سورة البقرة تفسير مجالس النور الآية 226

لِّلَّذِینَ یُؤۡلُونَ مِن نِّسَاۤىِٕهِمۡ تَرَبُّصُ أَرۡبَعَةِ أَشۡهُرࣲۖ فَإِن فَاۤءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ ﴿٢٢٦﴾

تفسير مجالس النور سورة البقرة


المجلس السابع عشر: فقه الطلاق


من الآية (224- 242)


الطلاق هو محور هذا المقطع، والمقصود به فسخ عقد الزوجيَّة، وقد شرَّعَه الإسلام؛ استجابةً لحاجة مُجتمعيَّة لا يُنكرها إلا مكابر، فالزواج عقدٌ بين رجلٍ وامرأةٍ لتأسيس حياة مشتركة، وهذه الحياة قوامُها المودَّة والرحمة، فإن فشل الزوجان في تحصيلهما فإنَّ إكراههما على الاستمرار لا يحقق الغاية من الزواج أصلًا، ثم هو ينافي حريَّة الفرد في اختيار حياته وعلاقاته.

ومن الغريب أن ترى الغرب يُعلي من شأن الحريَّة حتى جعلها محور منظومته القيميَّة، ثم يستنكر الطلاق ويُلزم الزوجين بالحفاظ على علاقتهما الزوجيَّة مع الكراهة، وقلَّة الانسِجام.

ونحن مع تأكيدنا أنَّ في الطلاق ضررًا يلحق الطرفين ويلحق الأولاد أيضًا، والدائرة الاجتماعية للطرفين، وأنَّ هناك توسُّعًا لا مبرّر له في استعمال هذا الحق، والذي هو استثناء وليس أصلًا، والاستثناء يدور مع سببه وجودًا وعدَمًا؛ بَيْدَ أن تنكُّر الاستثناء تعسّف آخر، فإكراه الزوجين على علاقة لا يريدانها قد يكون فيه من الضرر ما يفوق الضرر المترتِّب على الطلاق.

وقد قدّم القرآن في هذا المقطع صورة لهذه الحالة الاستثنائية وملابساتها وما يترتَّب عليها من حقوق والتزامات وأحكام، مع التنبيه إلى أنَّ هذا المقطع ليس فيه كل الأحكام أو الحالات المتفرعة عن الطلاق:

أولًا: الدعوة للإصلاح وإزالة كل العقبات التي تحول دون ذلك حتى لو كانت ذات طابع ديني وتعبُّدي، وهذا هو المقصود العملي من قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجۡعَلُواْ ٱللَّهَ عُرۡضَةࣰ لِّأَیۡمَـٰنِكُمۡ أَن تَبَرُّواْ وَتَـتَّـقُواْ وَتُصۡلِحُواْ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ﴾ بمعنى: لا تجعلوا تعظيمَكم للحلف بالله عارضًا بينكم وبين البِرِّ والإصلاح، وإذا كان هذا بحقِّ الله، فتجاوز الالتزامات والعهود الأخرى إذا كانت تصدُّ عن الإصلاح من باب أولى، كمَن أعلن أنَّه سيطلِّقُ زوجته إن هي فعلت كذا أو كذا، فلما فعلت أصبح مُلزَمًا نفسيًّا ومجتمعيًّا بالطلاق، لكنَّ هذا الإلزام لا عبرة بهِ إن كان هناك طريق للإصلاح.
وفي الآية إشارة أخرى تقضي بتجنُّب هذه الأيمان والتي غالبا ما تكون في حالة الغضب والانفعال النفسي، وإذا كان هذا في الأيمان المقصودة والمؤكّدة، فإنّ تجاوز الأيمان التي تجري على اللسان من غير قصد أولى: ﴿لَّا یُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِیۤ أَیۡمَـٰنِكُمۡ﴾.
وقد جاءت هذه التوجيهات القرآنيّة ممهِّدة لأحكام الطلاق وقد بدأها بحكم الإيلاء وهو الطلاق المقترن باليمين، بأن يحلِف بالله أن لا يقرب زوجته، ونحن نقصد بالطلاق هنا معناه العام الذي هو فسخ العقد بأية صيغة جاء.

