها مِن فوق الصراط، وهو مخرجٌ لا يضرُّ، لكنه لا يخلو من التكلُّف.
﴿ثُمَّ نُنَجِّی ٱلَّذِینَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّـٰلِمِینَ فِیهَا جِثِیࣰّا﴾ مَعاذَ الله أن يكون الذين اتقَوا قد دخَلُوها مع هؤلاء الظالمين، وإنَّما الكلام عن حالَتَين منفصلَتَين، والربط بينهما إنَّما جاء لزيادة إيلام هؤلاء الظالمين، و﴿ﮛ﴾ هنا لا تحتمل الترتيب الزمني، حتى لو كان الورود بمعنى المرور على الصراط، فهؤلاء المتقون لن يطول وقوفهم للحساب إلى أن يُقضى لأهل النار بالنار، والله أعلم.
﴿وَأَحۡسَنُ نَدِیࣰّا﴾ أحسن مجلسًا، كأنهم يتباهون بمجالسهم وحاشيتهم وأسباب نعيمهم.
﴿أَحۡسَنُ أَثَـٰثࣰا وَرِءۡیࣰا﴾ متاعًا وزخرفًا وبهرجةً.
﴿فَلۡیَمۡدُدۡ لَهُ ٱلرَّحۡمَـٰنُ مَدًّاۚ﴾ خبر بصيغة الأمر، بمعنى أن الله هو الذي يمدُّ هؤلاء الطغاة بهذا المتاع وهذا البهرج، ويزيد لهم بالنعم.
﴿وَٱلۡبَـٰقِیَـٰتُ ٱلصَّـٰلِحَـٰتُ خَیۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابࣰا وَخَیۡرࣱ مَّرَدًّا﴾ الأعمال الصالحة هي الباقيات، وهي الأكثر خيرًا والأدوم نفعًا، و﴿ﰈ﴾ عاقبةً.
﴿وَنَمُدُّ لَهُۥ مِنَ ٱلۡعَذَابِ مَدࣰّا﴾ نزيد له في العذاب، وهذا مُناسِبٌ لمدِّه بالنعم في الحياة الدنيا التي لم يزدَد بها إلا كفرًا وعنادًا وتكبُّرًا على عبادِ الله.
﴿وَنَرِثُهُۥ مَا یَقُولُ وَیَأۡتِینَا فَرۡدࣰا﴾ نرِثُ منه ما كان يقول عنه ويتباهى به؛ المال والولد، فهذه ودائع كانت بيده على سبيل التخويل لا التأبيد.
﴿تَؤُزُّهُمۡ أَزࣰّا﴾ تُحرِّكُهُم وتدفعُهُم دفعًا لكلِّ ما فيه شرُّهم وشقاؤهم.
﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمۡ عَدࣰّا﴾ فكلُّ شيءٍ بميزانٍ وحسابٍ؛ آجالهم وأرزاقهم، وما هم فيه، وما هم صائرون إليه.
﴿یَوۡمَ نَحۡشُرُ ٱلۡمُتَّقِینَ إِلَى ٱلرَّحۡمَـٰنِ وَفۡدࣰا﴾ جماعات بعضهم مع بعض؛ ليزدادوا أُنسًا وبهجةً، وفي الوفد معنى الاحتفاء والتكريم.
﴿وَنَسُوقُ ٱلۡمُجۡرِمِینَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرۡدࣰا﴾ كالقطيع الذي يساق إلى مورده.
﴿لَّا یَمۡلِكُونَ ٱلشَّفَـٰعَةَ إِلَّا مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحۡمَـٰنِ عَهۡدࣰا﴾ استثناءٌ منقطعٌ معناه أنّ هؤلاء ليست لهم شفاعة ولا يقدرون عليها، ولكن الذين يشفعون هم أولئك الذين وعدهم الله بها، كالنبيين والصديقين والشهداء، وهؤلاء لا يشفعون إلا لمن ارتضى.
﴿لَّقَدۡ جِئۡتُمۡ شَیۡـًٔا إِدࣰّ﴾ منكرًا عظيمًا.
﴿لَّقَدۡ أَحۡصَىٰهُمۡ وَعَدَّهُمۡ عَدࣰّا﴾ عَلِمَهُم واحدًا واحدًا، ولم يغِب عن علمه منهم أحد، كأنه يقول لهم: فمِن أين يأتي هذا الذي تزعُمُون أنه ابنٌ لله؟  ربُّنا العظيم عن مثل هذا القول الأثيم.
﴿سَیَجۡعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحۡمَـٰنُ وُدࣰّا﴾ سيجعل لهم المودَّة والمحبَّة التامَّة فيما بينهم مع محبَّة الله لهم، في إشارةٍ إلى أنّ من كان بينه وبين أخيه شيء في الدنيا فإنه سيذهب ويحلّ محله الودّ والحبّ.
﴿قَوۡمࣰا لُّدࣰّا﴾ شديدي الخصومة، في إشارةٍ إلى كفَّار قريش.
﴿أَوۡ تَسۡمَعُ لَهُمۡ رِكۡزَۢا﴾ صَوتًا.