سورة البقرة تفسير مجالس النور الآية 185

شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ فِیهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدࣰى لِّلنَّاسِ وَبَیِّنَـٰتࣲ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡیَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِیضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرࣲ فَعِدَّةࣱ مِّنۡ أَیَّامٍ أُخَرَۗ یُرِیدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡیُسۡرَ وَلَا یُرِیدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ﴿١٨٥﴾

تفسير مجالس النور سورة البقرة


المجلس الثاني عشر: رسالة الصوم


من الآية (183- 189)



بعد بيان دَور العبادة في صناعة البِرِّ والإحسانِ شَرَعَ القرآنُ في تفصيل رسالة الصوم، كونه ركنًا من أركان الإسلام، وعبادةً من أهمِّ العبادات:

أولًا: غاية الصوم الكبرى، وهي تحقيق الولاية لله؛ ذاك لأن القرآن جمع في آية الصوم الإيمان والتقوى ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلصِّیَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَـتَّـقُونَ﴾ وجعل الصوم جسرًا واصِلًا بين الإيمان والتقوى، وهذان هما شرطا الولاية ﴿أَلَاۤ إِنَّ أَوۡلِیَاۤءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ (٦٢) ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ یَتَّقُونَ﴾ [يونس: 62، 63].

ثانيًا: ربط الصوم بمصدر الإسلام الأول عقيدة وشريعة، ألا وهو القرآن ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ فِیهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدࣰى لِّلنَّاسِ وَبَیِّنَـٰتࣲ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِ﴾ وهذا التذكير مقصود؛ ليكون رمضان هو شهر القرآن تلاوةً وتدبُّرًا وتعمُّقًا.

وهذا جانبٌ تربويٌّ عظيمٌ يستشعِرُه المسلمون عامة في هذا الشهر الكريم، فتُملأ بيوتُهم ومساجدهم بدويّ القرآن ليلًا ونهارًا، مما يصبغ هذا الشهر بصبغة خاصة، مع أن القرآن جاء لكلِّ الأيام ولكلِّ الشهور والدهور، ومن ناحية أخرى فالقرآن يمدُّ رمضان بأدوات تحقيق رسالته الكليّة وهي تَحقُّق الولاية الربَّانيَّة، إذ لا يمكن للمسلم أن يحقق رسالة الصوم ما لم تتحقق فيه رسالة الإسلام الكليَّة.

ثالثًا: الصوم يحفظ حقوق الناس وأموالهم، وهذا أثرٌ من آثار التقوى، فقد جاءت آيات الصيام بين آيات المال، فقبلها كان الكلام عن الوصيَّة وتدخّل المجتمع لرفع الخطأ والظلم فيها، وبعدها جاء قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوۤاْ أَمۡوَ ٰ⁠لَكُم بَیۡنَكُم بِٱلۡبَـٰطِلِ﴾.

وعلاقة الصوم بهذا أنَّ الصوم يُقوِّي في نفس المسلم العزيمة على ترك الأكل الحلال الذي اعتاده في باقي الأيَّام فصبره عن أكل الحرام من باب أَولَى.
رابعًا: الصوم مظنَّة استجابة الدعاء، وهذا أثرٌ من آثار الولاية، فقد جعل الله آية الدعاء وسط آيات الصوم ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِی عَنِّی فَإِنِّی قَرِیبٌۖ أُجِیبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ إشارة إلى أنّ الصوم يجعل العبد قريبًا من ربِّه، وهو من عاجل جزائه على حسن تعبّده.

خامسًا: الصوم فرصة للتزوّد من العبادات الأخرى ﴿ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّیَامَ إِلَى ٱلَّیۡلِۚ وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَـٰكِفُونَ فِی ٱلۡمَسَـٰجِدِ﴾ إشارة إلى أن الاعتكاف يكون مع الصوم، وهو ما أكَّدته السنَّة؛ حيث كان يعتكِفُ في رمضان، وفي العشرِ الأواخر منه خاصَّة﴿ ﴾.

سادسًا: اليُسر مع الصوم، فالمشقَّة مرفوعة ﴿یُرِیدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡیُسۡرَ وَلَا یُرِیدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾ وإنما أكَّد هذا في آيات الصوم مع أنه قاعدة تشريعيَّة عامَّة؛ لمظنَّة حصول المشقَّة مع الصوم كما في حالَتَي المرض والسفر، وقد اقترن هذا أيضًا بإباحة المعاشرة الزوجيَّة في ليلة الصيام وكل ليالي رمضان؛ لحاجة الناس إلى ذلك، مع أنَّ رمضان موسم للتبتُّل والانقِطاع للعبادة.

