سورة البقرة تفسير مجالس النور الآية 94

قُلۡ إِن كَانَتۡ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلۡأَخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةࣰ مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ ﴿٩٤﴾

تفسير مجالس النور سورة البقرة


المجلس السادس: محاكمة ومحاججة


من الآية (75- 103)


بعد عرض القرآن لمواقف مَفْصلية في تجربة بني إسرائيل، بدأ في هذا المقطع يحاكم هذه التجربة ويضعها في الميزان، ويردِّد الخطاب بين مناقشة أصحاب التجربة الأولى ﴿بني إسرائيل﴾ وبين تقديم الموعظة والعبرة لأصحاب التجربة الجديدة ﴿المسلمين﴾:

أولًا: العدل في المحاكمة:
يظهر هذا في نسبة الخطأ لفاعله دون تعميمه على الجميع، وإن كان هذا الخطأُ قد نشأ ونما في ظل هذه الحاضنة الاجتماعية الكبيرة، فتراه يقول: ﴿وَقَدۡ كَانَ فَرِیقࣱ مِّنۡهُمۡ یَسۡمَعُونَ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ یُحَرِّفُونَهُۥ﴾، ويقول: ﴿وَمِنۡهُمۡ أُمِّیُّونَ لَا یَعۡلَمُونَ ٱلۡكِتَـٰبَ﴾، ويقول: ﴿أَوَكُلَّمَا عَـٰهَدُواْ عَهۡدࣰا نَّبَذَهُۥ فَرِیقࣱ مِّنۡهُم﴾، ويقول: ﴿نَبَذَ فَرِیقࣱ مِّنَ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ وَرَاۤءَ ظُهُورِهِمۡ﴾.
وعليه فالآيات التي تأتي بصيغة التعميم ينبغي صرفها بمقتضى السياق، مثل: ﴿ثُمَّ أَنتُمۡ هَـٰۤـؤُلَاۤءِ تَقۡتُلُونَ أَنفُسَكُمۡ﴾، و﴿بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ﴾، و﴿وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتۡلُواْ ٱلشَّیَـٰطِینُ﴾ فهذه الأفعالُ لم تقع من جميع بني إسرائيل، بل منهم من أنكرها وتبرَّأَ منها؛ ولذلك حينما يُصدر القرآن أحكامه يُؤكِّد هذه الحقيقة ﴿بَلَىٰۚ مَن كَسَبَ سَیِّئَةࣰ وَأَحَـٰطَتۡ بِهِۦ خَطِیۤـَٔتُهُۥ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ (٨١) وَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أُوْلَــٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ (٨٢)﴾، و﴿فَمَا جَزَاۤءُ مَن یَفۡعَلُ ذَ ٰ⁠لِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡیࣱ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یُرَدُّونَ إِلَىٰۤ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِ﴾.

ثانيًا: التنبُّؤ بسلوك الأجيال اللاحقة:
الحُكم يلحقُ الفاعلَ دون مَن يعلق به من أصوله أو فروعه ﴿كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِینَةٌ﴾ [المدثر: 38]، ﴿وَأَن لَّیۡسَ لِلۡإِنسَـٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾ [النجم: 39]، بَيْدَ أن هذا لا يلغي التأثير والتأثُّر المتبادل؛ ولذلك يمكن تصنيف المجتمعات البشرية وفق موروثها الثقافي الطويل، بحيث يمكن تسجيل العلامات الفارقة لكل مجتمع وكأنه يمتلك بمجموعه شخصيّة متميّزة، ومن هنا تأتي دقّة التشخيص القرآني في قوله تعالى: ﴿ أَفَتَطۡمَعُونَ أَن یُؤۡمِنُواْ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِیقࣱ مِّنۡهُمۡ یَسۡمَعُونَ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ یُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ (٧٥)﴾ وهذا ما حصل بالفعل، فأقلُّ نسبة استجابة لهذا الدين كانت ولا زالت في المجتمعات اليهوديَّة.

ثالثًا: تحريف الكتاب:
﴿فَوَیۡلࣱ لِّلَّذِینَ یَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِأَیۡدِیهِمۡ ثُمَّ یَقُولُونَ هَـٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِیَشۡتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنࣰا قَلِیلࣰاۖ فَوَیۡلࣱ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَیۡدِیهِمۡ وَوَیۡلࣱ لَّهُم مِّمَّا یَكۡسِبُونَ﴾ وهذه الآية نصّ في تحريفهم لنصّ الكتاب وليس في تفسيره أو تأويله، وواقع الكتاب ﴿التوراة﴾ فضلًا عن بقيّة الأسفار الملحقة بها يشهد لهذا التحريف النصِّي؛ لما فيه من تناقض ومخالفات صريحة لقوانين العقل ولعقيدة التوحيد ومبادئ الدين الأصيلة.

