سورة البقرة تفسير مجالس النور الآية 160

إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَیَّنُواْ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ أَتُوبُ عَلَیۡهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ ﴿١٦٠﴾

تفسير مجالس النور سورة البقرة


المجلس العاشر: أسباب الضلال


من الآية (159- 176)



القضية الكبرى التي يعرضها القرآن في هذا المقطع هي أسباب الضلال والانحراف عن الصراط المستقيم، ومناسبتها أن القرآن كان قد عرض في المقطع السابق اختلاف التوجهات وتمسك كلّ أمةٍ أو جماعةٍ بما عندها ولو كان باطلًا.
وهنا شرع القرآن بأسباب هذا التمسُّك أو التعصُّب:

أولًا: كتمان العلم:
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡتُمُونَ مَاۤ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَیَّنَّـٰهُ لِلنَّاسِ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ أُوْلَــٰۤىِٕكَ یَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَیَلۡعَنُهُمُ ٱللَّـٰعِنُونَ﴾ وقد استحقَّ هؤلاء كلَّ هذا الوعيد الشديد؛ لأنَّ جريمتهم متعدَّيةٌ إلى جمهور الناس، فهم المؤتمنون على الوحي بعد الأنبياء، وقد خانوا هذه الأمانة بكتمانها عن عمدٍ وقصدٍ، والآية عامة تشمل كل كاتم للهدي الرباني، ولكنَّها تشمل أهل الكتاب الذين حرَّفوا الكتاب من باب أَولَى، فالتحريف زيادة في الكتمان وقطْعٌ لسبيل الوصول إلى منبع الهَدْي.

وإذا كان الله قد تعهَّد بحفظ القرآن فلا سبيل لتحريفه، فإن هناك من يرتكب تحريفًا آخر وهو التحريف الاستنباطي، وهذا واقع في أمّة الإسلام؛ حيث يعمد بعض من أعطاهم الله العلم إلى لَيِّ النصوص وصرفها عمدًا عن معانيها لاستنباط معنًى آخر، يتقرَّب به إلى ذي سلطان أو ذي جاه ومصلحة، وهؤلاء داخِلُون في هذا الوعيد.

ثانيًا: تعطيل الفكر:
وهذه خطيئة العامَّة، فهم لا يفكرون، ويُسلِمون عقولهم وقلوبهم لغيرهم بلا وعيٍ ولا تمييزٍ، وقد أشار القرآن إلى هذا السبب عند عرضه لآيات الله الواضحات في هذا الكون الفسيح، ثم عقَّب بقوله: ﴿لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ﴾، وقد أكَّد هذا المعنى بقوله: ﴿كَمَثَلِ ٱلَّذِی یَنۡعِقُ بِمَا لَا یَسۡمَعُ إِلَّا دُعَاۤءࣰ وَنِدَاۤءࣰۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡیࣱ فَهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ﴾.
وبقدر ما يعطِّل الإنسان مَدَاركَه المعرفيَّة فإنَّه سيضطر للتقليد الأعمى لا محالة.

ثالثًا: غلبة العاطفة على العقل:
وهذا دافع آخر للتقليد الأعمى، فالتعلُّق العاطفي بالأسماء والصور والهيئات المتلبسة بلبوس الدين يُعمي القلب عن ملاحظة الأخطاء والخطايا التي كثيرًا ما تُرتكب باسم الدين نفسِه، وقد ربط القرآن بين هذه العاطفة الغافلة وبين اتّباع دعاة الضلال ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادࣰا یُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِ﴾.

رابعًا:التقليد الأعمى:
وهذه نتيجة متوقَّعة للمقدمتين السابقتين؛ تعطيل الفكر وغلبة العاطفة، والتقليد قد يكون للمتبوعين من أصحاب النفوذ والسلطان - كما مرَّ -، وقد يكون تعصُّبًا لما كان عليه الآباء والأجداد ﴿وَإِذَا قِیلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَاۤ أَلۡفَیۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَاۤ﴾ وغالبًا ما يكون الأول في الدول والمجتمعات المنظَّمَة سياسيًّا واقتصاديًّا، بينما يكون الثاني في المجتمعات البِدائيَّة.