ثانيًا: تشريع التوقيتات المناسبة للمراجعة والبحث عن الحلول، ففي الإيلاء أعطى القرآن للرجل مهلة أربعة أشهر ﴿لِّلَّذِینَ یُؤۡلُونَ مِن نِّسَاۤىِٕهِمۡ تَرَبُّصُ أَرۡبَعَةِ أَشۡهُرࣲۖ فَإِن فَاۤءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ ﴾ فالذي حلف بالله لأي سبب كان أن لا يقرب امرأته، فإن له حق التراجع خلال أربعة أشهر، فإن تراجع فليس عليه سوى كفَّارة اليمين، وإن أصرَّ كان ذاك دليلًا على أن الإيلاء لم يكن زلّةً غاضبةً، أو حالةً انفعاليّةً طارئةً.
وفي الطلاق أعطى القرآن للمرأة أن تتربّص ثلاثة قروء ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَـٰتُ یَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَـٰثَةَ قُرُوۤءࣲۚ﴾ أي: ثلاث دورات شهريّة، وهي فترة كافية كذلك للتأكد من وجود قرار مدروس بالطلاق.

ثالثًا: التنفير من الطلاق أصلًا، ودفعه ما كان إلى ذلك سبيل، وهو مظنَّة الإثم والحرج لما يترتّب عليه من ضرر بحقِّ الزوجة وأولادها، بل وبحقِّ الزوج أيضًا ﴿لَّا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِیضَةࣰۚ﴾ إشارة إلى مظنة الجناح، وهو هنا الإثم في حالة تأكيد العقد بتسمية المهر أو بالجماع.
ولذا قال الإمام الغزالي  في معنى نفيس له في هذا المقام: ﴿وإنما يكون مباحًا إذا لم يكن فيه إيذاء بالباطل، ومهما طلَّقَها فقد آذاها، ولا يُباحُ إيذاء الغير إلا بجنايةٍ من جانبها، أو بضرورةٍ من جانبه﴾﴿ ﴾.

رابعًا: تقسيم الطلاق على مراحل ﴿ٱلطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِ﴾ وكلُّ مرَّة لها شروطها وعدَّتها الزمنيَّة الكاملة: ﴿ثَلَـٰثَةَ قُرُوۤءࣲ﴾ أما جمعُهما في لفظة واحدة فلا شك أنَّه بدعة مخالفة لنهج القرآن؛ كمن يقول لامرأته: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أو أنتِ طالق بالثلاث، وخلاف الفقهاء في إمضائه معروف.
بَيْدَ أنَّ تعبير القرآن: ﴿ٱلطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِ﴾ فيه متنفَّس لمن يرى عدم إمضائه؛ إذ العبرة بالمرّة وليس بالعدد المجرّد، والله أعلم.
ولا شكَّ أنَّ هذه المراحل تصنع فرصةً للمراجعة واستمرار العلاقة الزوجيَّة، وهو ما يؤكّد حرص القرآن على صون الأسرة من التفكك طالما بقي في القوس مَنزَع.

خامسًا: الطلاق حقٌّ للرجل وهو حقٌّ للمرأة أيضًا، لكنَّ الرجل إذا طلَّق تنازل عن المهر الذي ألزم به نفسه في العقد، وعليه نفقة الزوجة خلال العدَّة، أما المرأة فهي تطلب الطلاق لرفع الضرر عنها أمام القضاء وهو ما يسمَّى بالتطليق القضائي، وإذا لم يكن هناك ضرر بل هو عدم الرغبة الذاتيَّة بالاستمرار فعليها أن تعوِّض الرجل ما دفعه إليها وهذه الحالة هي حالة الخلع ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِمَا فِیمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦ﴾.

