﴿وَقَـٰتِلُواْ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ﴾ أصلٌ في فقه القتال، وحصر لمسوِّغه وهو وصف المقابِل بأنّه مقاتِل، فإن لم يكن كذلك فلا تجوز مُقاتَلته، فعامَّة الناس لا يدخلون في القتال وإن كانوا يشتركون مع المقاتلين في الدين والرأي والقرابة ونحوها، وكذا الإعلاميُّون والأطبَّاء والذين يقدِّمون الخدمات الإنسانيَّة إلا إذا كانوا جزءًا من الجيش المقاتِل وصنفًا من صنوفه؛ لأنَّ المنتَسِب للجيش هو مقاتلٌ حمل السلاح أو لم يحمل.
وأما ما يفعله بعضُ أدعياء الجهاد من استهداف عامَّة النصارى في كنائسهم أو أسواقهم لأنهم يشتركون مع الغزاة بمسمَّى الدين، فهذا باطل، ومن المعلوم أنَّ رسول الله ج فرَّق بين بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة ولم يُعامِلهم معاملةً واحدةً مع انتسابهم لدينٍ واحد، وكذا تعامله مع مشركي العرب.
﴿كَذَ ٰلِكَ جَزَاۤءُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ الألف واللام هنا للعهد وليست للاستغراق، بمعنى: هذا هو جزاء الكافرين المعتدين الذين تقدَّم ذكرهم.
﴿وَیَكُونَ ٱلدِّینُ لِلَّهِ﴾ ليس معناه إكراه الناس على الدخول في دين الله، فهذا منتقضٌ بقوله تعالى:
﴿لَاۤ إِكۡرَاهَ فِی ٱلدِّینِ﴾ ثمَّ إن الإكراه ينافي الإيمان بالضرورة؛ إذ الإيمان لا يكون إلا عن عقيدة ذاتيَّة وتصديق جازم، وإنما المقصود دفع الظلم
﴿فَلَا عُدۡوَ ٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ فإذا رُفع الظلم وتحقَّق العدل تُرِك الناس وما يختارون، وهذا ما فعله الصحابة الفاتحون في مصر والشام والعراق وغيرها.
﴿ٱلشَّهۡرُ ٱلۡحَرَامُ بِٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ﴾ فسَّره ما بعده:
﴿وَٱلۡحُرُمَـٰتُ قِصَاصࣱۚ﴾، وهذا مثل قوله في حرمة المكان:
﴿وَلَا تُقَـٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ یُقَـٰتِلُوكُمۡ فِیهِ﴾ والحكمةُ في هذا ظاهرة؛ فالحرمات مكانيَّة أو زمانيَّة إنما جُعلت لحفظ الأمن، وصناعة فرصة وواحة للسلام، فإن قصدها العدوُّ بالاعتداء صار ردُّه من تمام صَونها، وتحقيق مقصدها.
﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَیۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَیۡهِ﴾ سمَّى القصاص والمعاملة بالمثل اعتداء من باب المشاكلة والمقابلة، وإلا فأصل الاعتداء هو في البادئ وليس في المدافع عن نفسه، ثم إنه جاء بصيغة الأمر والمقصود الإباحة، فلوليّ الأمر أن يختار ب
الشورى مع المسلمين الطريقة الأنسب للردِّ، ولا يَلزَمه القتال إلَّا إذا تعيَّن طريقًا لدفع العدوان، ودَرْء الفتنة، واسترداد الحقوق، والله أعلم.
﴿وَأَنفِقُواْ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ﴾ الإنفاق هنا جهاد المال، لمناسبة السياق؛ فالقتال بحاجةٍ إلى نفقة ولا تكفيه الشجاعة، يؤكِّدُه قوله تعالى في موضع آخر:
﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَ ٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ﴾ [التوبة: 111].
﴿وَلَا تُلۡقُواْ بِأَیۡدِیكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ﴾ التهلكة هنا كل عملٍ يؤدِّي إلى الهلاك وخسارة الحرب، مثل التهوُّر في الإقدام وترك الاحتياط والحذر، وكذا البخل عن تقديم المال لسدِّ حاجة المقاتلين، أو تبذيره في غير حاجته، والله أعلم.
﴿وَأَحۡسِنُوۤاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ بهذا التوجيه ختم الله آيات القتال، ليُعلم أنّ القتال في الإسلام مرتبط بالإحسان قولًا وعملًا وخُلُقًا، والإحسان هو قصد الخير على وجه الإتقان، والله أعلم.