﴿مَاۤ أَنفَقۡتُم مِّنۡ خَیۡرࣲ﴾،
﴿وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَیۡرࣲ﴾ تكرار كلمة
﴿الخير﴾ في آية الإنفاق إشارة إلى تحرير قصد المنفِق، وصيغة أدائه لهذه العبادة؛ بحيث تكون النفقة خيرًا من كلِّ وجه، ليس فيها أذى للفقير، ولا امتهان لكرامته أو تسخيره في شؤون المنفق ومصالحه الخاصَّة.
وفيه جواب لسؤالهم:
﴿مَاذَا یُنفِقُونَ﴾ وكأن الجواب: أنفِقُوا الخيرَ، وهذا تأكيد آخر لضرورة توخِّي كل معاني الخير في النفقة، والله أعلم.
﴿لِلۡوَ ٰلِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِ﴾ هذا جوابٌ ليس له سؤال، وهو أسلوب في التربيّة القرآنيّة مقتضاه إرشاد السائل إلى ما ينفعه وإن لم يَرِدْ في سؤاله، وهذه من صدقة المسؤول على السائل، وقد نبَّهَ القرآن إلى صنفَين من أقرباء المتصدِّق؛ ليرسِّخ بهذا صلة الرحم والتواصل الاجتماعي المطلوب، والمحتاجين من عامَّة المسلمين لتأكيد وحدة الأمَّة، وتحقيق التكافل بين المجتمعات الغنيَّة، والمجتمعات الفقيرة.
﴿كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهࣱ لَّكُمۡ﴾ إشارة بتقديم العذر للمكلَّفين ليُعينَهم على تحمُّل مسؤولية التكليف، ثمَّ ثنَّى بقوله:
﴿وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾ ليعطي آفاقًا رحبةً ومريحةً، وهذا بُعْدٌ آخر ودافع للإقدام رغم ما في القتال من ثِقَل وكراهة.
﴿وَصَدٌّ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ﴾ هذا جوابٌ ليس له سؤال؛ إذ السؤال كان عن القتال في الأشهر الحرم، ولكنّ القرآن استطرد لبيان أحكام أخرى لحِكم كثيرة؛ منها: توجيه السائل إلى ما ينفعه ولو لم يَرِد في سؤاله كما تقدَّم في آية النفقة.
ومنها: مجادلة الآخرين، وبيان الحقِّ كاملًا، وعدم الوقوع في فخِّ الدفاع السلبي، فقد ورد أنَّ المشركين قد عابوا على المسلمين قتلهم لمشرك في الأول من رجب؛ ظنًّا منهم أنه آخر جمادى، فلم يَشَأ القرآن أن يعطيهم ما يريدون فبيَّن جرائمهم الواضحة والمتكررة في الصدِّ عن التوحيد وإخراج المهاجرين من ديارهم، وهذه أكبر إثمًا من ذلك الخطأ الذي وقع فيه المسلمون لا عن علمٍ ولا عن قصدٍ.
﴿وَلَا یَزَالُونَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ یَرُدُّوكُمۡ عَن دِینِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَـٰعُواْ﴾ تقرير لطبيعة الصراع بين الحق والباطل، وأنه صراع هويَّة ووجود، لا صراع مصالح وحدود.
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِینَ هَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ﴾ تقرير لتاريخ الدعوة ومراحلها الأساس: الإيمان ثم الهجرة ثم الجهاد، وفيه إشارة أن الجهاد لا يكون قبل التمكين والاستقرار في أرضٍ ودولة وراية وإمام، والله أعلم.
﴿قُلۡ فِیهِمَاۤ إِثۡمࣱ كَبِیرࣱ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ﴾ الآية تفيد تحريم الخمر والميسر، وذكر المنافع لا يقلل من هذا التحريم، إذ المنافع خبر لا يمكن نسخه، وقد قرنه القرآن بالتحريم، بمعنى: أنّه مع وجود هذه المنافع فهُما إثمٌ كبير، وهو ما يسمّيه الأصوليّون بالمصالح الملغاة، وعليه فالآية صيغة من صيغ
التحريم تأكَّدت بآية
المائدة:
﴿فَٱجۡتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: 90].
