سورة البقرة تفسير مجالس النور الآية 194

ٱلشَّهۡرُ ٱلۡحَرَامُ بِٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡحُرُمَـٰتُ قِصَاصࣱۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَیۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَیۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَیۡكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِینَ ﴿١٩٤﴾

تفسير مجالس النور سورة البقرة


المجلس الثالث عشر: رسالة الجهاد


من الآية (190- 195)


القتال أحد أخطر وجوه العلاقة بين المجتمعات البشرية من فجر التاريخ وإلى اليوم، فهو وسيلةٌ لفرض الهيمنة والحصول على المغانم والمكاسب، أو لردِّ العدوان والحفاظ على النفس والأهل والأرض والمال.

والمجتمع في حالة العدوان أو في حالة الرد بحاجة إلى القوّة، ومن ثَمَّ كان تشكيل الجيوش سمة مقترنة بوجود المجتمعات البشريّة، ترعاه قيادة المجتمع المتمثلة بالدولة، أو بشيخ القبيلة، ويُنفَق عليه أكثر مما ينفق على المؤسسات والضرورات أو الحاجات الأخرى، إلا أن هذه القوَّة في الإسلام تختلف عنها في المجتمعات الأخرى البعيدة عن شريعة الله نظريةً أو تطبيقًا.

وفي هذا المقطع بيان لهذه السمات المميَّزة :

أولًا: أنّه قتالٌ في سبيل الله، ﴿وَقَـٰتِلُواْ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ﴾ فهو ليس كالقتال الذي يعرفه البشر نزاعًا على الملك، وطلبًا للماء والكَلَأ والنفط، إنه قتال موصول بالله مصدرًا وغايةً وسلوكًا، ومنبثقٌ من رسالة الرحمة العالميَّة، لتقوية جانب الحقِّ والعدل والأخلاق، ومحاصرة الظلم والباطل والرذيلة.

إنّ القتال في الإسلام ينبغي أن يُفهم في ضوء الغاية الكليّة للإسلام ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الأنبياء: 107]، وطالما أن هناك مجالًا لتحقيق هذه الرحمة بالدعوة والحوار والتوافق فإنَّ القتال سيبقى حالة استثنائية، وهذا ما تؤكده هذه الآيات.

ثانيًا: أنه قتالٌ بلا عدوان ﴿وَلَا تَعۡتَدُوۤاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِینَ﴾ لا تعتدوا ابتداء، ولا تعتدوا في مجاوزة الحق في الردِّ ﴿فَٱعۡتَدُواْ عَلَیۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَیۡكُمۡ﴾ وهذا تأكيد صريح أن القتال ليس أصلا في العلاقة مع الآخرين، وإنما هو استثناء، يؤكِّده أيضًا قوله تعالى: ﴿ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾.

ثالثًا: أنه قتالٌ لدفع الفتنة ﴿وَقَـٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةࣱ﴾ ]الأنفال : 39[ والفتنة هنا هي الرِدَّة عن الدين، حيث كان المشركون يستخدمون القوَّة لإجبار المسلمين والضعفاء منهم خاصَّة على ترك دينهم، ويُلحق بالفتنة كل اضطراب عام يصيب المجتمع بسبب استخدام السلاح بطريقةٍ ظالمةٍ وغير مشروعة، مما يُعرِّض حياة الناس وأمنهم واستقرارهم للخطر، فهذه الفتنة بمعناها الأول والثاني هي أشدُّ من القتل نفسه ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ﴾.

رابعًا: أنه قتالٌ لا يتجاوز الحرمات ﴿وَلَا تُقَـٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ یُقَـٰتِلُوكُمۡ فِیهِ﴾ ويُقاس عليه كل مكان يأوي إليه الناس للعبادة أو طلب الأمان، وكذا المدارس والمستشفيات وملاجئ الأيتام والأحياء السكنيَّة ونحوها، والله أعلم.

وهناك حرمات الأزمنة، وهنَّ الأشهر الحرم، ثلاثة هنَّ أشهرُ الحج، والرابع منفرد عنهنَّ، وهو شهر رجب، ويقال: إن العرب كانت تخصُّه بالعمرة، وقد أقرَّ القرآن حرمةَ هذه الأشهر؛ لما فيها من حقن للدماء، وصناعة هدنة أو فرصة للسلام.
هذه الضوابط والموجِّهات تتعاضد وتتكامل مع آيات الجهاد الأخرى، وينبغي فهمهما بهذه المنهجية البنائية المترابطة، والجنوح إلى فكرة النسخ لا تقتضيه ضرورة ولا تدفع إليه حاجة، وسيأتي كل هذا مفصَّلًا في مظانِّه.