رابعًا: تنكُّرهم للميثاق الإلهي القاضي باتباع خاتم النبيين ومناصرته:
﴿وَلَمَّا جَاۤءَهُمۡ كِتَـٰبࣱ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقࣱ لِّمَا مَعَهُمۡ وَكَانُواْ مِن قَبۡلُ یَسۡتَفۡتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاۤءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِۦ﴾ وقد عزا القرآن هذا النكث إلى البغي ﴿بَغۡیًا أَن یُنَزِّلَ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ عَلَىٰ مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ﴾ وإلى ما عرف في تأريخهم من قتل للنبيين وكفر بهم ﴿أَفَكُلَّمَا جَاۤءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰۤ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِیقࣰا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِیقࣰا تَقۡتُلُونَ﴾ بل لقد ربط القرآن بين هذا النكث وانقلابهم على عقيدة التوحيد في غيبة موسى المؤقتة؛ حيث اتخذوا العجل إلهًا ﴿وَلَقَدۡ جَاۤءَكُم مُّوسَىٰ بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ ثُمَّ ٱتَّخَذۡتُمُ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَـٰلِمُونَ (٩٢)﴾.

خامسًا: محاكمتهم وفق بنود الميثاق التفصيليَّة:
وهي موضَّحة كما في الآيات (83، 84، 85):
1- عبادة الله وحده.
2- برُّ الوالدين والإحسان إليهما.
3- صلة الرحم ﴿ذي القربى﴾.
4- الإحسان إلى اليتامى.
5- الإحسان إلى المساكين.
6- التعامل الحسن مع كل الناس.
7- إقامة الصلاة.
8- إيتاء الزكاة.
9- تحريم سفك الدماء.
10- تحريم اغتصاب المساكن وإخراج أهلها منها.
وهذه البنود قريبة مما ورد في ﴿الوصايا العشر﴾ المعروفة في الشريعة اليهوديّة، لكنّ القرآن يسجّل مخالفة بني إسرائيل لهذه البنود، ولا يستثني إلا القليل منهم ﴿ثُمَّ تَوَلَّیۡتُمۡ إِلَّا قَلِیلࣰا مِّنكُمۡ﴾ والملاحظ أن هذه البنود مثَّلَت القيم الدينيَّة الكبرى في توحيد الله وعبادته والإحسان إلى خلقه ونشر معالم الفضيلة والأخلاق الحسنة.
ويَقرُب من هذا ما ورد في سورة الأنعام (151، 152، 153)، والتي جعلها القرآن تحت عنوان: ﴿ذَ ٰ⁠لِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ﴾ [الأنعام: 151]، ﴿ ﴾، بإشارةٍ لمصطلح ﴿الوصايا﴾، وليس في هذا غضاضة، بل هو ما يُثبِت أن الرسالة الخاتمة جاءت مصدِّقةً ومكمِّلةً للرسالات السابقة، والله أعلم.

سادسًا: منهج الانتقائية مرفوض:
حينما يحاول الإنسان أن يجمع بين معتقداته ومبادئه من ناحية، وبين نزواته وشهواته من ناحية أخرى فإنه يلجأ إلى طريقة الانتِقاء، فهو مُتديِّنٌ في مكان، وغير مُتديِّنٍ في مكان آخر.
وقد سجَّل القرآن هذا السلوك في التجربة الأولى للاستخلاف ﴿أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضࣲۚ فَمَا جَزَاۤءُ مَن یَفۡعَلُ ذَ ٰ⁠لِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡیࣱ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یُرَدُّونَ إِلَىٰۤ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ﴾.

وهذا السلوك نراه اليومَ ظاهرًا في محاولات التلفِيق بين الإسلام وبين المناهج الوافدة والغازية، وكذلك نَلحَظه في السلوك الفردي لكثير من المتديّنين؛ حيث إنهم يحرصون على الشعائر كالصلاة والصيام والحج والعمرة، ثُمَّ يستَهِينُون بحقوق الناس والضعفاء منهم خاصّة، وقد ترى الشخص نفسه يحتكم في المسجد للشريعة، ويحتكم في السياسة للمقولات الوطنيَّة أو القوميَّة حتى لو كانت مخالفة للشريعة، وهذا قد يكون معذورًا إن كان بحكم إدارة الواقع، لكن الذي لا يشمله العذر هو تحويل هذه الازدواجيَّة إلى ثقافة يُروِّج لها ويدافع عنها.

