بعد أن تناولت فواتح هذه السورة المجتمع المسلم وهويته وخصائصه المميزة له عن غيره جاءت هذه الآيات لبيان أن هذا المجتمع المسلم هو النموذج العملي والواقعي المعبِّر عن رسالة الإنسان في هذه الأرض؛ حيث خلقه الله واستخلفه على هذه الأرض لغاية عظيمة وحكمة جليلة أكبر من تصورات الغافلين، واهتماماتهم المنحصرة في اللهو والعبث والتمتع الطائش.
ويمكن اختصار هذه المعاني في النقاط الآتية:
أولًا: خلق آدم والإيذان باستِخلافه:
الاستخلاف إنما هو تكليف لآدم وذريته بإدارة هذه الأرض، وإعمارها وتنظيمها بالمنهج الذي يرضاه الخالق الكريم ـ، والآية التي قبل هذا المقطع مباشرة تقول:
﴿هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ لَكُم مَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا﴾.
فالأرض خُلِقَت لآدم، وآدمُ خُلِق ليكون خليفة لله على هذه الأرض، وليس في هذا الاستخلاف ما يوحي بضعف المستخلِف وعجزه عن إدارة ملكه - حاشا لله - وإنما هو الاختبار
﴿لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰا﴾ [الملك: 2].
وهذا المعنى أكَّده القرآن في أكثر من موضع، مثل قوله تعالى:
﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِینَ فِیهِۖ فَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَأَنفَقُواْ لَهُمۡ أَجۡرࣱ كَبِیرࣱ﴾ [الحديد: 7]، وصرفه إلى معنى الخلافة عن خلق آخر كان قبل آدم كما يخلف اللاحق السابق فيه تكلف واستبعاد للغاية الجليلة التي بسطها القرآن في أكثر من موضِع، والله أعلم.
ثانيًا: العلم شرط الاستخلاف الأول:
حينما قدَّم الملائكة أنفسهم تقربًا إلى بارئهم بما عندهم من حسن التعبُّد:
﴿وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾، ردّ الله تعالى عليهم:
﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَاۤءَ كُلَّهَا﴾؛ فالعلم الذي ميَّز الله به آدم هو الذي يؤهّله لهذا الاستخلاف، وهي إشارةٌ إلى أن هذه الأرض لن تُدار أو تُعمر بغير العلم.
ثالثًا: تكريمُ الله تعالى لآدم:
وقد تجسَّد هنا بسجود الملائكة له بأمر من الله تعالى، فهذه هي القيمة الكبرى التي تُستنبط من ذلك السجود، أما الخوض في هيئة السجود وما ينبني عليه من تساؤلات وإشكالات فهو قول في الغيب بلا دليل، وقياس الغيب على عالم الشهادة لا يصح، واستنباط حكم فقهي من تلك الحادثة غير وارد، فالتكليف صدر للملائكة، وهذا لا يصح عليه قياس في تكليف البشر، والله أعلم.
رابعًا: المرأة شريكة الرجل:
﴿وَقُلۡنَا یَــٰۤــَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَیۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ فمهمة الخلافة لا يقوم بها الرجل لوحده، ولا المرأة لوحدها؛ لما بينهما من تنوّع وفوارق في الخلقة تتناسب مع تنوُّع المهمّة، والفوارق الموجودة في طرائق إدارتها عقلًا وعاطفة وشدَّة ورقَّة وهكذا، والسعي لتقليص الفوارق بين النوعين يضر بهما وبالمهمة الملقاة على عاتقهما.
خامسًا: العبادة شرط السعادة:
﴿فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّیۡطَـٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِیهِ﴾ أي: أزلَّهما الشيطان عن طاعة ربهما، فأخرجهما الله من جنته، وهذا من أجل الدرس لا غير؛ لأن الله قال في آدم قبل أن يدخله وزوجه الجنّة:
﴿إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ﴾ وليس في الجنة، فمرورهما في الجنّة إنما كان للتدريب على طبيعة المهمّة ونوعية الصراع الذي سيدور على هذه الأرض مع الشيطان وحزبه.
سادسًا: التوبة طريق النجاة:
﴿فَتَلَقَّىٰۤ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَـٰتࣲ فَتَابَ عَلَیۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ﴾ فالخطأ والخطيئة ملازمان للإنسان بحكم طبيعته وتركيبته الخَلقية، والله لا يريد لهذا الإنسان أن يخرج عن طبعه، يكفيه الاعتراف والاعتذار وإرجاع الحقوق لأصحابها.
سابعًا: التكبُّر طريق الكفر والهلاك:
﴿إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ فإبليسُ لم يكن ملحدًا ولا جاهلًا، وإنما منعه الكِبر عن سلوك طريق الخير والحق، وهي إشارة لكل بني آدم أن التكبّر طريق الغِواية والهلاك؛ لأنه يصمّ الآذان عن سماع النصح والمعلومة الصادقة، ويُعمي العيون عن رؤية العواقب والمآلات، ويُشوِّش على الفكر فلا يحلل ولا يستنتج.
وإنما التكبُّر هو أن تعطي لنفسك أكبر مما تستحق، وتعطي لرأيك مقامًا فوق الآراء؛ لأنه صادر عنك وليس بما يستند إليه من حجة ودليل، أما حفظ المقامات وتمييز العالم عن الجاهل فهذا من صميم العدل الذي لا تستقيم الأرض بغيره
﴿قُلۡ هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلَّذِینَ یَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِینَ لَا یَعۡلَمُونَۗ﴾ [الزمر: 9].
ثامنًا: فريق في الجنَّة وفريق في السعير:
هذه هي نتيجة
﴿الاستخلاف﴾، فمن عمل في هذه الأرض بما أراده خالقها ومالكها الحق فهو من الناجين والفائزين، ومن تنكّب الصراط المستقيم وتكبّر على هَدْي رب العالمين فهو من الخاسرين
﴿فَإِمَّا یَأۡتِیَنَّكُم مِّنِّی هُدࣰى فَمَن تَبِعَ هُدَایَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ﴾.
وفي قوله:
﴿فَإِمَّا یَأۡتِیَنَّكُم﴾ إشارة إلى أن من لم يأته الهدى ولم تبلغه الدعوة فإنه بريء من هذا الخسران، والله أعلم بحاله.