سابعًا: الشكر على أداء الصوم: ﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ دلالة على أن التوفيق لإتمام العبادة نعمة، وهي تستحقُّ الشكر، وفي هذا تربية للنفوس المؤمنة على استشعار الافتقار الدائم لرحمة الله ومدده حتى في حال العبادة، فلا يغترَّنَّ عابِدٌ بعبادته.

ثامنًا: التكبير: ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ﴾ هذا الشعار العظيم الذي يميِّز هذه الأمَّة عن غيرها تمييزًا يعلن عن هويّتها وقوّتها، وعنوان طريقها، إنه مع كونه ذِكرًا لا يختلف عن التسبيح والتحميد والاستغفار والصلاة على رسول الله من حيث قصد القربى والتعبُّد، واستحصال الخير والبركة، إلا أنه مع كل هذا هو شعار هذه الأمة في مجالات حياتها المختلفة، فهو الكلمة الأولى في الصلاة، وهو الصوت المسموع في الأذان، وهو هتاف المسلمين في مواجهة الخطوب والتحدِّيات.



﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ﴾ أي: أهل الكتاب، والشَّبَه حاصل في أصل الصوم ولا يشترط لتحققه التشابه في كل أحكامه وهيئاته، والله أعلم.
وفي الآية دلالة أيضًا على وحدة المصدر لكل الرسالات السماوية.

﴿أَیَّامࣰا مَّعۡدُودَ ٰ⁠تࣲۚ﴾ وهي تسعة وعشرون أو ثلاثون يومًا بحسب الأهلَّة، وقد فَسَّرَت الآية التالية المقصودَ بهذه الأيام ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ﴾، وإنما قدَّم الأيَّام المعدودات؛ لما فيها من التهوين والتخفيف.

﴿مَن كَانَ مِنكُم مَّرِیضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرࣲ فَعِدَّةࣱ مِّنۡ أَیَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِینَ یُطِیقُونَهُۥ فِدۡیَةࣱ طَعَامُ مِسۡكِینࣲۖ﴾ هذه في أصحاب الأعذار، وقد قسَّمتهم الآيةُ إلى قسمَين:
- أصحاب العُذر الطارئ الذي يُتوقَّع زواله؛ كالسفر وبعض المرض، فهؤلاء عليهم القضاء بعد رمضان في أيام أخر.
- وأصحاب العُذر الدائم، وهم: ﴿ٱلَّذِینَ یُطِیقُونَهُۥ﴾ بمعنى: الاستطاعة مع الجهد وتوقُّع الضرر؛ كالشيخ الطاعن في السنِّ، والمريض الذي لا يُرجى بُرؤه، فهؤلاء ليس عليهم قضاء، وإنما عليهم إطعامُ مِسكين واحد عن كل يوم، وفي هذا إشارةٌ لارتباط الصوم بالإحسان، والله أعلم.

﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ فِیهِ ٱلۡقُرۡءَانُ﴾ إشارة لحكمة اختيار رمضان محلًّا للصوم، وإشارة أيضًا لصلة الصوم بالقرآن وترغيب الصائمين بتلاوة القرآن وتدبُّره واستنباط الهدى والفرقان من آياته.

﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡیَصُمۡهُ﴾ أمر بالصوم تأكيدًا لما ورد أولًا: ﴿كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلصِّیَامُ﴾ وقال: شهد الشهر، ولم يقل: الهلال؛ إشارةً إلى أنَّ المقصود إدراك الشهر نفسه، وأما الهلال فهو علامة الشهر، ولا مانع من أن تجِدَّ علامة أخرى أكثر دقَّة من الرؤية البصريّة للهلال، وهذا ليس فيه مخالفة لنصوص السنَّة الواردة في الرؤية؛ لأنَّ الرؤية كانت الطريقة الوحيدة لإدراك الشهر.

ونظير هذا: ذكر القرآن لرباط الخيل في الجهاد، وما هو إلا وسيلة لتحقيق المقصود، وهذه الوسيلة تغيَّرت اليوم بوسائل أسرع وأشد وأمضى في العدوِّ، وأقرب لتحقيق المقصود، والله أعلم.

﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ﴾ أي: الأيَّام المعدودات وهي أيَّام رمضان كاملة تسعة وعشرون أو ثلاثون لا فرق بينهما أداءً أو قضاءً.

﴿وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ إشارة إلى أنَّ التكبير شكر، وفيه أن الشكر يتأتى بالعبادات؛ من ذكر، ونافلة صلاة وصوم، والله أعلم.

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِی عَنِّی فَإِنِّی قَرِیبٌۖ أُجِیبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ توجيه السائل إلى ما ينفعه، فالسؤال عن الله فيه جوانب كثيرة، واتجاه القرآن للجانب العملي مقصود في التربية بما ينفع، وترك المسائل النظرية والفلسفية التي لا تنتج عملًا.