وفي ذكر المنافع إشارة للأدب القرآني بذكر الحقيقة كاملة، وهو ما يطلق عليه اليوم بالموضوعيَّة، وإطلاق المنافع وتنكيرها إشارة إلى أنها منافع ثابتة وليست مُتوهَّمة، وقد تكون جسديَّة أو نفسيَّة أو ماليَّة، لكنَّها لا ترتقي لنفي التحريم.
ولهذا نظائرُ كثيرةٌ في الشرع، فلحم الخنزير قد يكون فيه من المواد النافعة للجسم كالبروتينات والدهنيَّات وغيرها، وكذلك لبس الحرير المحرَّم على الرجال؛ إذ لا يستبعد وجود بعض المنافع فيه، لكنها منافع مغمورة في الإثم الأكبر، والذي لم يكن إلا بعلم الله العليم الحكيم الرحيم.
﴿وَإِثۡمُهُمَاۤ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَا﴾ إشارة لسبب التحريم، وكأنَّه ذكر الإثم وأراد الضرر من باب ذكر الملزُوم وإرادة اللازم، ولا مانع من إرادة المعنَيَين معًا، والله أعلم.
﴿وَیَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا یُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَ﴾ تكرار السؤال دليلٌ على عِظَم الاهتمام بالموضوع من قبل ذلك الجيل الربَّانيِّ، بَيْدَ أن الجواب جاء مختلِفًا ليُضِيف معنًى جديدًا، فالإنفاق يكون من المال الزائد عن الحاجة الذاتيَّة
﴿ٱلۡعَفۡوَ﴾.
والظاهر أنّ السؤال كان عن صدقة التطوّع، إذ الفريضة قد حددتها أنْصِبة الزكاة ومقاديرها، وكذا النفقات الواجبة الأخرى كالنفقة على الزوجة ومن تلزمه إعالتهم، وعليه فالآية لا تنهض دليلًا على وجوب إنفاق الزائد، إذ التطوّع ينافي الإلزام أصلًا، والله أعلم.
﴿وَیَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡیَتَـٰمَىٰۖ قُلۡ إِصۡلَاحࣱ لَّهُمۡ خَیۡرࣱۖ﴾ لم يحدد نوع السؤال ليمهِّد للجواب العام الذي يريده وهو
﴿الإصلاح﴾، فمسؤولية المجتمع تجاه اليتامى هو تحرِّي الإصلاح لهم في كلِّ شأن من شؤونهم المادية والمعنويَّة والتربويَّة وكلُّ ما يدخل في مسمَّى الإصلاح.
﴿وَإِن تُخَالِطُوهُمۡ فَإِخۡوَ ٰنُكُمۡ﴾ مخالطة اليتامى بالاهتمام والزيارة والكفالة والتعاون والنصح والتربيّة لسدّ نقص اليُتم واجب، وهو من مقتضيات الإصلاح؛ إذ لا إصلاح بلا مخالطة، والتذكير بحقِّ الإخوّة هنا فيه معانٍ جميلة، فالأخُ يأنَسُ بأخيه ويَستَنصِر به ويبوح له بما عنده، ويعطيه بلا مِنَّةٍ ولا تكبُّرٍ أو تعالٍ، فالأخوَّة من مُقتضيَاتها المساواة، وهي هنا تَحْمِلُ دلالة نفسيَّة ومعنويَّة أكبر من سدِّ النقص الماديِّ بالكفالة أو الصدقة.
﴿وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ ٱلۡمُفۡسِدَ مِنَ ٱلۡمُصۡلِحِ﴾ تحذير لمن يخالطهم ابتغاء الفساد، والفساد اسم جامع لكل ما هو بخلاف الإصلاح ماديًّا ومعنويًّا، وترغيب للمصلح وتنويه بثوابه الكبير الذي أعدَّه له الله.
﴿وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَأَعۡنَتَكُمۡ﴾ أي: لمَنعِكم من مخالطة اليتامى تورُّعًا واحترازًا عن إصابة شيء من مالهم بقصدٍ أو بغير قصدٍ، وفي المنع مشقَّة على الطرفين، فالأيتام بحاجة إلى التواصل مع المجتمع، وفي المجتمع من الأقرباء من تدعوه شفقته إلى التواصل أيضًا، وقد يكون اليتيم غنيًّا، والمال الذي بين يديه له وظيفة اجتماعية أيضًا عملًا ونماءً وزكاةً، والله أعلم.