﴿وَقَـٰتِلُواْ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ﴾ أصلٌ في فقه القتال، وحصر لمسوِّغه وهو وصف المقابِل بأنّه مقاتِل، فإن لم يكن كذلك فلا تجوز مُقاتَلته، فعامَّة الناس لا يدخلون في القتال وإن كانوا يشتركون مع المقاتلين في الدين والرأي والقرابة ونحوها، وكذا الإعلاميُّون والأطبَّاء والذين يقدِّمون الخدمات الإنسانيَّة إلا إذا كانوا جزءًا من الجيش المقاتِل وصنفًا من صنوفه؛ لأنَّ المنتَسِب للجيش هو مقاتلٌ حمل السلاح أو لم يحمل.
وأما ما يفعله بعضُ أدعياء الجهاد من استهداف عامَّة النصارى في كنائسهم أو أسواقهم لأنهم يشتركون مع الغزاة بمسمَّى الدين، فهذا باطل، ومن المعلوم أنَّ رسول الله ج فرَّق بين بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة ولم يُعامِلهم معاملةً واحدةً مع انتسابهم لدينٍ واحد، وكذا تعامله مع مشركي العرب.

﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ جَزَاۤءُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ الألف واللام هنا للعهد وليست للاستغراق، بمعنى: هذا هو جزاء الكافرين المعتدين الذين تقدَّم ذكرهم.

﴿وَیَكُونَ ٱلدِّینُ لِلَّهِ﴾ ليس معناه إكراه الناس على الدخول في دين الله، فهذا منتقضٌ بقوله تعالى: ﴿لَاۤ إِكۡرَاهَ فِی ٱلدِّینِ﴾ ثمَّ إن الإكراه ينافي الإيمان بالضرورة؛ إذ الإيمان لا يكون إلا عن عقيدة ذاتيَّة وتصديق جازم، وإنما المقصود دفع الظلم ﴿فَلَا عُدۡوَ ٰ⁠نَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ فإذا رُفع الظلم وتحقَّق العدل تُرِك الناس وما يختارون، وهذا ما فعله الصحابة الفاتحون في مصر والشام والعراق وغيرها.

﴿ٱلشَّهۡرُ ٱلۡحَرَامُ بِٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ﴾ فسَّره ما بعده: ﴿وَٱلۡحُرُمَـٰتُ قِصَاصࣱۚ﴾، وهذا مثل قوله في حرمة المكان: ﴿وَلَا تُقَـٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ یُقَـٰتِلُوكُمۡ فِیهِ﴾ والحكمةُ في هذا ظاهرة؛ فالحرمات مكانيَّة أو زمانيَّة إنما جُعلت لحفظ الأمن، وصناعة فرصة وواحة للسلام، فإن قصدها العدوُّ بالاعتداء صار ردُّه من تمام صَونها، وتحقيق مقصدها.

﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَیۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَیۡهِ﴾ سمَّى القصاص والمعاملة بالمثل اعتداء من باب المشاكلة والمقابلة، وإلا فأصل الاعتداء هو في البادئ وليس في المدافع عن نفسه، ثم إنه جاء بصيغة الأمر والمقصود الإباحة، فلوليّ الأمر أن يختار بالشورى مع المسلمين الطريقة الأنسب للردِّ، ولا يَلزَمه القتال إلَّا إذا تعيَّن طريقًا لدفع العدوان، ودَرْء الفتنة، واسترداد الحقوق، والله أعلم.

﴿وَأَنفِقُواْ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ﴾ الإنفاق هنا جهاد المال، لمناسبة السياق؛ فالقتال بحاجةٍ إلى نفقة ولا تكفيه الشجاعة، يؤكِّدُه قوله تعالى في موضع آخر: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَ ٰ⁠لَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ﴾ [التوبة: 111].

﴿وَلَا تُلۡقُواْ بِأَیۡدِیكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ﴾ التهلكة هنا كل عملٍ يؤدِّي إلى الهلاك وخسارة الحرب، مثل التهوُّر في الإقدام وترك الاحتياط والحذر، وكذا البخل عن تقديم المال لسدِّ حاجة المقاتلين، أو تبذيره في غير حاجته، والله أعلم.

﴿وَأَحۡسِنُوۤاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ بهذا التوجيه ختم الله آيات القتال، ليُعلم أنّ القتال في الإسلام مرتبط بالإحسان قولًا وعملًا وخُلُقًا، والإحسان هو قصد الخير على وجه الإتقان، والله أعلم.