سورة البقرة تفسير مجالس النور الآية 203

۞ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِیۤ أَیَّامࣲ مَّعۡدُودَ ٰ⁠تࣲۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِی یَوۡمَیۡنِ فَلَاۤ إِثۡمَ عَلَیۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَاۤ إِثۡمَ عَلَیۡهِۖ لِمَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤاْ أَنَّكُمۡ إِلَیۡهِ تُحۡشَرُونَ ﴿٢٠٣﴾

تفسير مجالس النور سورة البقرة


المجلس الرابع عشر: رسالة الحج


من الآية (196- 203)


الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة والزكاة والصوم، وقد تنقلت الآيات وهي ترسم منهجها في بناء المجتمع الجديد من العدل في الدماء فالعدل في الأموال ثم الصيام والجهاد، والآن شرع في الحديث عن الحج، وكل هذا تحت عنوان ﴿البِرِّ﴾ الذي هو عنوان المجتمع المسلم.

وهذه الانتقالات تؤكِّدُ أن هذه العبادات والتوجيهات ليست أحكامًا مقطَّعة، بل هي منظومةٌ آخِذٌ بعضها بأعناق بعض، وكما وضع القرآن سماته المميّزة في التوجيهات السابقة يأتي هنا ليضع سمات الحج التي تميّزه عما عرفه الآخرون في زياراتهم ومناسباتهم الدينيّة:

أولًا: الحج لله وحده ﴿وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِ﴾ وهكذا هي كلُّ العبادات، وفي هذا دفْع لشبهة الشرك بعبادة الرموز البشرية أو المكانيّة والتي تنتشر في الديانات الأخرى، وهذا ما تؤكّده مناسك الحج العمليَّة، فليس هناك في الطواف أو السعي أو الوقوف بعرفات دعاء لغير الله، فاسم الله وحده هو الذي يُقصد بالعبادة صلاةً وطوافًا وذكرًا ودعاءً، والحاجُّ يقدم بالتلبية: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيْكَ لَكَ لَبَّيْكَ ...»﴿ ﴾، ويختم بتكبير الأضحى: ﴿اللهُ أكبر، اللهُ أكبر﴾، وهما وكلُّ ما بينهما من أذكار ليس فيها سوى التوحيد الخالص.

ثانيًا: للتكافل مكانه في الحج ﴿فَفِدۡیَةࣱ مِّن صِیَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكࣲۚ فَإِذَاۤ أَمِنتُمۡ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَیۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡیِ﴾ والهَدْيُ هو ما يُقدَّم للحجِّ من نَعَمٍ لتنحر هناك ويأكل منها الناس، وكذا النُّسُك، والصدقة إطعام من غير الذبح، وجعلهما في الحج دليل على العبادة الخالصة لله ـ لا تنفصل عن البرِّ والإحسان إلى الآخرين.

ثالثًا: الحج مدرسة الأخلاق ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِی ٱلۡحَجِّ﴾ أصل الرفث الكلام الفاحش والغزل الماجن، وقد استعمل هنا بمعنى: مباشرة الجماع، إشارة للنهي عن الجماع ومقدِّماته، وكل ما يثير الشهوة من نظر وكلام وفكر.
والفُسوقُ: اسمٌ جامعٌ لكلِّ خروجٍ عن الدين والشرع، وأما الجدالُ فهو جدال الخصومة وليس حوارات العلم وسؤالاته، والنهي عن كلِّ ذلك إنما كان لتنقية الحجِّ من كدورات الفسق والخصومة وسوء الخلق، وتعويد على ضبط النفس وإلزامها حدود الأدب والشرع، والله أعلم.

رابعًا: الحجُّ دعوةٌ للوحدة ﴿ثُمَّ أَفِیضُواْ مِنۡ حَیۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ﴾ فالناس جميعهم يقفون جميعًا في وقتٍ واحد، وفي مكانٍ واحد، وبلباسٍ واحد، ونداءٍ واحد، ثم يتحركون سويَّة إلى مناسكهم من غير تقدُّمٍ ولا تأخر، ومن غير تمييزٍ لأمير، أو خفير، أو غنيٍّ، أو فقير، أو ذكرٍ، أو أنثى، فالكل أمام خالقهم سواء.

خامسًا: الحجُّ تعميقٌ لصلة العبد بربّه ﴿فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَاۤءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرࣰا﴾ وقد تكرر الترغيب الصريح بالذكر في هذا المقطع خمس مرَّات، وكأنَّ الحجَّ لم يشرع إلا لذكر الله.