سادسًا: ضمان الحقوق الكاملة للطرفين وللأولاد أيضًا، ومنها:
- ضمان حماية النسب: ﴿وَلَا یَحِلُّ لَهُنَّ أَن یَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِیۤ أَرۡحَامِهِنَّ﴾.
- ضمان حقّ المطلقة في كامل مهرها: ﴿وَلَا یَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُواْ مِمَّاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ شَیۡـًٔا﴾ إلا في حالة الخُلع، أو في حالة طلاقها قبل الدخول، فلها نصف المهر.
- تحريم التعسُّف المُضر بالمرأة: ﴿وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارࣰا لِّتَعۡتَدُواْۚ وَمَن یَفۡعَلۡ ذَ ٰ⁠لِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَا تَـتَّـخِذُوۤاْ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ هُزُوࣰا﴾ وهذا تشنيع على كل من يُسخِّر أحكام الله في الطلاق والعدّة والمراجعة للإضرار بامرأته، كأن يراجعها في اليوم الأخير من العدّة ثم يطلقها مرة ثانية ليزيد فترة انتظارها لا بقصد الإصلاح بل لإيذائها وإبقائها كالمعلَّقة.
- النهي عن منع الزوجة من العودة إلى زوجها بعد انقضاء العدّة بعد الطلاق الأول والثاني ﴿وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن یَنكِحۡنَ أَزۡوَ ٰ⁠جَهُنَّ إِذَا تَرَ ٰ⁠ضَوۡاْ بَیۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ﴾ والخطاب موجّه لوليِّ المرأة ثمّ للمجتمع الذي قد يمارس هذا العضل من خلال العادات والتقاليد، والعودة هنا لا تكون إلا بعقدٍ جديدٍ واتفاقٍ بينهما ليتجاوزا مشكلات التجربة السابقة، والعودة تكون بالتراضي بينهما وهو حقٌّ آخر للزوجة، وفحواه أن لا يجوز إكراهها على العودة كما لا يجوز منعها إذا رأت ذلك.
- حقُّ الولد في الرضاعة من أمه المطلَّقة حولين كاملين: ﴿وَٱلۡوَ ٰ⁠لِدَ ٰ⁠تُ یُرۡضِعۡنَ أَوۡلَـٰدَهُنَّ حَوۡلَیۡنِ كَامِلَیۡنِ﴾ وهو حقٌّ للوالدة أيضًا إلا أن تتنازل عنه، فيجب على الوالد البحث عن مرضعة أخرى، وفترة العامين أصل إلا إذا رأى الوالدان الفصال - أي: الفطام - قبل ذلك بالتشاور والتراضي ﴿فَإِنۡ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضࣲ مِّنۡهُمَا وَتَشَاوُرࣲ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِمَا﴾
- حقُّ الوالدة المطلقة التي اختارت إرضاع ولدها في النفقة: ﴿رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ﴾، وذلك واجبٌ في مال الوالد.
- حقُّ النسب للوالد، فالولد يُدعى لأبيه: ﴿وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ﴾ أي: الأب.
- النهي عن جعل الولد سببًا في الضرر للأب أو للأمِّ: ﴿ لَا تُضَاۤرَّ وَ ٰ⁠لِدَةُۢ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوۡلُودࣱ لَّهُۥ بِوَلَدِهِۦ﴾ وهذا له صور كثيرة؛ منها: ترك الوالد للولد ليُلزمها بحضانته وإرضاعه، أو قبولها أولًا ثمَّ لمَّا تعلَّق بها دفعته إليه بقصد إضراره، وقصد الإضرار من الطرفين يكون الولد فيه هو الضحيَّة.
- كلُّ حقٍّ للولد على والده يكون على ﴿ٱلۡوَارِثِ﴾ أيضًا في حالة غياب الأب بموت ونحوه ﴿وَعَلَى ٱلۡوَارِثِ مِثۡلُ ذَ ٰ⁠لِكَ﴾ والوارث هنا عصبة الولد الذي يرثه في حال وفاته، والتذكير بمسؤوليته هنا لخطورة الأمر، والله أعلم.
سابعًا: الطلاق قد يكون قبل الدخول، وهذا له أحكامه الخاصَّة ومنها: أنها تستحق نصف المهر المتفق عليه: ﴿وَإِن طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدۡ فَرَضۡتُمۡ لَهُنَّ فَرِیضَةࣰ فَنِصۡفُ مَا فَرَضۡتُمۡ إِلَّاۤ أَن یَعۡفُونَ أَوۡ یَعۡفُوَاْ ٱلَّذِی بِیَدِهِۦ عُقۡدَةُ ٱلنِّكَاحِۚ وَأَن تَعۡفُوۤاْ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۚ وَلَا تَنسَوُاْ ٱلۡفَضۡلَ بَیۡنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرٌ﴾.

