يقول تعالى:
{الشهر الحرام بالشهر الحرام} يحتمل أن يكون المراد به ما وقع من صد المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه عام الحديبية عن الدخول لمكة وقاضوهم على دخولها من قابل، وكان الصد والقضاء في شهر حرام وهو ذو القعدة فيكون هذا بهذا، فيكون فيه تطييب لقلوب الصحابة بتمام نسكهم وكماله، ويحتمل أن يكون المعنى أنكم إن قاتلتموهم في الشهر الحرام، فقد قاتلوكم فيه وهم المعتدون، فليس عليكم في ذلك حرج، وعلى هذا فيكون قوله:
{والحرمات قصاص}؛ من باب عطف العام على الخاص، أي كل شيء يحترم من شهر حرام أو بلد حرام أو إحرام، أو ما هو أعم من ذلك جميع ما أمر الشرع باحترامه، فمن تجرأ عليها فإنه يقتص منه: فمن قاتل في الشهر الحرام قوتل، ومن هتك
البلد الحرام أخذ منه الحد ولم يكن له حرمة، ومن قتل مكافئاً له قتل به، ومن جرحه، أو قطع عضواً منه اقتص منه، ومن أخذ مال غيره المحترم؛ أخذ منه بدله، ولكن هل لصاحب الحق أن يأخذ من ماله بقدر حقه أم لا؟ خلاف بين العلماء، الراجح من ذلك أنه إن كان سبب الحق ظاهراً كالضيف إذا لم يقره غيره، والزوجة والقريب إذا امتنع من تجب عليه، النفقة من الإنفاق عليه، فإنه يجوز أخذه من ماله، وإن كان السبب خفيًّا كمن جحد دَيْن غيره أو خانه في وديعة أو سرق منه ونحو ذلك، فإنه لا يجوز له أن يأخذ من ماله مقابلة له جمعاً بين الأدلة، ولهذا قال تعالى توكيداً وتقوية لما تقدم:
{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}؛ هذا تفسير لصفة المقاصة وأنها هي المماثلة في مقابلة المعتدي. ولما كانت النفوس ـ في الغالب ـ لا تقف على حدها إذا رخص لها في المعاقبة لطلبها التشفي أمر تعالى بلزوم تقواه التي هي الوقوف عند حدوده وعدم تجاوزها وأخبر تعالى أنه
{مع المتقين}؛ أي: بالعون و
النصر والتأييد والتوفيق، ومن كان الله معه حصل له السعادة الأبدية، ومن لم يلزم التقوى تخلى عنه وليه، وخذله فَوَكَلَه إلى نفسه، فصار هلاكه أقرب إليه من حبل الوريد.