خامسًا: الخصومة والعداوة:
وهي التي تحصل بين الأفراد والأحزاب والجماعات فتمنعهم من الاستماع لبعضهم، وتُغلق فيهم منافذ المعرفة، فيرفضون الحقَّ لا لذاته، بل لأنه جاء على لسان من يخاصمونه ويعادونه ﴿ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ ۗ وَإِنَّ ٱلَّذِینَ ٱخۡتَلَفُواْ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ لَفِی شِقَاقِۭ بَعِیدࣲ﴾.

والشقاق هنا هو النزاع والخصومة كقوله تعالى: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَیۡنِهِمَا﴾ [النساء: 35]، وهذا ليس الاختلافَ الاجتهاديَ الذي مَبْعثُه عميق النظر في النصِّ ودلالته، فهذا الاجتهاد يؤدّي إلى الاختلاف لا محالة ، لكنَّه اختلاف تنوُّعٍ وسعةٍ ورحمةٍ ومودّةٍ، ويستحق كلاهما الأجر أو الأجرين، كما هو معلوم.



﴿إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَیَّنُواْ ﴾ دليل أنّ توبة العالم الكاتم لعلمه والمحرِّف لحكم ربه لا تصح دون تبيين ما كتم وإصلاح ما أفسد، وهي مهمَّة ثقيلة لا تحتملها الجبال لو فطن لها أولئك المبتلَون بهذا المرض، والعياذ بالله.

﴿وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَیۡنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ ﴾ تفسير لقوله: ﴿ وَمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مِن مَّاۤءࣲ ﴾ فالسماء هو العلوّ ومنه السحاب، وليس المقصود به هنا الفَلك الذي يقابل الأرض والذي هو سبع سماوات كما يخبر القرآن.

﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُواْ لَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّةࣰ فَنَتَبَرَّأَ مِنۡهُمۡ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّاۗ كَذَ ٰ⁠لِكَ یُرِیهِمُ ٱللَّهُ أَعۡمَـٰلَهُمۡ حَسَرَ ٰ⁠تٍ عَلَیۡهِمۡۖ ﴾ هذا التلاوم بين الأتباع والمتبوعين حينما تنكشف الحقيقة الكاملة للطرفين في ذلك اليوم، فيتحوَّل التقليد إلى ملامةٍ وندم، ويتحوَّل الحبُّ إلى حسراتٍ، والجزاء من جنس العمل.

﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ حَلَـٰلࣰا طَـیِّـبࣰا وَلَا تَـتَّـبِعُواْ خُطُوَ ٰ⁠تِ ٱلشَّیۡطَـٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوࣱّ مُّبِینٌ﴾، و﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَیِّبَـٰتِ مَا رَزَقۡنَـٰكُمۡ﴾ لها مناسبة دقيقة هنا وهي: أنَّ الله لا يريد العنَتَ والمشقَّة لهذا الإنسان، فمن كان يتنكَّر لدين الله طمعًا في مصلحته العاجلة، وإيثارًا للدنيا على الآخرة فقد باءَ بشقاء الدارَين، فخطوات الشيطان ستُبعِده عن طيِّبات الدنيا قبل طيِّبات الآخرة، كما قال في موضع آخر: ﴿وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِی فَإِنَّ لَهُۥ مَعِیشَةࣰ ضَنكࣰا ﴾ [طه: 124].

وفي هذا السياق يأتي تحديد ما حرَّمه الله من الطعام؛ الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ به لغير الله أي ما يُتقرَّب به للأصنام، فهذه لا تُشكِّل شيئًا بالنسبة لما خلقه الله من أنواع الرزق، ومع هذا رخَّص للضرورة أكل هذه المحرَّمات بما تندفع به الضرورة ﴿غَیۡرَ بَاغࣲ وَلَا عَادࣲ﴾ أي: غير راغبٍ بأكل الحرام، ولا متجاوزًا لحدِّ الضرورة.

﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡتُمُونَ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَیَشۡتَرُونَ بِهِۦ ثَمَنࣰا قَلِیلًا ﴾ هذه الآية أضافت معنًى جديدًا للآية الأولى، وهو بيان الدافع لهذا الكتمان، وهو إيثارهم المصالح الدنيوية على ما عندهم من الحق.

﴿وَلَا یُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ﴾ هذه عقوبةٌ من جِنس عملهم، فهم قد كتَمُوا كلام الله في الدنيا بعد أن خصَّهم الله به، فحجب عنهم كلامه يوم القيامة.