ثامنًا: وانتهاء العلاقة قد يكون بسبب الموت، وهذا له أحكامه أيضًا؛ ومنها: وجوب العدّة على الزوجة ﴿یَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرࣲ وَعَشۡرࣰا﴾ وفي هذه العدّة تبرئةٌ للرحم وتسكين لها بعد صدمة الموت لتكون أقدر على اتخاذ القرار الصحيح في مستقبل أمرها؛ إذ إنّ المرأة أكثر عاطفةً وقلقًا في مثل هذه الحالات ولا ينكر ذلك إلا مُكابِر.
ومنها: حقّها في البقاء في بيت الزوج حولًا كاملًا مهما كان مصير البيت بالنسبة للورثة، أي: تعتدّ أربعة أشهرٍ وعشرًا ثم تمكث في بيت زوجها حتى إتمام الحول، ولا تلازم بين انتهاء العدّة وإخراجها من سكنها الذي كانت فيه، فالجمع بين الحُكمَين وارد، وهو أَولَى من القول بالنسخ، سيَّما أن مدَّة العدة هي مدة حزنٍ وحدادٍ لا يصح فيها بحثُ الزواج قبولًا أو رفضًا؛ وعليه فهي بحاجةٍ إلى مدَّةٍ أخرى لتتخذ قرارها، فقد يكتب الله لها الزواج فتنتقل إلى بيتٍ آخر، والله أعلم.

تاسعًا: أن العفوَ والتسامُحَ والتراضِي من أخلاق الأسرة الكريمة حتى لو حصل الطلاق، وقد كرَّر القرآن هذه المعاني في هذا المقطع كثيرًا تنبيها إلى أنَّ الأحكام الفقهيَّة والقضائية لا تكفي وحدها لحلِّ كلِّ المشاكل من دون وجود هذا البُعد الأخلاقي اللطيف.
فقد ورد: ﴿أَن تَبَرُّواْ وَتَـتَّـقُواْ وَتُصۡلِحُواْ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ﴾، و﴿إِنۡ أَرَادُوۤاْ إِصۡلَـٰحࣰا﴾، و﴿فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِیحُۢ بِإِحۡسَـٰنࣲۗ﴾، و﴿ إِذَا تَرَ ٰ⁠ضَوۡاْ بَیۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ﴾، و﴿عَن تَرَاضࣲ مِّنۡهُمَا وَتَشَاوُرࣲ﴾، و﴿ وَأَن تَعۡفُوۤاْ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰ﴾.
ويكفي أن نعلم هنا أن الوصية بالمعروف لوحدها قد تكررت في هذا المقطع أكثر من عشر مرّات.

عاشرًا: أن المحافظة على الصلاة وذكر الله على كلِّ حال من شأنه أن يعين المسلم على الالتزام بتلك الأحكام والآداب؛ ولذلك أدخل القرآن آيتين اثنتين في الصلاة والذكر في هذا المقطع: ﴿حَـٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَ ٰ⁠تِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـٰنِتِینَ (٢٣٨) فَإِنۡ خِفۡتُمۡ فَرِجَالًا أَوۡ رُكۡبَانࣰاۖ فَإِذَاۤ أَمِنتُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ﴾.
فالله هو الذي علَّمنا تلك الأحكام والآداب وإنما نقترب منها بذكر الله والخشية منه، وهذا تأكيدٌ لِما تكرّر في المقطع كلّه من التذكير بالتقوى والخوف من الله السميع العليم سبحانه.
وهذه هي طريقة القرآن في الدمْج بين معاني الإيمان ومعاني الأخلاق والأحكام التشريعيّة، وهي طريقةٌ تربويَّة عمليَّة، على خلاف الفصل الذي تلتزم به مناهج التربية المعاصرة والذي أفقد الفقه روحه وجاذبيّته وقدرته الذاتيّة على الإلزام.



