هذه الأعمال الثلاثة هي عنوان السعادة وقطب رَحَى العبودية، وبها يعرف ما مع الإنسان من الربح والخسران، فأما الإيمان فلا تسأل عن فضيلته وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأهل الجنة من أهل النار، وهو الذي إذا كان مع العبد قبلت أعمال الخير منه، وإذا عدم منه لم يقبل له صرف ولا عدل ولا فرض ولا نفل، وأما الهجرة فهي مفارقة المحبوب المألوف لرضا الله تعالى فيترك المهاجر وطنه وأمواله وأهله وخلانه تقرباً إلى الله ونصرة لدينه، وأما الجهاد فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء، والسعي التام في نصرة دين الله وقمع دين الشيطان، وهو ذروة الأعمال الصالحة وجزاؤه أفضل الجزاء، وهو السبب الأكبر لتوسيع دائرة الإسلام، وخذلان عباد الأصنام وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، فمن قام بهذه الأعمال الثلاثة على لأوائها ومشقتها، كان لغيرها أشد قياماً به وتكميلاً، فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة، وفي هذا دليل على أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة، وأما الرجاء المقارن للكسل وعدم القيام بالأسباب فهذا عجز وتمنٍّ وغرور، وهو دالٌّ على ضعف همة صاحبه، ونقص عقله، بمنزلة من يرجو وجود الولد بلا نكاح، ووجود الغلة بلا بذر وسقي ونحو ذلك. وفي قوله: {أولئك يرجون رحمة الله}؛ إشارة إلى أن العبد ولو أتى من الأعمال بما أتى به لا ينبغي له أن يعتمد عليها ويعول عليها، بل يرجو رحمة ربه ويرجو قبول أعماله ومغفرة ذنوبه وستر عيوبه، ولهذا قال: {والله غفور}؛ أي: لمن تاب توبة نصوحاً، {رحيم}؛ وسعت رحمته كلَّ شيء وعمَّ جُودُه وإحسانُه كلَّ حيٍّ، وفي هذا دليل على أن من قام بهذه الأعمال المذكورة حصل له مغفرة الله، إذ الحسنات يذهبن السيئات، وحصلت له رحمة الله، وإذا حصلت له المغفرة اندفعت عنه عقوبات الدنيا والآخرة التي هي آثار الذنوب التي قد غفرت، واضمحلت آثارها، وإذا حصلت له الرحمة حصل على كل خير في الدنيا والآخرة، بل أعمالهم المذكورة من رحمة الله بهم، فلولا توفيقه إياهم لم يريدوها، ولولا إقدارهم عليها، لم يقدروا عليها ولولا إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم، فله الفضل أولاً وآخراً وهو الذي مَنَّ بالسبب والمسبب، ثم قال تعالى: