﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ﴾ أي: أهل الكتاب، والشَّبَه حاصل في أصل الصوم ولا يشترط لتحققه التشابه في كل أحكامه وهيئاته، والله أعلم.
وفي الآية دلالة أيضًا على وحدة المصدر لكل الرسالات السماوية.
﴿أَیَّامࣰا مَّعۡدُودَ ٰتࣲۚ﴾ وهي تسعة وعشرون أو ثلاثون يومًا بحسب الأهلَّة، وقد فَسَّرَت الآية التالية المقصودَ بهذه الأيام
﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ﴾، وإنما قدَّم الأيَّام المعدودات؛ لما فيها من التهوين والتخفيف.
﴿مَن كَانَ مِنكُم مَّرِیضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرࣲ فَعِدَّةࣱ مِّنۡ أَیَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِینَ یُطِیقُونَهُۥ فِدۡیَةࣱ طَعَامُ مِسۡكِینࣲۖ﴾ هذه في أصحاب الأعذار، وقد قسَّمتهم الآيةُ إلى قسمَين:
- أصحاب العُذر الطارئ الذي يُتوقَّع زواله؛ كالسفر وبعض المرض، فهؤلاء عليهم القضاء بعد رمضان في أيام أخر.
- وأصحاب العُذر الدائم، وهم:
﴿ٱلَّذِینَ یُطِیقُونَهُۥ﴾ بمعنى: الاستطاعة مع الجهد وتوقُّع الضرر؛ كالشيخ الطاعن في السنِّ، والمريض الذي لا يُرجى بُرؤه، فهؤلاء ليس عليهم قضاء، وإنما عليهم إطعامُ مِسكين واحد عن كل يوم، وفي هذا إشارةٌ لارتباط الصوم بالإحسان، والله أعلم.
﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ فِیهِ ٱلۡقُرۡءَانُ﴾ إشارة لحكمة اختيار رمضان محلًّا للصوم، وإشارة أيضًا لصلة الصوم بالقرآن وترغيب الصائمين بتلاوة القرآن وتدبُّره واستنباط الهدى و
الفرقان من آياته.
﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡیَصُمۡهُ﴾ أمر بالصوم تأكيدًا لما ورد أولًا:
﴿كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلصِّیَامُ﴾ وقال: شهد الشهر، ولم يقل: الهلال؛ إشارةً إلى أنَّ المقصود إدراك الشهر نفسه، وأما الهلال فهو علامة الشهر، ولا مانع من أن تجِدَّ علامة أخرى أكثر دقَّة من الرؤية البصريّة للهلال، وهذا ليس فيه مخالفة لنصوص السنَّة الواردة في الرؤية؛ لأنَّ الرؤية كانت الطريقة الوحيدة لإدراك الشهر.
ونظير هذا: ذكر القرآن لرباط الخيل في الجهاد، وما هو إلا وسيلة لتحقيق المقصود، وهذه الوسيلة تغيَّرت اليوم بوسائل أسرع وأشد وأمضى في العدوِّ، وأقرب لتحقيق المقصود، والله أعلم.
﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ﴾ أي: الأيَّام المعدودات وهي أيَّام رمضان كاملة تسعة وعشرون أو ثلاثون لا فرق بينهما أداءً أو قضاءً.
﴿وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ إشارة إلى أنَّ التكبير شكر، وفيه أن الشكر يتأتى بالعبادات؛ من ذكر، ونافلة صلاة وصوم، والله أعلم.
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِی عَنِّی فَإِنِّی قَرِیبٌۖ أُجِیبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ توجيه السائل إلى ما ينفعه، فالسؤال عن الله فيه جوانب كثيرة، واتجاه القرآن للجانب العملي مقصود في التربية بما ينفع، وترك المسائل النظرية والفلسفية التي لا تنتج عملًا.
﴿فَلۡیَسۡتَجِیبُواْ لِی وَلۡیُؤۡمِنُواْ بِی﴾ الإيمان مقدَّم على الاستجابة، والاستجابة لا تصح من دون إيمان، ولكنه قدّمها هنا إيذانا بشرطيَّتها المباشرة في استجابة الدعاء، شرطيَّة الاستحقاق، فالذي يستجيب لنداء ربّه كلما ناداه في كل أمر وفريضة فإنه يستحق استجابة الله له، وأما من قصَّرَ في ذلك فهو موكول إلى رحمة الله وعفوه وكرمه.
﴿أُحِلَّ لَكُمۡ لَیۡلَةَ ٱلصِّیَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَاۤىِٕكُمۡ﴾ أي: مباشرتهنَّ، وهذا من التيسير بعد أن شقَّ على المسلمين التنزُّه عنه كلَّ رمضان
﴿أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَیۡكُمۡ﴾ وهذا من التدرُّج في التشريع، ومراعاة حال الناس، والتدرُّج له صورتان:
تدرُّجٌ من الأشدِّ إلى الأخف؛ لتعريف الناس برحمة الله، وأنه لا يريد العَنَتَ بهم، كما في هذه الآية.
وتدرُّجٌ من الأخف نحو الأشد، كما في قصَّة تحريم الخمر؛ وهذا لأن منع الخمر مقصود أساسًا، وجرى التلطُّف والتدرُّج لتمكُّن الخمر من نفوس الناس، بحيث يشقُّ عليهم تركه جملةً واحدةً.
﴿هُنَّ لِبَاسࣱ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسࣱ لَّهُنَّ﴾ تعليل لذلك التخفيف؛ فإن شدة الاحتكاك والتلبُّس بينهما طيلة الليل توقعهما في حَرَج التنزُّه عن المباشرة، وفيه إشارة أن الرجل يستر المرأة ويُغنِيها عن الحرام وهي كذلك، وفيه تذكير وترغيب بخُلُق الستر، وكتم ما بينهما من أمور خاصّة، والله أعلم.
﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَیۡطُ ٱلۡأَبۡیَضُ مِنَ ٱلۡخَیۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِ﴾ تأكيد أن الإمساك يبدأ بتبيُّن الفجر بيانًا لا شكَّ فيه تحرُّزا من الوسواس والاختلاف، فالتقوى امتثال للأمر، والاحتياط في المشتبهات فقط، وليس هنا أمر مشتبه، فإذا انشقَّ الفجر وحان وقت الصلاة وجب الإمساك، ولا حاجة للاحتياط، والله أعلم.
﴿وَلَا تَأۡكُلُوۤاْ أَمۡوَ ٰلَكُم بَیۡنَكُم بِٱلۡبَـٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَاۤ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ﴾ إشارة إلى أن قضاء الحاكم بما تيسّر عنده من أدلَّةٍ وبيِّناتٍ لا يُحلُّ حرامًا ولا يحرِّمُ حلالًا، ولا تَبْرَأ به الذمَّة أمام الله، وإن وجب الالتزام به فهو التِزامٌ لحَسمِ الخُصُومة واحترام النظام العام، والقاضي معذور إن لم يتعمَّد الإثم والمُحاباة لقرابة أو رشوة، وإلا فإن إثمَه أكبر من الطرف الآكل لمال غيره.
﴿یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّـةِۖ قُلۡ هِیَ مَوَ ٰقِیتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ﴾ فالهلال علامة دخول الشهر، والتوقيتات الشرعيّة مستندة إلى ذلك في الصوم والحج والعِدّة ونحوها، وقد اتخذه المسلمون شعارًا لهم، وهو من التعبير السائغ عن اعتزاز الأمّة بهويتها، كما تواطَؤُوا على ستارة الكعبة بألوانها وزخرفتها، حتى غَدَت صورة الكعبة في ضمير المسلمين هي هذه، وليس في هذا حرج؛ إذ هو ليس تشريعًا مُضافًا، ولا بدعة بقصد القُربى، والله أعلم.
﴿وَأۡتُواْ ٱلۡبُیُوتَ مِنۡ أَبۡوَ ٰبِهَا﴾ إشارة لاتِّباع الحكمة، والأخذ بالأسباب، ووضع كل شيء في مكانه، وإنزال الناس منازلهم، وتقدير الأمور ومعرفة مداخلها ومخارجها، وفيه أمر بدخول البيوت من أبوابها استئناسًا واستئذانًا، والله أعلم.