﴿لَّا یُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِیۤ أَیۡمَـٰنِكُمۡ﴾ سمَّاه لغوًا؛ ترغيبًا في تجنُّبِه، فتكرار الحلف بغير قصد هو من اللغو، وهو منافٍ لتعظيم اسم الله في قلب المؤمن، والله أعلم.

﴿فَإِن فَاۤءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ﴾ إشارة إلى أن العودة إلى الوفاق بين الزوجين والتراجع عن الإيلاء يقربهما من رحمة الله ومغفرته، بينما عقّب على الخيار الثاني ﴿وَإِنۡ عَزَمُواْ ٱلطَّلَـٰقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ﴾ وفيه إشارة لا تخفى من التحذير والتخويف.

﴿وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِی عَلَیۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَیۡهِنَّ دَرَجَةࣱۗ﴾ هذه قاعدة في الجمع بين قيمة ﴿المساواة﴾، وقيمة ﴿العدل﴾، فكلّ مختلفين في الجنس أو الطبع أو الجهد يشتركان في أصل جامع ويختلفان فيما فوقه، فما اجتمعا فيه كان أهلًا للمساواة، وما اختلفا فيه كان أهلًا للتمايز وتحقيق العدل، فالمرأة تجتمع مع الرجل في كل معاني الإنسانيّة، وهي هنا تستحق ما يستحقّه الرجل تمامًا، ثم تفترق عنه في معانٍ أخرى في بنيتها الجسديّة والنفسيّة والعقليّة والعاطفيّة، وهذا من التنوّع الذي هو أصل الحياة وقوامُها، والمساواة في هذا الجانب ظلم للطرفين، وإنّما المطلوب توزيع الوظائف والأدوار وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه.

فلمَّا كانت المرأة أقدر على رعاية الولد وتحقيق السكينة في البيت أعطيت هذا الدور، في مقابل أن الرجل يعملُ ويكدُّ من أجل النفقة عليها وعلى ولدها، وتوفير متطلَّبات استقرار الأسرة وهيبتها وحمايتها، وهذه هي الدرجة التي يستحقها الرجل وهي مسؤولية كبيرة تتناسب مع ما ميَّزه الله به من قوّةٍ وجَلَد، والله أعلم.

﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَیۡرَهُۥ﴾ الطلاق هنا هو الطلاق الثالث، وهو الذي يُسمّى البائن بينونة كبرى، والذي يقطع عليهما طريق المراجعة إلا أن تتزوّج من آخر، فإن طلّقت منه جاز لها العودة إلى زوجها الأوَّل.

وقد وهم بعض المحدَثين ممّن لم يتفقّهوا في الدين أنّ الزوج الثاني جِيء به بقصد التحليل، وهذا وهْمٌ وباطلٌ، فالإسلام لمَّا منح الزوجين فرصًا كثيرة للمراجعة في الإيلاء والخلع والطلاق الأوّل ثمّ الثاني، كان لا بدَّ أن تكون لهذه التجارب نهاية، فكان الطلاق البائن هذا وبه تنقَطِعُ المراجعة.

وعلى المرأة أن تبحث عن زوج آخر إن رغبت بالزواج، وهذا الزواج دائم وفيه كل غايات الزواج وأحكامه التي تهدف إلى الاستقرار والسكينة والمودّة والرحمة ونحو ذلك.
فإن حصل الفراق بسبب الموت، أو بطلاق بائن، جاز لها أن تتزوَّج مرَّة ثالثة من أي رجل يَحِلُّ لها بمن فيهم زوجها الأوَّل، فإن اختارته كان لها تجربة سابقة معه وتجربة لاحقة، ولمّا اختارته بعد تجربتها الثانية كان هذا الخيار بعد مقارنة محسوبة وهو أقرب للوفاق.
ولذلك عقّب القرآن على هذا الخيار بقوله: ﴿إِن ظَنَّاۤ أَن یُقِیمَا حُدُودَ ٱللَّهِ﴾ بمعنى أنه قد غلب على ظنّهما أنهما قد استفادا من التجربة، ويتأكَّد هذا الخيار على غيره في حال وجود الولد، والله أعلم.

﴿حَوۡلَیۡنِ كَامِلَیۡنِ﴾ تثبيت وتأكيد لحق الولد في الرضاعة لحولين كاملين، ولحق المرضِعة أيضًا في النفقة، وأنّ النقص عن الحولين لا يكون إلا بتشاورٍ واتفاقٍ للتأكُّد من مصلحة الولد، وقد قال:﴿حَوۡلَیۡنِ﴾ ولم يقل:﴿سنتين﴾، أو ﴿عامين﴾؛ دفعًا للخطأ في حساب بداية المدّة ونهايتها؛ فالسنة والعام لهما بداية ثابتة وهي اليوم الأول من الشهر الأول، بينما الحول بدايته مختلفة باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يبدأ الحول في منتصف السنة لينتهي في منتصف السنة الأخرى، وهكذا.

﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ فِیمَا فَعَلۡنَ فِیۤ أَنفُسِهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ﴾ دلالة أن المرأة المتوفَّى عنها زوجها هي صاحبة القرار بعد انقضاء عدّتها فيما تختاره لنفسها.

﴿فِیمَا عَرَّضۡتُم بِهِۦ مِنۡ خِطۡبَةِ ٱلنِّسَاۤءِ﴾ التعريض عكس التصريح، والمقصود هنا: أن الذي يَرغبُ بالزواج من المرأة المتوفَّى عنها زوجها، لا يجوز له التصريح لها بما في نفسه؛ إذ هذا جرح لمشاعرها، واستعجال قد تضطر المرأة لردِّه إظهارًا لوفائها وإن كانت راغبة فيه.

أما التعريض فقد أجازه الشارع؛ لأنَّه يوصل المعلومة دون حرج ودون انتظار للردّ، وهذا من الآداب الإسلاميَّة في إدارة شؤون المجتمع ومراعاة الجوانب النفسيَّة والعاطفية فيه.

﴿إِلَّاۤ أَن یَعۡفُونَ أَوۡ یَعۡفُوَاْ ٱلَّذِی بِیَدِهِۦ عُقۡدَةُ ٱلنِّكَاحِ﴾ تعفو المرأة عن حقِّها وهو نصف المهر إن رغبت هي في ذلك، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو الزوج، وليس ولي المرأة؛ لأنّ الولي لا يملك التنازل عن حقها.
وأمّا تنازل الزوج فصورته أن يكون الزوج قد دفع إليها كامل المهر قبل حصول الطلاق، وقد تكون قد تصرّفت به، فالقرآن يرغّب الزوج بالعفو عن حقّه في استرجاع نصف المهر، والعفو خُلق حميد للطرفين، وهذا من آداب القرآن الاجتماعية.

