سورة البقرة تفسير مجالس النور الآية 142

۞ سَیَقُولُ ٱلسُّفَهَاۤءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ ٱلَّتِی كَانُواْ عَلَیۡهَاۚ قُل لِّلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ یَهۡدِی مَن یَشَاۤءُ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ ﴿١٤٢﴾

تفسير مجالس النور سورة البقرة


المجلس التاسع: تمييز الهويَّة


من الآية (142- 158)



القضيَّة المحوريَّة في هذه الحلقة هي تمييز الهويَّة الإسلاميَّة، وهي هويَّة الأمَّة الجديدة والمستخلفة بعد خسارة الأمَّة السابقة لهذا الدور الكبير.

وتظهر هنا أهميَّة تمييز هذه الهويَّة لتتميَّز الأمّة نفسها؛ بحيث سفَّه القرآن تلك العقول التي لا تدرك قيمة هذا التمييز ﴿سَیَقُولُ ٱلسُّفَهَاۤءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ ٱلَّتِی كَانُواْ عَلَیۡهَا﴾
في مقابل هؤلاء كان رسول الله مُدرِكًا لخطورة الأمر، ومتعجِّلًا في حسمه ﴿قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِی ٱلسَّمَاۤءِ ۖ فَلَنُوَلِّیَنَّكَ قِبۡلَةࣰ تَرۡضَىٰهَا﴾ إن اختيار المسجد الحرام قبلة للمسلمين لهو أبعَد من تفضيل مكانٍ على مكانٍ ﴿قُل لِّلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُ﴾، وإنما لتمييز الأمَّة: ﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ جَعَلۡنَـٰكُمۡ أُمَّةࣰ وَسَطࣰا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاۤءَ عَلَى ٱلنَّاسِ﴾.

وقد أشار القرآن إلى إدراك أهل الكتاب لهذا الأمر وأهميَّته وتبِعاته على خلاف السفهاء الذين لا يعلمون ﴿وَإِنَّ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ لَیَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا یَعۡمَلُونَ (١٤٤) وَلَىِٕنۡ أَتَیۡتَ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ بِكُلِّ ءَایَةࣲ مَّا تَبِعُواْ قِبۡلَتَكَۚ وَمَاۤ أَنتَ بِتَابِعࣲ قِبۡلَتَهُمۡۚ وَمَا بَعۡضُهُم بِتَابِعࣲ قِبۡلَةَ بَعۡضࣲۚ ﴾ إن الأمم على اختلاف ثقافاتها لتسعى إلى هذا التمايز الذي يحفظ لها هُويَّتها ووجودها، سواء أكانت على الحقِّ أم كانت على الباطل، وهذا ما يؤكِّده القرآن في هذه الآيات، وإنَّ الأمم الضائعة والتائهة والآيلة إلى الزوال هي تلك التي لا تعتزُّ بهويتها، ولا بما يميِّزها عن غيرها.
ثم تناول القرآن قانونًا لا يتغيَّر في حراك الأمم والمجتمعات الإنسانيَّة، ألا وهو الصراع الحتمي، والذي يتخذ أكثر من طابع وأكثر من مبرِّر، لكن ﴿صراع الهويَّة﴾ هو السِّمة الغالبة على هذا الحراك؛ ومن هنا بدأ القرآن يُعِدُّ هذه الأمة لمواجهة هذا التحدَّي الحتمي، فبدأ بقوله: ﴿لِئَلَّا یَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَیۡكُمۡ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِی﴾، ثم أضاف: ﴿ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَعِینُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ (١٥٣) وَلَا تَقُولُواْ لِمَن یُقۡتَلُ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰ⁠تُۢۚ بَلۡ أَحۡیَاۤءࣱ وَلَـٰكِن لَّا تَشۡعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَیۡءࣲ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَ ٰ⁠لِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِینَ ﴾.
إن مجيء هذه الآيات مباشرة بعد الحديث عن القِبْلة وما تمثَّله للأمَّة الوسط ليحمل دلالة قاطعة على حتميَّة المواجهة مع الباطل، فوجود راية الحقِّ الواضحة في مكان ما على هذه الأرض يستفزُّ الباطل لا محالة.



﴿ سَیَقُولُ ٱلسُّفَهَاۤءُ مِنَ ٱلنَّاسِ ﴾ الأقرب أن السفاهة هنا الجهل، والظاهر أنه أراد مُشركي العرب ومنافقيهم، وقد اعترضوا على تغيير القبلة؛ لأنَّهم لم يفهموا الغاية والحكمة منه، بخلاف أهل الكتاب الذين يعلمون الحق، ويعلمون جِدِّيَّة الأمر وخطورته، وإن كان فيهم من سَفَهٍ فهو سفهُ القصد والنيَّة، لا سفه الجهل والغفلة.

﴿أُمَّةࣰ وَسَطࣰا﴾ الوسطيَّة هي الاعتدال والتوازن، ومَن فسَّرها بالأفضليَّة والشرف الأعلى فهو مُحقُّ للتلازم الذي بينهما، كما قيل: خير الأمور أوسطُها.

والوسطيَّة غير التوسُّط، والذي يطلق في الغالب على موقف بين موقفين متقابلين، وهذا لا يكون حقًّا وعدلًا بالضرورة، فالتوحيد يقابله الشرك، والتوحيد هو الحقُّ، وليس الحق بأن تتوسَّط بينهما.

ومن لطائف القدر أن تكون الجزيرة العربية - وهي مهبط الوحي - في وسط الكرة الأرضيَّة العامرة، وبُعدها عن أقصى الشرق كبعدها عن أقصى الغرب، وليست هذه لازمة لمعنى الوسطيَّة القرآنيَّة، مع ما فيها من حكمةٍ ربَّانيَّةٍ لا تخفى.

﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَاۤءَ عَلَى ٱلنَّاسِ﴾ الشهادة عِلَّة للوسطيَّة، فخيريَّة الأمة وعدالتها سبب في استحقاقها لتكون شاهدة على الأمم الأخرى، والشهادة هنا الحُكم، بمعنى: أنّها ملكت المعيار الصحيح الذي تحكم به على سلوك الأمم الأخرى استقامةً أو انحرافًا، ثباتًا أو تبديلًا، والظاهر أن من يملك هذه الشهادة إنما هم العلماء العُدول، والأمة تَبَعٌ لهم في ذلك، والله أعلم.

﴿وَیَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَیۡكُمۡ شَهِیدࣰا﴾ إشارة إلى أن هذه الأمة محكومة بالمعيار نفسه الذي تحكم به على الآخرين، فالرسول يحكم بنفسه على من كان معه من المؤمنين، ثم يحكم بهديه وسنَّته على الآخرين.

﴿وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِی كُنتَ عَلَیۡهَاۤ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن یَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن یَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَیۡهِ﴾ الاختبار في اتباع الرسول وارد هنا في الحالتَين:

التوجُّهُ أولًا إلى بيت المقدس كان اختبارًا للمؤمنين من العرب، والذين كانوا يعتزُّون بالكعبة.
والتوجُّهُ الثاني للكعبة كان اختبارًا للمؤمنين من أهل الكتاب، الذين كانوا يعتزُّون ببيت المقدس، ويُنكِرون استدباره في الصلاة.

وقوله تعالى: ﴿لِنَعۡلَمَ﴾ محمولٌ على الكناية؛ أي: لتعلموا، وهو شائع في اللغة، ولأن المقطوع به أنّ الله يعلم الحوادث قبل وقوعها، ولا يستجدّ له علم بحدوثها.
﴿شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ﴾ أطلق المسجد وأراد الكعبة، فمن كان في المسجد أو خارجه، القريب والبعيد، المقيم والمسافر عليهم قصد الكعبة في الصلاة.
فإن قيل: هذا متعذِّر على البعيد.

قلنا: إن الواجب تحقيق القصد، بأن ينوي المصلي التوجُّهَ إلى عين الكعبة، فإن لم يُصِبها فهو معذور وصلاته صحيحة، وهذا يفرق عن قول من قال: إن قصد العين فرض القريب، وقصد الجهة فرض البعيد، فقِبلة المسلمين واحدة، واستحضارها في الصلاة على اختلاف بقاعهم يُعزِّز في النفس الانتماء للهويَّة الواحدة، والله أعلم.

﴿وَلِكُلࣲّ وِجۡهَةٌ هُوَ مُوَلِّیهَاۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَیۡرَ ٰ⁠تِ﴾ بمعنى: أن كل جماعة متمسِّكة بوِجْهتِها عن إيمان وصدق، أو عن تكبُّر وعصبيَّة، والمطلوب هو البحث عن الخيرِ والحقِّ، وليس العيب أن يغيّر المرْءُ وَلاءَه إن تبيّن له الحق في الجهة المقابلة، وإنما العيب هو التعصب للجماعة أو القبيلة بلا بيِّنة ولا دليل.

وهنا إشارة إلى أنَّ الأمم حتى لو بقيت متمسّكة بما عندها عليها أن تتنافس في تقديم الخير لهذه الحياة، فأبواب الخير واسعةٌ، وكلّما زادت مساحة الخير نقصت مساحة الشر، وتقارب الناس في قيم العدل والتعاون والتكافل والرحمة العامّة، فهذه -بلا شك- تخفّف من الآثار المؤذية للخلافات الدينيّة والفكرية.

﴿ٱلَّذِینَ إِذَاۤ أَصَـٰبَتۡهُم مُّصِیبَةࣱ قَالُوۤاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـاۤ إِلَیۡهِ رَ ٰ⁠جِعُونَ﴾ إشارة إلى أن المسلم ينبغي أن يبقى على ذكر الله في كل أحواله، يشكر على النعمة، ويصبر على المصيبة، ويستغفر عند الذنب، ويقرأ القرآن، ويصلِّي على رسول الله ، ويذكر الموت والبِلَى، فالذكر إنما هو إيقاظ لمعاني الإيمان كلها، ولذلك كان أفضل الأعمال عند الله.

﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ عَلَیۡهِمۡ صَلَوَ ٰ⁠تࣱ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةࣱۖ﴾ الصلاةُ من الله: الرحمة، وجمَعها لإفادة التنوُّع والكثرة والتكرار؛ إذ الرحمة تشمل العفوَ والمغفرةَ، ومضاعفةَ الحسنات، واستجابة الدعوات، ثمّ عطف عليها لفظ الرحمة؛ تأكيدًا وترسيخًا وبيانًا، والله أعلم.

﴿إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَاۤىِٕرِ ٱلـلَّــهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَیۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِ أَن یَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ من شعائر الله أي: من العلامات الإيمانيَّة الظاهرة، فهما إذَنْ من معالم الهويَّة الإسلاميَّة، وقد أشكَلَ على بعض المسلمين التطواف بينهما لمحل الشَّبَهِ بالمشركين في تعظيمهما؛ ولذاك جاء الجواب: ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ أي: لا حرج، مع أنه - أي: التطواف بينهما -من النُّسُك الواجب.

وفي هذا إشارة إلى أن التشابه في بعض الأعمال والشعائر مع المِلَل والأمم الأخرى لا يضر، لأن هذه الجزئيات منصهرة في الهويَّة الإسلامية العامَّة والشاملة.
وهنا إشارة أخرى أن التطواف بهما لا يكون إلا في حجٍّ أو عمرةٍ، بخلاف الطواف بالكعبة فيشرع في كل حال.