﴿فَلۡیَسۡتَجِیبُواْ لِی وَلۡیُؤۡمِنُواْ بِی﴾ الإيمان مقدَّم على الاستجابة، والاستجابة لا تصح من دون إيمان، ولكنه قدّمها هنا إيذانا بشرطيَّتها المباشرة في استجابة الدعاء، شرطيَّة الاستحقاق، فالذي يستجيب لنداء ربّه كلما ناداه في كل أمر وفريضة فإنه يستحق استجابة الله له، وأما من قصَّرَ في ذلك فهو موكول إلى رحمة الله وعفوه وكرمه.

﴿أُحِلَّ لَكُمۡ لَیۡلَةَ ٱلصِّیَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَاۤىِٕكُمۡ﴾ أي: مباشرتهنَّ، وهذا من التيسير بعد أن شقَّ على المسلمين التنزُّه عنه كلَّ رمضان ﴿أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَیۡكُمۡ﴾ وهذا من التدرُّج في التشريع، ومراعاة حال الناس، والتدرُّج له صورتان:
تدرُّجٌ من الأشدِّ إلى الأخف؛ لتعريف الناس برحمة الله، وأنه لا يريد العَنَتَ بهم، كما في هذه الآية.
وتدرُّجٌ من الأخف نحو الأشد، كما في قصَّة تحريم الخمر؛ وهذا لأن منع الخمر مقصود أساسًا، وجرى التلطُّف والتدرُّج لتمكُّن الخمر من نفوس الناس، بحيث يشقُّ عليهم تركه جملةً واحدةً.

﴿هُنَّ لِبَاسࣱ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسࣱ لَّهُنَّ﴾ تعليل لذلك التخفيف؛ فإن شدة الاحتكاك والتلبُّس بينهما طيلة الليل توقعهما في حَرَج التنزُّه عن المباشرة، وفيه إشارة أن الرجل يستر المرأة ويُغنِيها عن الحرام وهي كذلك، وفيه تذكير وترغيب بخُلُق الستر، وكتم ما بينهما من أمور خاصّة، والله أعلم.

﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَیۡطُ ٱلۡأَبۡیَضُ مِنَ ٱلۡخَیۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِ﴾ تأكيد أن الإمساك يبدأ بتبيُّن الفجر بيانًا لا شكَّ فيه تحرُّزا من الوسواس والاختلاف، فالتقوى امتثال للأمر، والاحتياط في المشتبهات فقط، وليس هنا أمر مشتبه، فإذا انشقَّ الفجر وحان وقت الصلاة وجب الإمساك، ولا حاجة للاحتياط، والله أعلم.

﴿وَلَا تَأۡكُلُوۤاْ أَمۡوَ ٰ⁠لَكُم بَیۡنَكُم بِٱلۡبَـٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَاۤ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ﴾ إشارة إلى أن قضاء الحاكم بما تيسّر عنده من أدلَّةٍ وبيِّناتٍ لا يُحلُّ حرامًا ولا يحرِّمُ حلالًا، ولا تَبْرَأ به الذمَّة أمام الله، وإن وجب الالتزام به فهو التِزامٌ لحَسمِ الخُصُومة واحترام النظام العام، والقاضي معذور إن لم يتعمَّد الإثم والمُحاباة لقرابة أو رشوة، وإلا فإن إثمَه أكبر من الطرف الآكل لمال غيره.

﴿یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّـةِۖ قُلۡ هِیَ مَوَ ٰ⁠قِیتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ﴾ فالهلال علامة دخول الشهر، والتوقيتات الشرعيّة مستندة إلى ذلك في الصوم والحج والعِدّة ونحوها، وقد اتخذه المسلمون شعارًا لهم، وهو من التعبير السائغ عن اعتزاز الأمّة بهويتها، كما تواطَؤُوا على ستارة الكعبة بألوانها وزخرفتها، حتى غَدَت صورة الكعبة في ضمير المسلمين هي هذه، وليس في هذا حرج؛ إذ هو ليس تشريعًا مُضافًا، ولا بدعة بقصد القُربى، والله أعلم.

﴿وَأۡتُواْ ٱلۡبُیُوتَ مِنۡ أَبۡوَ ٰ⁠بِهَا﴾ إشارة لاتِّباع الحكمة، والأخذ بالأسباب، ووضع كل شيء في مكانه، وإنزال الناس منازلهم، وتقدير الأمور ومعرفة مداخلها ومخارجها، وفيه أمر بدخول البيوت من أبوابها استئناسًا واستئذانًا، والله أعلم.