سورة البقرة تفسير مجالس النور الآية 180

كُتِبَ عَلَیۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَیۡرًا ٱلۡوَصِیَّةُ لِلۡوَ ٰ⁠لِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِینَ ﴿١٨٠﴾

تفسير مجالس النور سورة البقرة


المجلس الحادي عشر: بناء المجتمع


من الآية (177- 182)


قضية هذا المقطع الجوهريَّة هي بناء المجتمع وفق هوية متميِّزة ومنظومة قِيمِيَّة واضحة، وهي أيضًا قضية المقاطع الآتية بشيءٍ من التفصيل:

أولًا: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهي تفصيل لما بدأت به السورة ﴿یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ﴾ وهذه هي أركان الإيمان إلا القدر فإنَّه مضمَّن في الإيمان بالله؛ إذ هو إيمان بعلمه تعالى وإرادته وقدرته، والإيمان بالغيب بهذه الأركان هو أساس الهويَّة الإسلاميَّة، وأساس التمايز بين المجتمع المسلم وغيره.
ثانيًا: التكافل الاجتماعي: ﴿وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِ وَٱلسَّاۤىِٕلِینَ وَفِی ٱلرِّقَابِ﴾ فالإيمان بالغيب يُنتِجُ هذا التكافلَ والتراحمَ، وعكسه صحيح أيضًا، قال تعالى: أَرَءَیۡتَ ٱلَّذِی یُكَذِّبُ بِٱلدِّینِ (١) فَذَ ٰ⁠لِكَ ٱلَّذِی یَدُعُّ ٱلۡیَتِیمَ (٢) وَلَا یَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِینِ﴾ [الماعون: 1- 3].

ثالثًا: عبادة الله وحده: ﴿وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ﴾ وقَرَنَ الزكاة هنا بالصلاة إشارة لمعناها التعبُّدي، إضافةً لمعناها التكافلي الذي مرَّ في النقطة الأولى، أما الصوم والحج فستأتي أحكامهما مفصلة بعد هذا المقطع.

رابعًا: الأخلاق، وقد ذكر منها ثلاثة: الوفاء، والصبر، والصدق: ﴿وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَـٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِینَ فِی ٱلۡبَأۡسَاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ وَحِینَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ صَدَقُواْ﴾.
وقد تضمَّن النص خُلُقًا رابعًا، وهو الشجاعة، وذلك في قوله: ﴿وَحِینَ ٱلۡبَأۡسِ﴾ والبأس هو القتال والحرب، ولا شك أنّ هذه الأخلاق الأربعة هي أمّهات الأخلاق، والله أعلم.

خامسًا: العدل في الدماء: ﴿وَلَكُمۡ فِی ٱلۡقِصَاصِ حَیَوٰةࣱ یَـٰۤأُوْلِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ﴾ والقصاص أشمل من القتل وأدقُّ: أشملُ لأنه يتناول القتل والجراح والضرب، وأدقُّ لأن القصاص مضَمَّن معنى العدل ومقابلة العدوان، وهذا بخلاف قولهم: ﴿الحكم بقتل القاتل﴾، أو ﴿القتل أنفى للقتل﴾؛ لأن القتلَ الأول قد يكون مشروعًا، كما في حالة الدفاع عن النفس ونحوه.

سادسًا: العدل في الأموال: ﴿كُتِبَ عَلَیۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَیۡرًا ٱلۡوَصِیَّةُ لِلۡوَ ٰ⁠لِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِینَ (١٨٠) فَمَنۢ بَدَّلَهُۥ بَعۡدَ مَا سَمِعَهُۥ فَإِنَّمَاۤ إِثۡمُهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ یُبَدِّلُونَهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ (١٨١) فَمَنۡ خَافَ مِن مُّوصࣲ جَنَفًا أَوۡ إِثۡمࣰا فَأَصۡلَحَ بَیۡنَهُمۡ فَلَاۤ إِثۡمَ عَلَیۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ ﴾.



﴿لَّیۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ﴾ البرُّ هو الإحسان، وهو مقياس الخيريَّة في الأمم والمجتمعات والأفراد، وإنما يتحقق بالسلوك والعمل الصالح وما يُقدِّمُه المرءُ لإخوانه، وهذا ما فصَّلَه القرآن في المقطع وفي غيره، أما المجادلة في التوجّه جهة الشرق أو الغرب فهي لا تُثمِر نتيجةً في تقديم هذا المجتمع وتأخير ذاك.

وهي إشارة أيضًا للمسلمين أنَّ مقياس البرِّ إنما هو الأسس الإيمانيَّة والعمليَّة والأخلاقيَّة، أما المنافسة في الشعائر الظاهرة؛ كإطالة اللحى، وتقصير الثياب، والإكثار من العمرة، فهذه لوحدها لا تصلح مقياسًا للتفاضل، والله أعلم.
﴿وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ﴾ إشارة إلى أنَّ حبَّ المالِ ليس مُنكرًا، فهو مغروس في فطرة الخَلْق، إنّما العبرة في الإنفاق منه مع حبّه فهذا أقرب لتحقيق التقوى وقصد القربى، وذلك بخلاف من اعتاد تبذير ماله بوجه ومن غير وجه.
﴿ذَوِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ﴾ من دون اشتراط فقرهم إشارة أنّ صلة الرحم ومواساة اليتامى مقصودة ومحبوبة بالصِلة والهديَّة ونحوها، أما الزكاة فلا تصح لهما إلا مع الفقر والحاجة.