سادسًا: وفي الحجِّ تخفيف ورحمة، وهذا منهج الإسلام في كلِّ العبادات، كما قال في الصوم: ﴿یُرِیدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡیُسۡرَ وَلَا یُرِیدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾، قال هنا: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِیضًا أَوۡ بِهِۦۤ أَذࣰى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡیَةࣱ مِّن صِیَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكࣲۚ﴾، وقال: ﴿لَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلࣰا مِّن رَّبِّكُمۡ﴾، وقال: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِی یَوۡمَیۡنِ فَلَاۤ إِثۡمَ عَلَیۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَاۤ إِثۡمَ عَلَیۡهِ﴾.
وقد ورد عن النبي في الحديث الصحيح أنه:«مَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: اِفْعَلْ وَلَا حَرَجَ»﴿ ﴾.



﴿فَصِیَامُ ثَلَـٰثَةِ أَیَّامࣲ فِی ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةࣱ كَامِلَةࣱۗ﴾ دفْعًا لتوهّم التخيير بين الثلاثة في الحجِّ والسبعة بعده؛ إذ المطلوب الجمع بينهما لا التخيير.

﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَیۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰ﴾ هو غاية الحجِّ كما هو غاية الصومِ، فهذه العبادات إنما يُقصد منها تحقيق التقوى، وهي منزلةٌ إيمانيَّةٌ وتربويَّةٌ رفيعةٌ تمنح صاحبها محبَّة الخير والصلاح والطاعة، وكراهية الشر والفساد والمعصية مع طول صبرٍ وثباتٍ وتسليمٍ لكلِّ ما يقدّره المولى الجليل.

﴿لَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلࣰا مِّن رَّبِّكُمۡ﴾ ليس عليكم حرج أن تطلبوا التجارة بيعًا وشراءً وشراكةً وحسابًا، وما إلى ذلك، وفي هذا مصلحةٌ للحجيج ومصلحةٌ لأهل مكة، ودفعٌ لتوهُّم النفرة بين مصلحة الدين ومصلحة الدنيا.
وقد جاءت هذه الآية بعد النهي عن الفسوق والجدال؛ لأن التجارة مظِنة المجادلة، فقد يتطرق إليها النهي تبعًا، فجاء البيان برفع الحرج، والله أعلم.

﴿ثُمَّ أَفِیضُواْ مِنۡ حَیۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَ﴾ دلالة على أن وقت الإفاضة وقت استغفار، فهو الذكر المستحب هنا، وفيه إشارة أنّ العبد ينبغي أن يتهم نفسه بالذنب والتقصير حتى لو كان في وسط الطاعة، فليس هناك من يومٍ أرجى للعفو ومغفرة الذنوب من يوم عرفة، ومع هذا يُستحبّ للحاج بعد إفاضته من عرفات إلى المشعر الحرام ثمّ إلى منى أن يكثر من الاستغفار.

﴿رَبَّنَاۤ ءَاتِنَا فِی ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣰ وَفِی ٱلۡأَخِرَةِ حَسَنَةࣰ﴾ دلالة على أنَّ الإسلام يجمع بين خيري الدنيا والآخرة، ويدعو لهما، ويحثُّ العبد على تحقيق السعادة فيهما.
وفي هذا ردٌّ على من جعل هدْم الدنيا شرطًا لعمران الآخرة، فالدنيا دار خلقها الله وكذا الآخرة، وابن آدم ينتقل من بيت الله إلى بيت الله، ويتقلب بين نعمه هنا ونعمه هناك، بيد أن نعم الأخرى تُنال بأسباب غير هذه الأسباب التي ننال بها نعم الدنيا.

﴿وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِیۤ أَیَّامࣲ مَّعۡدُودَ ٰ⁠تࣲۚ﴾ الأيام المعدودات هي أيام منى، والذكر المستحبّ فيها هو التكبير عند رمي الجمار وعقب الصلوات، والأخيرة مندوبة لغير الحاجّ أيضًا، وهذا شبه بالصوم، فإتمام الصوم عيد وتكبير، وإتمام الحج كذلك.

﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِی یَوۡمَیۡنِ فَلَاۤ إِثۡمَ عَلَیۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَاۤ إِثۡمَ عَلَیۡهِ﴾ أيَّام التشريق ثلاثة بعد يوم النحر، والآية أباحت التعجّل، بمعنى الاقتصار على يومين فقط بعد النحر، والتأخُّر وهو البقاء إلى اليوم الثالث، والتأخُّر أفضل؛ لما فيه من زيادة في النسك والذكر، والله أعلم.