﴿وَیُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِی قَلۡبِهِۦ﴾ بمعنى: يُكثِر الحلف بالله على أنه صادق في دعواه إمعانًا في التضليل، وقد أكّد هذا قوله تعالى في موضع آخر:
﴿ ٱتَّخَذُوۤاْ أَیۡمَـٰنَهُمۡ جُنَّةࣰ﴾[الأعراف: المنافقون ] .
﴿أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ﴾ اللَّدُود هو المُخاصِم، وقد قرَنَ القرآن بين اللفظتين تأكيدًا لشدَّة الخصومة، كما في قوله:
﴿وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِینَ﴾ [الأعراف: 74]، ولا تعثَوا معناها: لا تُفسِدوا، فأكَّدَ هذا المعنى بلفظ الفساد، والله أعلم.
﴿وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِی ٱلۡأَرۡضِ لِیُفۡسِدَ فِیهَا﴾ إشارة أنهم لا يفسدون علانية بل حينما يدبرون ويختفون عنك، أما معك فهم يقولون ما تستَحسِنُه من القول.
﴿مَن یَشۡرِی نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ﴾ أي: يبِيعُ نفسَه في سبيل الله طلبًا لمرضاته تعالى، ومثله قوله تعالى:
﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَ ٰلَهُم﴾ [التوبة: 111]، وإيراد هذا في خضم الحديث عن المنافقين جاء للتعريض بهم أنَّهم آثَروا هوى النفوس على مرضات الله، فكان هذا سببًا في ضلالهم.
﴿ٱدۡخُلُواْ فِی ٱلسِّلۡمِ كَاۤفَّةࣰ ﴾ السِّلمُ هنا هو الإسلام كاملًا شاملًا، وهي دعوة شاملة لكافة المسلمين أن يلتزموا بكل أحكام الشرع، على خلاف المنافقين الذين يأتون ببعض الشرع من صلاة ونسك على سبيل الرياء والخداع وليس على سبيل الاستسلام والخضوع.
وهنا قرينة أخرى على هذا المعنى، وهي قوله بعد هذه الآية مباشرة:
﴿فَإِن زَلَلۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَتۡكُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُ﴾ فالزلَلُ هنا إنما يكون عن حكم الشرع، واختيار كلمة:
﴿ٱلسِّلۡمِ﴾ للتعبير بها عن الإسلام إشارة إلى أنّ التمسك بالإسلام يُفضِي إلى صناعة السلام بين المؤمنين كافَّة، وهذا من باب إطلاق المشترَك على معنَيَيه جملة واحدة؛ إذ السلم مشترك بين الإسلام والمسالمة واشتقاقهما من جذر واحد ظاهر، والله أعلم.
﴿هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّاۤ أَن یَأۡتِیَهُمُ ٱللَّهُ فِی ظُلَلࣲ مِّنَ ٱلۡغَمَامِ وَٱلۡمَلَــٰۤىِٕكَةُ وَقُضِیَ ٱلۡأَمۡرُ ﴾ بمعنى: أنَّ كلَّ الآيات القاطعة على صدق الدعوة قد جاءت
﴿مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَتۡكُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُ﴾ وهم مُصِرُّون على كفرهم ونفاقهم، فلم يَبْقَ إلا أن يحِلّ عليهم يومُ القيامة بما فيه من رهبةٍ وهَولٍ، وهذا كناية عن شدَّةِ عنادِهم وصدُوفِهم عن الحقِّ.
وأما إتيان الله والملائكة فهو صورة من صور اليوم الآخر لا مجال لإدراك كُنْهه، والإيمان به واجب لأنه خبر الوحي، وتحصيل الخشية والرهبة في القلب واستشعار عظمة الله كل ذلك مقصود أصالة، فإذا تحصَّل المقصود مع الإيمان بأصل الخبر فإنّ البحث عن الكيْف بدعة وتكلّف وتغرير بالعقل، والله أعلم.
﴿وَٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ﴾ إشارة إلى أن المفاضلة إنَّما تكون بالتقوى، واقتران الإيمان بالعمل، أما ادِّعاء الإيمان بلا عمل فهو سِمةُ النفاق، والله أعلم.
﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ﴾ أي: على التوحيد وملّة آدم عليه السلام، ثم اختلفوا فبعث الله النبيين لتبيان الحق في هذا الخلاف
﴿لِیَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ فِیمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِیهِ﴾ ثم تتابع نزول الأنبياء، وتتابع اختلاف الناس أيضًا، ثم ختَمَ الله تلك الرسالات برسالة الإسلام التي هدى الله بها الذين آمنوا، وبيَّن لهم ما اختَلَف فيه الناس على أنبيائهم، والله أعلم.
وأما قول من قال: إنَّ الناس كانوا أمّة واحدة على الباطل ثم تفرَّقوا ببعثة النبيين، فهو مستبعد؛ إذ الكفر أدعَى للخلاف، وقد ذكر الله في هذه الآية أنَّ بعثة الأنبياء إنما كانت للحكم فيما اختلف فيه الناس، فالخلاف سابق على البعثة لا محالة.
﴿فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِیهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ یَهۡدِی مَن یَشَاۤءُ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمٍ﴾ تأكيدٌ لآخر سورة
الفاتحة:
﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَ ٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ ﴿٦﴾ صِرَ ٰطَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمۡتَ عَلَیۡهِمۡ غَیۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَیۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّاۤلِّینَ﴾ [الفاتحة: 6، 7] فهؤلاء هم الذين اختلفوا على الحق وحادوا عن الصراط، وأولئك المؤمنون هم الذين استجاب الله لهم فهداهم إلى الصراط المستقيم.
﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا یَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِینَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُـمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَاۤءُ وَٱلضَّرَّاۤءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ یَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱلـلَّـهِۗ أَلَاۤ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِیبࣱ﴾ دلالة على أنَّ هذه الخصومة بين أهل الحق وأهل الباطل لها تبِعَاتها الثقيلة من البأساء والضراء، فالخلاف لن يبقى محصورًا في الفكر والنظر؛ لأن الصراع بين الحقِّ والباطل صراع وجود لا صراع حدود، وأن أهل الإيمان يتعرضون في كل مرّة إلى ما يشبه أثر الزلزال في قلوبهم وأجسادهم حتى يطول الظلم والظلام فيقول الرسول والذين معه : متى نصر الله؟ كناية عن استبطاء
النصر مع الحاجة إليه، كالصائم الظمآن يسأل: متى تغيب الشمس؟ وليس فيه اعتراض على قدر الله أو شك في وعده، والله أعلم.