﴿وَلَأَمَةࣱ مُّؤۡمِنَةٌ خَیۡرࣱ مِّن مُّشۡرِكَةࣲ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ﴾ أي: الأمة المملوكة خير من المشركة ولو كانت حرَّة، فالتفاضل ليس بموازين الدنيا والجاه والحسب والمال، إنما التفاضل بالإيمان والتقوى، وأكّد هذا المعنى بقوله في الآية نفسها:
﴿وَلَعَبۡدࣱ مُّؤۡمِنٌ خَیۡرࣱ مِّن مُّشۡرِكࣲ وَلَوۡ أَعۡجَبَكُمۡ﴾ ثمّ علَّل هذه الخيريّة بقوله:
﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ یَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَٱللَّهُ یَدۡعُوۤاْ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ وَٱلۡمَغۡفِرَةِ بِإِذۡنِهِۦ﴾.
ولا مانع من حمل الأمة على مطلق المرأة، وحملُ العبد على مطلق الرجل، فالناس كلهم عبيد لله، إلا أنّ السياق جاء لبيان خيريّة الإيمان وتفضيله على كل المعايير الدنيويّة، كأنّه يقول: إن الإنسان المؤمن الذي لا يملك من معايير الدنيا شيئًا هو أفضل من المشرك الذي يملك كل شيء، والله أعلم.
﴿وَیَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡمَحِیضِ﴾ أي: عن الأحكام المتعلِّقة به، وذلك بدلالة الاقتِضاء، إذ يبعد السؤال عن الماهيَّة، والسؤال عن الأحكام أَولَى من الاقتصار على الوقاع؛ لأنَّ السائل لا علم له قبل نزول الوحي بالذي يحْرُم والذي لا يحْرُم، خاصَّة أن اليهود كانوا يبالغون في عزل المرأة عن كثير من شؤون حياتها فترة الحيض، وربما كان المسلمون يسمعون هذا منهم، والله أعلم.
﴿قُلۡ هُوَ أَذࣰى فَٱعۡتَزِلُواْ ٱلنِّسَاۤءَ فِی ٱلۡمَحِیضِ﴾ قدَّم علَّة الحكم تمهيدًا له، والأذى هو نوع من الضرر وأطلقه ليشمل الزوجين ويشمل الجانب النفسي والجسدي، واعتزال النساء معناه الابتعاد عن مباشرة الجماع وما يؤدّي إليه، أما المخالطة في شؤون الحياة الأخرى فتبقى على أصل الإباحة والاستحباب.
﴿وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ یَطۡهُرۡنَۖ فَإِذَا تَطَهَّرۡنَ﴾ يطهرن، أي: الطهر الطبيعي الذي يحصل بانقطاع الدم، وتطهَّرن فعل يقتضي القيام بالتطهر وهو الغسل، وقد جاء الفعل بهذه الصيغة تأكيدًا للتنقية وإشارة للتَّطيُّب والتَّزيُّن.
﴿فَأۡتُوهُنَّ مِنۡ حَیۡثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ﴾ الأمر هنا للإباحة؛ لأنَّه مسبوق بنهي، و
﴿حَیۡثُ﴾ ظرف مكانيٌّ، والمقصود به قُبُلُ المرأة، وهو محلُّ الحَرث الذي ذكره القرآن في الآية التالية:
﴿نِسَاۤؤُكُمۡ حَرۡثࣱ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡ﴾ تشبيهًا لمحل النسل بغراس الأرض، فالإباحة تتَّجِه لهذا المحل دون غيره.
وقولُ مَن قال مِن الشيعة ونحوِهم بجواز إتيان الدُّبُر مخالفٌ للشرع والعُرف والطبيعة البشريَّة والحيوانيَّة أيضًا، وهو نوعٌ من الشذوذ في الفكر والسلوك، ولو صحَّ قولهم هذا، لما طُلِبَ اعتزال النساء فترة الحيض؛ إذ الحيض لا يكون إلا في محل الحرث.
﴿وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ دلالة على أنَّ الامتثال لأمره سبحانه فيه مصلحة المكلَّف، فهو يدَّخِرُ هذا الخيرَ لنفسه.
وإشارة إلى أن المعاشرة الزوجيَّة وابتِغاء النسل فيه خيرٌ قادم إذا اقترن بالتقوى وحسن التربية للأولاد.