﴿نِعۡمَتِیَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ﴾ من غير تحديد؛ لأن اصطفاء الله لهم نعمة ما بعدها نعمة، فكأنها معلومة من دون تخصيص، وهذا مثل قوله في سورة
الفاتحة:
﴿صِرَ ٰطَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمۡتَ عَلَیۡهِمۡ﴾ أي: بالإيمان.
﴿مُصَدِّقࣰا لِّمَا مَعَكُمۡ﴾ تأكيد أن القرآن يصدِّق الكتبَ السماوية السابقة، فكلها تنبعث من مشكاة واحدة؛ ولذلك اشترط في طريق الهداية
﴿یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ﴾.
﴿وَلَا تَلۡبِسُواْ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَـٰطِلِ﴾ هذا أشد من الدعوة للباطل الظاهر المجرّد؛ لأن لبس الحق به يُعطيه رونقًا وغطاءً شرعيًّا، وهو دَيْدَنُ الكَهَنة ورجال الدين؛ حيث لا يحتاجهم أهل الباطل في التنظير لباطلهم، وإنما يحتاجونهم لتغرير الجماهير المتدينة بالفتاوى التي تزيّن الباطل وتقدّمه بثوب الحق ولباسه، وذلك قوله:
﴿وَلَا تَلۡبِسُواْ﴾.
﴿أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ﴾ أمر الناس بالبر هو من البر، وإنما الإنكار على نسيان النفس وهي أَولَى بهذا الأمر، وقد عكس بعضهم فظنوا أنّ في الآية تحذيرًا للدعاة والعاملين للإسلام من الاستمرار في الدعوة إن هم وقعوا في المعصية، ومثلُ هذا من يقول: إن لم تصُمْ رمضان فلا تُزكِّ.
إن الدعوة واجبة وتركها إثم، فمن تركها وهو مقيم على معصية أخرى فقد ارتكب معصيتين، ولا تصح الثانية مبررًا للأولى، أو سببًا في إسقاط ذلك الواجب.
ولتقريب الصورة فمن واجب الطبيب أن ينصح المرضى، ومن واجبه أيضًا أن يلتزم بما نصح، ولا يصح تركه للالتزام أن يترك واجبه في نصح الآخرين وإلا كان غاشًّا لهم ووقع في الإثمَين، والله أعلم.
﴿وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَـٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ تأكيد للربط الوثيق بين الوحي والعقل، فالوحي لا يفهمه المجانين والأغبياء من الناس، وهذا متأكّد في القرآن في كثير من الآيات
﴿إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ﴾ [النحل: 12] ، و
﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ وإنما جرَى تصوُّر الخلاف بينهما على أصلٍ فاسدٍ، وهو التفريقُ بين المعرفة الدينيَّة والمعرفة العلميَّة.
وحقيقة هذا الأصل إنما هي الإلحاد وإنكار الخالق، أو تكذيب الوحي؛ لأن المؤمن بالوحي وأنه من الله الخالق لهذا الكون لا يستطيع توهُّم الخلاف بين حقيقة وحي الله وحقيقة خلق الله، وهما من مصدر واحد.
﴿وَٱسۡتَعِینُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِ﴾ فيه الإشارة إلى صلة الصبر بالصلاة، فالمصلّي أقدر على الصبر من غيره؛ وما ذاك إلا لتذكاره المتواصل بحقيقة هذه الحياة وعاقبتها، وحين تجد مُصلِّيًا قليلَ الصبر سريع الغضب والجزع فاعلم أنه لم يفقه من الصلاة ما أودعه الله فيها من حكمة وعظة.
﴿وَلَا یُقۡبَلُ مِنۡهَا شَفَـٰعَةࣱ﴾ لأن الشفاعة إنما هي دعاء بالمغفرة للغير، وهو مَنْهيٌّ عنه في حق المشرك في الدنيا قبل الآخرة؛ ولأنه تعالى حسم أمر المشركين بقوله:
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَغۡفِرُ أَن یُشۡرَكَ بِهِۦ﴾ [النساء: 48].
أما الشفاعة للمؤمنين فهذا ثابت في الدنيا بدعاء المسلم لأخيه، وفي الآخرة بالشفاعة العظمى لسيدنا محمد ج ثم للأنبياء والشهداء والصالحين، وهذه الشفاعة هي من الثواب المناسب لما كان بين الشفيع والمشفَّع له من صلةٍ وبرٍّ ومودَّةٍ.
﴿وَلَا یُؤۡخَذُ مِنۡهَا عَدۡلࣱ﴾ وهو الفداء؛ وذلك لأنه لا يملكه أصلًا، ولو ملكه فرضًا فهو من العمل وقد انتهى عمل الإنسان كلُّه في دار العمل ولم يبق له إلا انتظار الجزاء.
﴿وَلَا هُمۡ یُنصَرُونَ﴾ لأنه لم تعُد لمخلوق قوَّة لا على الحقيقة ولا على المجاز، تلك القوَّة التي كان الناس يتنَاصَرُون بها بالحق والباطل، والقرآن هنا يُؤكِّد أنكم أيها البشر لم تعودوا تملكون شيئًا مما كنتم تملكونه في الدنيا ممَّا تدفَعُون به الأخطار؛ كالجاه والقرابة والمال والقوَّة، لقد انتهى كلُّ ذلك وتغيَّرَ كل شيء.
﴿وَفِی ذَ ٰلِكُم بَلَاۤءࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِیمࣱ﴾ وهو تَقتِيلُ الأبناء واستحياء النساء، وهذه جرائم منكرة وبشعة كان يقوم بها فرعون بحقِّ بني إسرائيل، وليس في قوله:
﴿مِّن رَّبِّكُمۡ﴾ تزكية لهذه الجرائم، وإنما هي صورة من صور الصراع والابتلاء التي تدور على هذه الأرض بعلم الله وسمعه وبصره؛ لأنّ هذه هي متطلّبات الامتحان والاختبار لهذا الكائن المستخلَف على هذه الأرض، وليس لأن الله يرضى بذلك، حاشا لله.