سورة البقرة تفسير مجالس النور الآية 71

قَالَ إِنَّهُۥ یَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةࣱ لَّا ذَلُولࣱ تُثِیرُ ٱلۡأَرۡضَ وَلَا تَسۡقِی ٱلۡحَرۡثَ مُسَلَّمَةࣱ لَّا شِیَةَ فِیهَاۚ قَالُواْ ٱلۡـَٔـٰنَ جِئۡتَ بِٱلۡحَقِّۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ یَفۡعَلُونَ ﴿٧١﴾

تفسير مجالس النور سورة البقرة


المجلس الخامس: بنو إسرائيل في خضمِّ التجربة


من الآيه 51 إلي 74


يعرِض القرآن الكريم في هذا المقطع مداخلات متنوعة ومتراكمة من التجربة الإسرائيلية بعد العهد الذي أعطاه الله لهم وفق البنود التي مرَّت معنا:

أولًا: حاجة الداعية إلى الخلوة والانقطاع للعبادة والمناجاة:
حيث تبدأ التجربة باصطفاء الله لنبيه وكليمه موسى عليه السلام ليقود بني إسرائيل في هذه التجربة الطويلة والثقيلة، وقد بدأ الآيات بـ ﴿وَإِذۡ وَ ٰ⁠عَدۡنَا مُوسَىٰۤ أَرۡبَعِینَ لَیۡلَةࣰ﴾ ومعنى المواعدة هنا الانقطاع التام لله تبتُّلًا وعبادةً ومناجاةً.
ويبدو أنَّ هذا دأب الأنبياء؛ تهيئةً وإعدادًا لهم قبل النزول إلى ميدان الدعوة وإصلاح المجتمع، فقد قال الله لنبيّه محمدٍ : ﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ (١) قُمِ ٱلَّیۡلَ إِلَّا قَلِیلࣰا (٢) نِّصۡفَهُۥۤ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِیلًا (٣) أَوۡ زِدۡ عَلَیۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِیلًا (٤) إِنَّا سَنُلۡقِی عَلَیۡكَ قَوۡلࣰا ثَقِیلًا﴾ [المزمل: 1 - 5]، فالأمانة الثقيلة تحتاج إلى هذا العمق الروحي والاتصال الوثيق بالله تعالى.

ومعلوم أنه كان قد حُبِّب إليه الاعتزال في غار حراء لشهور عدَّة قبل البعثة، وقد أخذ من هذا بعض المربِّين والموجهين ضرورة أن يمرَّ الطالبُ أو السالك في هذه المرحلة، وليس في هذا حرج إذا كان مضمون الخلوة لا يخرج عن إطار الشريعة وأحكامها.

إنَّ موسى عليه السلام لم يكن له أن يصبر على تعقيدات قومه وتقلباتهم ونزقهم لولا هذا الإعداد الربّاني الفريد.

ثانيًا: تأييد الله لنبيِّه بالمعجزات:
لقد حوَى هذا المقطع عددًا من المعجزات تأييدًا لمسيرة سيدنا موسى عليه السلام مع قومه؛ منها: ﴿وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَیۡنࣰاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسࣲ مَّشۡرَبَهُمۡ﴾ وكأنَّ الله جعل لكل سبط أو قبيلة منهم عينًا.
ومنها: رفع الطور فوقهم؛ تخويفًا وإلزامًا وإشعارًا بجديَّة الأمر: ﴿وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَاۤ ءَاتَیۡنَـٰكُم بِقُوَّةࣲ﴾.
ومنها: إحياء القتيل ليشهد على قاتله: ﴿فَقُلۡنَا ٱضۡرِبُوهُ بِبَعۡضِهَاۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ یُحۡیِ ٱللَّهُ ٱلۡمَوۡتَىٰ﴾ ويقرب منه قوله: ﴿ثُمَّ بَعَثۡنَـٰكُم مِّنۢ بَعۡدِ مَوۡتِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾.
وهذه المعجزات وإن جاءت كل واحدة منها لغرض محدد، ولكنَّها يجمعها أصل واحد، وهو إظهار صدق النبيِّ وتعزيز دوره في قيادة قومه.
والمعجزة: أمر خارق لما اعتاده الناس من نواميس الكون وقوانين الحياة الطبيعية يظهره الله على يد النبيِّ تأييدًا له، مع تضمُّنه لمعنى التحدِّي بحيث يعجز الآخرون عن الإتيان بمثله.
وينبغي التأكيد هنا أن المعجزة لا تخرق القوانين العقلية؛ إذ العقل لا يمنع تغيير هذه النواميس في ظروف أخرى، كقانون الجاذبية الذي يختلف من كوكب لآخر.

ثالثًا: نعم الله الماديَّة على بني إسرائيل:
في هذا المقطع امتنّ الله على بني إسرائيل بكثير من النعم المادّية ﴿وَظَلَّلۡنَا عَلَیۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰ﴾ و﴿فَكُلُواْ مِنۡهَا حَیۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدࣰا﴾ و﴿ٱهۡبِطُواْ مِصۡرࣰا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلۡتُمۡ﴾.

رابعًا: السلوك الشائن لبني إسرائيل:
مع كل هذه النعم وكل تلك المعجزات فقد سجَّلَ القرآن في هذا المقطع عددًا من المواقف والتصرفات الشائنة، والتي سنختصرها في النقاط الآتية:

أ - عبادة العجل:
وهو تمثال من ذهب على هيئة عجل صنعه لهم السامري فتعلقتْ به قلوب مجموعة ظاهرة منهم، بحيث لم يستطع الآخرون مقاومتهم في ظل غياب موسى عليه السلام، وهذه ظاهرة تعلّق الناس بالمحسوس الذي يقع تحت مدركات الإنسان، ومن ثَمَّ كانت عبادة الأصنام والأوثان والكواكب وغيرها.

وقد تسلَّلتْ هذه الظاهرة على بعض المنتسبين للديانات السماويَّة، فمالوا إلى تقديس أنبيائهم أو أوليائهم إلى درجة العبادة، ثمّ بالغوا حتى عبدوا القبور كما يحصل الآن حول القبور المزعومة لأهل البيت من سجودٍ وطوافٍ ونذور.

ب - سوء الأدب مع الله:
وهذا سلوك شائع عند بني إسرائيل، وفي هذا المقطع يعرض القرآن نموذجا لهذا السلوك ﴿وَإِذۡ قُلۡتُمۡ یَـٰمُوسَىٰ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهۡرَةࣰ﴾.

فرغم كثرة المعجزات التي رأوها بأعينهم، ورعاية الله لهم، إلا أنهم لا زالوا يضعون الشروط على نبيّهم، فهم يريدون منه أن يريَهم الله، ليس هذا فقط بل ينبغي أن تكون الرؤية بالطريقة التي يريدون ﴿جَهۡرَة﴾، وصدَّرُوا طلبهم هذا بقولهم: ﴿لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ﴾ بمعنى: أنّهم ليسوا مصدِّقِين له، أو أنهم غير ملتزمين بالتسليم له؛ ولذلك عاقبهم الله ﴿فَأَخَذَتۡكُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ﴾.

وهذا العقاب لم يأت لمجرد طلبهم الرؤية، فموسى عليه السلام كان قد طلب ذلك: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِیۤ أَنظُرۡ إِلَیۡكَۚ﴾ [الأعراف: 143]، وهذا يبطل استدلال المعتزلة بهذه العقوبة على استحالة الرؤية، والله أعلم.

جـ - تبديل القول:
﴿فَبَدَّلَ ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ قَوۡلًا غَیۡرَ ٱلَّذِی قِیلَ لَهُمۡ﴾ [الأعراف: 162]، وهذا نوع من التلاعب والاستخفاف بالدين، وربَّما يكون هذا السلوك الشائن هو الذي جرّ إلى الجرأة على تحريف الكتاب، كما سيأتي.

د - هـ - الكفر بآيات الله وقتل النبيين:
﴿ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ یَكۡفُرُونَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ وَیَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ﴾.

و- قسوة القلب:
﴿ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَ ٰ⁠لِكَ فَهِیَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةࣰۚ﴾ وربما تكون هذه الصفة هي مبعث كل ذلك السلوك وتلك الخطايا.

والذي ينبغي التنبُّه له هنا أن هذه الخطايا أو الجرائم خاصة تلك التي تصل إلى حد الكفر لم تكن صفة المجتمع الإسرائيلي بشكل عام، وإنما جزء من حالة الصراع الداخلي بين قيم الخير وقيم الشر في المجتمع ذاته.
وقد ذكر القرآن في هذا المقطع نفسه التزامهم بذبح البقرة رغم ما شدَّدوا على أنفسهم فيه، ويشهد لهذا أيضًا ورودُ عدد ليس بالقليل من أخبار صالحيهم في الأحاديث الصحيحة، والله أعلم.

خامسًا: العفو الإلهي المتكرر:
فرغم كثرة جرائمهم وخطاياهم إلا أن عفو الله يتكرر معهم بعد كل خطيئة مهما كانت، ويكفي لهذا تدبّر هذه الآيات ﴿وَإِذۡ وَ ٰ⁠عَدۡنَا مُوسَىٰۤ أَرۡبَعِینَ لَیۡلَةࣰ ثُمَّ ٱتَّخَذۡتُمُ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَـٰلِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوۡنَا عَنكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَ ٰ⁠لِكَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (٥٢)﴾ ثمّ أكَّد هذا العفوَ بقوله: ﴿فَتَابَ عَلَیۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ﴾.

ورغم ما اعتمده بعض المفسرين من روايات تفسيريّة أو أخبار ﴿إسرائيليّة﴾ في حصول مقتلة عامة وعظيمة بين بني إسرائيل بسبب حادثة العجل تنفيذا لقوله تعالى: ﴿فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِىِٕكُمۡ فَٱقۡتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمۡ﴾ إلا أن سياق الآيات لا يؤيّد هذا التوجّه، فالله قد امتنّ عليهم بهذا العفو وهذه التوبة، وهذا لا يتناسب مع تلك الروايات.

كما أنَّ الذي صنع العجل - وهو السامريُّ - اكتفى موسى عليه السلام بعزله عن المجتمع ﴿قَالَ فَٱذۡهَبۡ فَإِنَّ لَكَ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَۖ﴾ [طه: 97]، وقد اكتفى موسى عليه السلام بتحريق التمثال ﴿وَٱنظُرۡ إِلَىٰۤ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِی ظَلۡتَ عَلَیۡهِ عَاكِفࣰاۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُۥ﴾ [طه: 97].

وأما قوله: ﴿فَٱقۡتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمۡ﴾ فهو بيان حكم الله الأصلي في من ارتكب مثل هذه الجريمة قبل ورود العفو الإلهي، والله أعلم.
ثم تكرر العفو الإلهي الضمني عنهم بعد جرأتهم والإعراب عن استعدادهم للتمرد على موسى ﴿وَإِذۡ قُلۡتُمۡ یَـٰمُوسَىٰ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهۡرَةࣰ فَأَخَذَتۡكُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثۡنَـٰكُم مِّنۢ بَعۡدِ مَوۡتِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾.

ومثل هذا قوله فيهم: ﴿ثُمَّ تَوَلَّیۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَ ٰ⁠لِكَۖ فَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَكُنتُم مِّنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ (٦٤)﴾ إنَّ هذه الرحمة الإلهيَّة التي شملت هؤلاء القُساةَ العُصاةَ لَتُلقي في نفس القارئ قدْرًا كبيرًا من الطمأنينة والأُنس الودود بعظيم كرم الله، مع قدْر مماثل من الحياء والخشوع الدافع للطاعات واجتناب الموبقات والمخالفات.

سادسًا: قانون العدل الذي يحكم الجميع:
وقد نص هذا القانون على معيار الحكم العادل بلا محاباة ولا مداراة ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِینَ هَادُواْ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِـِٔینَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ (٦٢)﴾.
وذِكرُ هذا القانون في وسط المقطع المخصّص للحديث عن تجربة بني إسرائيل، إنما هو للتذكير أن هذه التجربة لا تختلف عن التجارب السابقة أو التجارب اللاحقة من حيث خضوعها لقانون العدل الإلهي.




﴿وَإِذۡ وَ ٰ⁠عَدۡنَا مُوسَىٰۤ أَرۡبَعِینَ لَیۡلَةࣰ ثُمَّ ٱتَّخَذۡتُمُ ٱلۡعِجۡلَ﴾ فيه إشارة إلى أن غياب القائد الموجّه يدَعُ الناس عُرضة للضلال والانحراف.

﴿فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِىِٕكُمۡ﴾ فيه لوم على تفضيلهم لعبادة العجل على عبادة الله الذي برَأَهم وخلقهم من العدم.

﴿فَأَخَذَتۡكُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثۡنَـٰكُم مِّنۢ بَعۡدِ مَوۡتِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (٥٦)﴾ ثُمَّ للعطف المؤخَّر، والأقرب هنا التنبيه إلى عظيم المنّة وليس التأخير الزماني، فهم لم يتعرّضوا للموت المؤدي إلى تفسّخ الأجساد وتحللها، بل هو الموت الخاطف الذي يكون بتوقّف القلب الطارئ لهول الصدمة والصعقة، ثم أعاد الله إليهم حياتهم الطبيعيّة، أما ذلك الموت الذي تنفصل فيه الروح عن الجسد بحيث يَبلَى فلا يكون إلا مرة واحدة في الدنيا ﴿لَا یَذُوقُونَ فِیهَا ٱلۡمَوۡتَ إِلَّا ٱلۡمَوۡتَةَ ٱلۡأُولَىٰۖ﴾ [الدخان: 56].

وقد ذكر الأطباء المعاصرون كثيرًا من حالات توقف القلب وشعور الشخص كأنه قد انفصل عن جسده، وهو ما يمكن تسميته بالموت المؤقت الذي يزول بزوال أسبابه، والله أعلم.

﴿وَظَلَّلۡنَا عَلَیۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰ﴾ الغمام هو الغيم الذي كان يقيهم حرّ الشمس، والمنُّ هو طعام يأتيهم بلا زراعة ولا صناعة، وقد ورد في الحديث الصحيح «الكَمْأَةُ مِنَ المَنِّ»﴿ ﴾ لهذا المعنى.
أما تحديد المنِّ الذي كان ينزل عليهم بالصَّمْغ الحُلو وما شابَهَ فلا أعلم فيه دليلًا ثابتًا، والسلوى نوع من الطيور.

﴿فَكُلُواْ مِنۡهَا حَیۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدࣰا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدࣰا﴾ إشارة إلى الجمع بين العبادة لله والرغادة في العيش، لا كما يظنه من توهّم معنى للزهادة بترك الدنيا ومتاعها وزينتها.

﴿فَأَنزَلۡنَا عَلَى ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْ رِجۡزࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ﴾ إشارة إلى أن الرغادة مع الإيمان والعدل، وأن العذاب والضَّنْك مع الكفر والظلم.

﴿قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِی هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِی هُوَ خَیۡرٌ﴾ إشارة إلى أن نعم الله كلها خير، إلا أنها تتفاوت بخواصِّها وبمناسبتها للناس تبَعًا لأحوالهم وحاجاتهم، فالبقل والقثاء والفوم والعدس والبصل من نعم الله التي لا يصح الاستهانة بها، لكنها ليست خيرًا من المنِّ والسلوَى والطيبات الأخرى من الطعام، وربما تكون هذه الطيّبات أنسب لأجسادهم المرهقة في التيه لما فيها من طاقة أعلى من تلك التي طلبوها، وليست هذه نصًّا في تفضيل هذه على تلك في كل الأحوال، فهناك من يضرُّه الحلو وهناك من يضرُّه اللحم، فتكون تلك بالنسبة له أفضل، والله أعلم.

﴿خُذُواْ مَاۤ ءَاتَیۡنَـٰكُم بِقُوَّةࣲ﴾ فيه إشارة لحاجة الحق إلى القوّة لتحمله وتحميه، وحاجة القوة إلى الحق ليوجهها ويهذِّبها.
وقد وردت هذه الإشارة في أكثر من موضع مثل: ﴿یَـٰیَحۡیَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَـٰبَ بِقُوَّةࣲۖ ﴾ [مريم: 12]، و﴿وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡمِیزَانَ لِیَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِیدَ فِیهِ بَأۡسࣱ شَدِیدࣱ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ﴾ [الحديد: 25].

﴿كُونُواْ قِرَدَةً خَـٰسِـِٔینَ﴾ عقوبة لقوم يعيشون في قرية على البحر، حرَّم الله عليهم الصيد يوم السبت فاعتدوا وعصوا وأكلوا الحرام، فعاقبهم الله بالمسخ الجسدي أو المعنوي، والجسدي أقرب لظاهر الآية، والمعنوي أقرب للسياق العام؛ حيث إنَّ الله لم يُعاقِب الذين عبدوا العجل وقتلوا النبيين بهذه العقوبة.
ومعنى المسخ المعنوي: أن نفوسهم أصبحت حقيرة ذليلة، وهممهم باتت وضيعة دنيئة؛ بحيث إنهم آثروا صيد السمك على الوفاء بميثاقهم وعهدهم مع الله.
وهذا الفهم أقرب للتاريخ أيضًا؛ إذ لو حصل مسخ جسدي لتناقله المؤرخون، ولذكروه ولو من باب الخلاف في وقوعه، وأيّا كان المسخ فلا يجوز تعميمه على كل بني إسرائيل، ولا يجوز القول لليهود مهما بلغوا من الكفر والظلم: يا أولاد القردة والخنازير، فهذا حكم بلا دليل وهو مناف للحق والعدل.

﴿قَالُواْ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ یُبَیِّن لَّنَا مَا هِیَ﴾، ثم ﴿ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ یُبَیِّن لَّنَا مَا لَوۡنُهَا﴾، ثم عادوا فقالوا: ﴿ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ یُبَیِّن لَّنَا مَا هِیَ﴾ فيه إشارة لنمط مختلف عن النمط السابق، النمط المتشدد المتنطّع، الذي ينظر للدين من ثقب إبرة، ويدفعه ورَعُه الجاهل إلى الوسواس المفضي إلى تعطيل العقل وتضييق مساحة التدبُّر والاجتهاد، فهؤلاء أمرهم الله بذبح بقرة، وكان بإمكانهم ذبح أية بقرة، لكنّهم راحوا يسألون نبيّهم عن أوصافها وأحوالها تورعا واحتياطا بزعمهم، فشدّدوا فشدّد الله عليهم، وهذه ظاهرة في المجتمعات الدينيَّة.
وقد رأيت من الشباب المتديّن من يقضي وقتًا طويلًا للمُباحَثة والمجادلة في هيئةٍ من هيئات الصلاة، حتى يوالي فيها ويعادي فيها، ثم يُقصِّر عن البحث في مقاصد الشريعة، ومنظومة القيم الكبرى التي جاء بها الإسلام لصقل النفوس وبناء الأمم.
إن هذا المعنى يتناسب مع النهج القرآني في تقديم الصورة المتكاملة عن التجربة، فحين قدّم هناك صورة الفاسقين المتهاونين في الأمر والنهي، عرَّج هنا على الطرف الآخر.
وأما مَن ذهب ليستوحي من القصَّة هذه معالمَ الشخصيَّة اليهوديَّة في المراوغة والمماطلة، فهي وإن كانت حقًّا من حيث الواقع، إلا أنَّ الاستشهاد بهذه القصّة مُستبعَد؛ فسَمتُ التديّن والتشدّد واضح عند هؤلاء؛ بحيث إنهم فعلوا ما أمرهم الله به حرفيًّا رغم أنّ ذلك كلّفهم الكثير ممّا يملكونه من مال، حتى قال بعض المفسّرين بأنَّ صاحبها اشترط عليهم حشو جلدها ذهبًا! لأنَّ بقرته هي البقرة الوحيدة التي تنطبق عليها الصفة.

﴿وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا یَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَـٰرُۚ﴾ ، هذه المقارنة بين القلوب القاسية وبين الحجارة فيها دقائق لطيفة؛ منها: أن الإنسان قاسي القلب يتحوّل إلى شرٍّ محض، بخلاف الحجارة التي قد تنفع في شأن من شؤون الحياة.
ومنها: أن النصيحة التي تخرج من إنسان لا يعمل بها قد تنفع الآخرين كالماء الذي يخرج من الحجارة فتنتفع الأرض به إلا تلك الحجارة.
ومنها: أن المؤمن عليه أن لا ييأس من هداية الناس مهما بلغوا من الغلظة والجفاء، فإن الحجارة قد يتفجر منها الماء وقد تهبط من خشية الله.

﴿وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا یَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡیَةِ ٱللَّهِ﴾ فيه أكثر من وجه:
منها: أن الكون كله خاضع لإرادة الله في حركاته وسكناته، وعبّر هنا عن الخضوع بالخشية، كما عبّر عنه بالتسبيح في مواضع أخرى.
ومنها: أن هبوطها يسبب الخشية من الله في قلوب الناس خوفًا من عذابه.
ومنها: أن كل ذلك تشبيه لقلوب البشر؛ فمنها من يتفجّر بالخير والعطاء، ومنها من يتشقق باليسير منه، ومنها من يتواضع ويستشعر مقام الذِلّة والعبوديّة لله الكبير المتعال ـ، ولا تعارض أبدًا بين هذه الوجوه، والله أعلم.