﴿حَـٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَ ٰ⁠تِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ﴾ عطف للخاص على العام؛ تنبيهًا لشرف الصلاة الوسطى، وتحذيرًا من تفويتها أو التفريط فيها، وقد اختُلف في تحديدها؛ فقال الجمهور: إنّها صلاة العصر؛ لورود أحاديث في هذا، مِنها: حديثُ: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الوُسطَى صَلَاةِ العَصْرِ»﴿ ﴾.
وقال آخرون: إنها الفجر؛ وذلك لقرائن كثيرة، مِنها:
أنَّ اليوم الشرعي يبدأ بمغيب الشمس، وعليه فالصلاة الأولى هي المغرب، والثانية هي العشاء، والثالثة هي الفجر، والرابعة الظهر، والخامسة العصر، فالفجر هي الوسطى من حيث وقتها، وإذا كانت الوسطى بمعنى الشرف والمكانة، فلا شك أنّ الفجر هي الأَولَى بذلك: ﴿وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودࣰا﴾ [الإسراء: 78].
وهناك قرينة ثانية: وهي أنّ مظنَّة تفويت صلاة الفجر أقوى من مظنّتها في غيرها من الصلوات، وهذا هو واقع الناس إلى اليوم، فكان ذلك أدعَى لتأكيد المحافظة عليها وعدم التفريط بها.
وقرينة ثالثة: أنَّ القرآن عقَّب بعد الصلاة الوسطى بقوله: ﴿وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـٰنِتِینَ﴾، والصلاة التي يُرغّبُ فيها بالقيام الطويل والقنوت بمعنَيَيه اللغوي والاصطلاحي إنما هي صلاة الفجر، أما الحديثُ المُتقدِّم فهو ليس الحديثَ الوحيدَ في هذه المسألة؛ إذ أوردَ المُفسِّرون أحاديثَ ورواياتٍ عن الصحابة رضي الله عنهم تُعارِضُ هذا الحديثَ، وليس هنا محلَّ مُناقشَة هذه الروايات، والله أعلم.

﴿فَإِنۡ خِفۡتُمۡ فَرِجَالًا أَوۡ رُكۡبَانࣰا﴾ بعد ذكر القيام والقنوت في الصلاة وما يقتضيانه من سكينة وخشوع، استثنى القرآن حالة الفزع والخوف بملاحقة عدوّ أو خطر داهم مما يقتضي الحركة والاضطراب، فهنا تكون الأولويّة للمحافظة على النفس، وتكون الصلاة بالطريقة التي تنسجم مع الحركة والحذر.

﴿فَرِجَالًا﴾ أي: مشيًا على الأقدام، أو ﴿رُكۡبَانࣰا﴾ أي: ركوبًا على وسائط النقل، وبهذا يعفى المصلِّي عن الأركان العملية؛ كالقيام، والركوع، والسجود، واستقبال القبلة بقدر معارضتها للحفاظ على النفس هيئة وحركة، والله أعلم.

﴿وَٱلَّذِینَ یُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَیَذَرُونَ أَزۡوَ ٰ⁠جࣰا وَصِیَّةࣰ لِّأَزۡوَ ٰ⁠جِهِم﴾ المقصود به: مَن حضَرَتْه الوفاة؛ لأن المتوفَّى ليس أهلًا للوصية، وهذا من مجاز اعتبار ما يكون، كقوله تعالى: ﴿وَلَا یَلِدُوۤاْ إِلَّا فَاجِرࣰا كَفَّارࣰا﴾ [نوح: 27]، فالمولود لا يكون فاجرًا كفارًا عند ولادته بل يقتضي بلوغه سنّ التكليف، والله أعلم.

﴿وَلِلۡمُطَلَّقَـٰتِ مَتَـٰعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ﴾ متاع المطلَّقة ما يعينها على العيش الكريم ويعوِّضها عن النقص الذي حصل بسبب الفراق، وهذا حكم عام يشمل كلَّ مطلَّقة من دون تفصيل، وقد جاء بصيغة الخبر إشارة إلى أنَّ المجتمع الكريم من شأنه أن يسدّ هذه الحاجة وفق أحكام الشريعة، ثم بمراعاة حال المطلّقة وقدرة الزوج.
فمن المتاع ما يحصل بالصداق مسمًّى أو مقدَّرًا، ومنه ما يحصل بالنفقة التي تستحقّها المطلقة طلاقًا رجعيًّا، وكذا التي تستحقّها الوالدة بإرضاع ولدها، فإن لم يكن لها من ذلك شيء كان لها على الزوج ما يطيِّب خاطرها بحسب قدرته، فعدم التحديد في الآية مقصود لمراعاة كلِّ هذه الحالات المختلفة، والله أعلم.