هذان دليلان عظيمان محسوسان في الدنيا قبل الآخرة على البعث والجزاء، واحد أجراه الله على يد رجل شاك في البعث على الصحيح كما تدل عليه الآية الكريمة، والآخر على يد خليله إبراهيم، كما أجرى دليل التوحيد السابق على يده. فهذا الرجل مرَّ على قرية قد دمرت تدميراً وخوت على عروشها قد مات أهلها وخربت عمارتها، فقال على وجه الشك والاستبعاد: {أنى يحيي هذه الله بعد موتها}؟ أي: ذلك بعيد وهي في هذه الحال، يعني وغيرها مثلها بحسب ما قام بقلبه تلك الساعة، فأراد الله رحمته ورحمة الناس حيث أماته الله مئة عام، وكان معه حمار فأماته معه، ومعه طعام وشراب فأبقاهما الله بحالهما كل هذه المدد الطويلة. فلما مضت الأعوام المائة بعثه الله فقال: {كم لبثت قال: لبثت يوماً أو بعض يوم}؛ وذلك بحسب ما ظنه، فقال الله: {بل لبثت مائة عام}؛ والظاهر أن هذه المجاوبة على يد بعض الأنبياء الكرام. ومن تمام رحمة الله به وبالناس أنه أراه الآية عياناً ليقتنع بها، فبعد ما عرف أنه ميت قد أحياه الله قيل له: انظر {إلى طعامك وشرابك لم يتسنه}؛ أي: لم يتغير في هذه المُدَد الطويلة. وذلك من آيات قدرة الله فإن الطعام والشراب خصوصاً ما ذكره المفسرون أنه فاكهة وعصير لا يلبث أن يتغير وهذا قد حفظه الله مئة عام وقيل له: {انظر إلى حمارك}؛ فإذا هو قد تمزق وتفرق وصار عظاماً نخرة، {وانظر إلى العظام كيف ننشزها}؛ أي: نرفع بعضها إلى بعض ونصل بعضها ببعض بعدما تفرقت وتمزقت {ثم نكسوها}؛ بعد الالتئام {لحماً}؛ ثم نعيد فيه الحياة {فلما تبين له}؛ رأيَ عين لا يقبل الريب بوجه من الوجوه {قال أعلم أن الله على كل شيء قدير}؛ فاعترف بقدرة الله على كل شيء وصار آية للناس، لأنهم قد عرفوا موته وموت حماره وعرفوا قضيته ثم شاهدوا هذه الآية الكبرى. هذا هو الصواب في هذا الرجل. وأما قول كثير من المفسرين: أن هذا الرجل مؤمن أو نبي من الأنبياء إما عزير أو غيره وأن قوله: {أنى يحيي هذه الله بعد موتها}؛ يعني كيف تعمر هذه القرية بعد أن كانت خراباً، وأن الله أماته ليريه ما يعيد لهذه القرية من عمارتها بالخلق وأنها عمرت في هذه المدة وتراجع الناس إليها وصارت عامرة بعد أن كانت دامرة، فهذا لا يدل عليه اللفظ بل ينافيه، ولا يدل عليه المعنى، فأي آية وبرهان برجوع البلدان الدامرة إلى العمارة، وهذه لم تزل تشاهد تعمر قرى ومساكن، وتخرب أخرى، وإنما الآية العظيمة في إحيائه بعد موته وإحياء حماره وإبقاء طعامه وشرابه لم يتعفن ولم يتغير، ثم قوله: {فلما تبين له}؛ صريح في أنه لم يتبين له إلا بعدما شاهد هذه الحال الدالة على كمال قدرته عيانا.