يقول تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها}؛ وهي: استقبال بيت المقدس أولاً، {إلا لنعلم}؛ أي: علماً يتعلق به الثواب والعقاب، وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها، ولكن هذا العلم لا يعلق عليه ثواباً ولا عقاباً لتمام عدله وإقامة الحجة على عباده، بل إذا وجدت أعمالهم ترتب عليها الثواب والعقاب، أي شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن {من يتبع الرسول}؛ ويؤمن به فيتبعه على كل حال لأنه عبد مأمور مدبر، ولأنه قد أخبرت الكتب المتقدمة أنه يستقبل الكعبة فالمنصف الذي مقصوده الحق مما يزيده ذلك إيماناً وطاعة للرسول، وأما من انقلب على عقبيه وأعرض عن الحق واتبع هواه فإنه يزداد كفراً إلى كفره وحيرة إلى حيرته ويدلي بالحجة الباطلة المبنية على شبهة لا حقيقة لها {وإن كانت}؛ أي: صرفك عنها {لكبيرة}؛ أي: شاقة {إلا على الذين هدى الله}؛ فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم وشكروا وأقروا له بالإحسان حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم الذي فضله على سائر بقاع الأرض وجعل قصده ركناً من أركان الإسلام وهادماً للذنوب والآثام، فلهذا خفَّ عليهم ذلك وشقَّ على من سواهم. ثم قال تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم}؛ أي: ما ينبغي له ولا يليق به تعالى بل هي من الممتنعات عليه، فأخبر أنه ممتنع عليه ومستحيل أن يضيع إيمانكم، وفي هذا بشارة عظيمة لمن منَّ الله عليهم بالإسلام والإيمان بأن الله سيحفظ عليهم إيمانهم فلا يضيعه، وحفظه نوعان: حفظ عن الضياع والبطلان بعصمته لهم عن كل مفسد ومزيل له ومنقص من المحن المقلقة والأهواء الصادة، وحفظ بتنميته لهم وتوفيقهم لما يزداد به إيمانهم ويتم به إيقانهم، فكما ابتدأكم بأن هداكم للإيمان فسيحفظه لكم ويتم نعمته بتنميته وتنمية أجره وثوابه وحفظه من كل مكدر، بل إذا وجدت المحن التي المقصود منها تبيين المؤمن الصادق من الكاذب فإنها تمحص المؤمنين وتظهر صدقهم، وكأن في هذا احترازاً عما قد يقال أن قوله: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}؛ قد يكون سبباً لترك بعض المؤمنين إيمانهم فدفع هذا الوهم بقوله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم}؛ بتقديره لهذه المحنة أو غيرها، ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة فإن الله لا يضيع إيمانهم لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها، وطاعة الله امتثال أمره في كل وقت بحسب ذلك. وفي هذه الآية دليل لمذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح. وقوله: {إن الله بالنَّاسِ لرءوفٌ رحيمٌ}؛ أي: شديد الرحمة بهم عظيمها، فمن رأفته ورحمته بهم أن يُتِمَّ عليهم نعمته التي ابتدأهم بها، وأن ميز عنهم من دخل في الإيمان بلسانه دون قلبه، وأن امتحنهم امتحاناً زاد به إيمانهم وارتفعت به درجتهم، وأن وجههم إلى أشرف البيوت وأجلها.