﴿وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِ﴾ هو المنقطع عن ماله وأهله لسفرٍ ونحوه؛ كمن انقطع بسبب حَبْس وحصار، فلا مانع من قياسه على من انقطع به السبيل، والله أعلم.
﴿وَٱلسَّاۤىِٕلِینَ﴾ إشارة إلى أنَّ السائل لا يُردُّ ﴿وَأَمَّا ٱلسَّاۤىِٕلَ فَلَا تَنۡهَرۡ﴾ [الضحى: 10]، لكنّه إن عُرف غناه حُرِم من الزكاة قطعًا، من غير توبيخٍ أو إهانة، ولا بأس بالنصح الشخصي دون إعلانٍ أو غيبةٍ.

﴿وَفِی ٱلرِّقَابِ﴾ إعتاق العبيد بإعانة المُكاتَب الذي يطلب حريّته بفداء، وكذاك فكاك الأسرى، والله أعلم.

﴿ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰ﴾ صريحة في القصاص من الحُرِّ إذا قَتل حُرًّا، وفي القصاص من العبد إذا قَتل عبدًا، وفي القصاص من الأنثى إذا قَتلت أنثى، وهذا غاية العدل مهما كان الفارق بين القاتل والمقتول في كل هذه الصور، أما إذا اختلف الصِّنفُ بأن قتل الرجلُ امرأةً، أو الحرُّ عبدًا فالنصُّ لا يتناوله صراحة لا بإيجابٍ ولا بسلبٍ، لكنَّ لفظ القصاص الوارد في مقدِّمة النصِّ وفي خاتمته يُوحي بشمول القصاص لكل هذه الحالات أيضًا.

يعضد هذا قوله تعالى في موضع آخر: ﴿ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ﴾ [المائدة: 45]، فيكون ذكر الحرِّ بالحرِّ، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى تأكيدًا للقصاص، وتفصيلًا له، وردًّا للمغالاة والتعدِّي بمجاوزة القاتل إلى أهله وعشيرته طلبًا للأُبَّهة والتعالي المحرَّم، والله أعلم.

﴿فَمَنۡ عُفِیَ لَهُۥ مِنۡ أَخِیهِ شَیۡءࣱ﴾ دلالة على أن خصومة القتل لا تنفي أخُوَّة الإيمان، والتذكير بها هنا نافع للتشجيع على العفو، والله أعلم.

﴿فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَاۤءٌ إِلَیۡهِ بِإِحۡسَـٰنࣲۗ﴾ أي: عند الرجوع إلى الدِّية أو العِوَض المادّي بالتنازل عن القصاص، فعلى وليّ المقتول أن يطلب حقَّه بالمعروف والحُسنى فلا يَتَعَسّف في تحصيل حقّه، وعلى القاتل أن يؤدِّي ما ثبت عليه ديةً أو عوضًا بإحسانٍ بلا مماطلةٍ ولا نقصان.

﴿كُتِبَ عَلَیۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَیۡرًا ٱلۡوَصِیَّةُ لِلۡوَ ٰ⁠لِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَ﴾ توزيع مال المتوفّى على الوالدين والأقربين فصَّلته آيات المواريث، وهذه الآية ينبغي فهمُها في ضوء تلك الآيات، ودعوى النسخ لا تُقبل طالما أمكن الجَمْع، والجَمْعُ واردٌ هنا، فمن فَرَض الله له فريضة فلا يُوصَى له بشيء، وغيره داخل في الوصيَّة؛ مثل الوالد المختلف دينه عن ابنه المتوفى، ومثل الأقرِباء والرَّحِم الذين لا يَرِثُون.

وهناك الوصيّة للوالدين والأقربين بالحقوق التي هي ليست إرْثًا؛ إذ يكثر بين هؤلاء التداخل المالي في العقارات الموروثة سابقًا، والشراكات والذمم المختلفة من مَهْر، ونفقة، وأجرة، وضمان تالف، ونحو هذا كثير، والله أعلم.

﴿فَإِنَّمَاۤ إِثۡمُهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ یُبَدِّلُونَهُۥۤ ﴾ دلالة على رفع الإثم عن الميت إذا وصّى، وتحميله على من بدَّل الوصيَّة، وإشارة إلى أن الفرد لا يقدر على تبديل الوصيَّة من دون توافق مع الكاتب والشهود؛ ولذا جاء بصيغة الجمع، والله أعلم.

﴿فَمَنۡ خَافَ مِن مُّوصࣲ جَنَفًا أَوۡ إِثۡمࣰا فَأَصۡلَحَ بَیۡنَهُمۡ فَلَاۤ إِثۡمَ عَلَیۡهِ﴾ خَافَ معناها هنا: الخوف المحقق أو الراجح من وجود الظلم في الوصيَّة؛ إما بالجَنَف، وهو الخطأ والنسيان ونحوهما، وإما بالإثم، وهو تعمُّد الظلم.

فالواجب على الحاضر أن يُذكِّرَ المُوصِي بالحقِّ، ويحذِّرَه من الظلم، وعلى القاضي أو وليِّ الأمر إذا حصل نزاعٌ بين الورثة وأصحاب الحقوق أن يحكُمَ بالحقِّ، وأن يُعطِي لكل ذي حقٍّ حقَّه، وإن كان ذاك على خلاف الوصيَّة، وقال: ﴿فَلَاۤ إِثۡمَ عَلَیۡهِ﴾ لرفع توهُّم الإثم بمخالفته الوصيَّة، وليس فيه دلالة على التخيير؛ إذ الظلم محرَّم، ورفعه واجب على كل قادر.