سابعًا: حبُّ الدنيا وكراهية الموت دليل فساد التديُّن:
فالمؤمن يعمل في الدنيا وقلبه معلَّق بالآخرة لما فيها من القربى والكرامة والنعيم الأبدي، فإذا رأيته متشبّثًا بالدنيا زاهدًا بالآخرة فهو لنقص في إيمانه وفساد في نيّته وعمله، وهذا ما حاجج به القرآن بني إسرائيل ﴿قُلۡ إِن كَانَتۡ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلۡأَخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةࣰ مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ (٩٤) وَلَن یَتَمَنَّوۡهُ أَبَدَۢا بِمَا قَدَّمَتۡ أَیۡدِیهِمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِٱلظَّـٰلِمِینَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمۡ أَحۡرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَیَوٰةࣲ وَمِنَ ٱلَّذِینَ أَشۡرَكُواْۚ یَوَدُّ أَحَدُهُمۡ لَوۡ یُعَمَّرُ أَلۡفَ سَنَةࣲ وَمَا هُوَ بِمُزَحۡزِحِهِۦ مِنَ ٱلۡعَذَابِ أَن یُعَمَّرَۗ وَٱللَّهُ بَصِیرُۢ بِمَا یَعۡمَلُونَ﴾.

وقد تأكَّد الإلزام القرآني لهم لأنّهم تجاوزوا التعلُّق الشرعي والعملي بالآخرة إلى الادِّعاء أنهم أبناء الله وأحباؤه وأنَّ الله لن يُعذِّبهم، بل سيجعل لهم الجنة خالصة لهم من دون الناس، وقد ورد هذا الحِجَاج في آية أخرى: ﴿وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَــٰۤـؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّــٰۤـؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ یُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُـمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرࣱ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ﴾ [المائدة: 18]، فإن أنكروا استحقاقهم للعذاب على معاصيهم كان الردُّ بآية البقرة هذه.

ثامنًا: اللجوء إلى السحر والشعوذة دليل الكفر والإفلاس:
السحر نوع من الدجَل لا يجتمع مع الإيمان في قلبٍ واحد ﴿إِنَّمَا نَحۡنُ فِتۡنَةࣱ فَلَا تَكۡفُرۡ﴾ ويحمل دلائل بطلانه في ذاته، فالساحر يقلب الحجارة ذهبا ليعطيه الناس بضعة دراهم، ولو كان صادقًا لاستغنى بذهبه، ويدّعي علم الغيب، ولو كان كذلك لكان أمهر الساسة وأنجح المستثمرين، ولكنّ مجتمعات السحر يُعشعِشُ فيها الجهل والفقر والتخلُّف.

وقد صرَّحَ القرآن في سحرة فرعون أنّ سحرهم خيال وإيهام، فقال: ﴿یُخَیَّلُ إِلَیۡهِ مِن سِحۡرِهِمۡ أَنَّهَا تَسۡعَىٰ﴾ [طه: 66]، و﴿سَحَرُوۤاْ أَعۡیُنَ ٱلنَّاسِ﴾ [الأعراف: 116].

فالسحر يتسلط على أعين الناس وليس على الأشياء، ومن السحر ما هو علم يُتعلَّم كالمشي على الجمر بوجود واقٍ أسفل القدمين لا يتأثر بالنار، وهكذا.
والسحر لا يقارن بمعارف الوحي عقيدة وشريعة، فالوحي تُثبت صِدْقَهُ الأيام، والسحر ينهار بأوّل امتحان، وبين الوحي والسحر تنافر، فكلما اقترب الإنسان من الوحي ابتعد عن السحر؛ ولذلك قرن القرآن بين نبذ بني إسرائيل لكتاب الله وبين اتِّباعهم لما تتلوه الشياطين من سحر وكفر.


﴿أَفَتَطۡمَعُونَ﴾ إشارة إلى أن المسلمين كانوا يرجون قبول اليهود بالإسلام ما لا يرجونه للمشركين؛ وذاك لكثرة المشتركات معهم كالإيمان بالله وملائكته وأنبيائه واليوم الآخر، ولما كان يكرره القرآن من مدح لإبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وغيرهم من الأنبياء الذين يعظمهم اليهود وينتسبون إليهم، بينما كان القرآن يندّد بأصنام العرب وأوثانهم، فكان هذا داعيًا ومرجِّحًا لذلك الرجاء، لكنّ واقع اليهود كان الأبعد عن كل رجاء بسبب حسدهم وكبرهم.

﴿وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ قَالُوۤاْ ءَامَنَّا﴾ هذا فعل المنافقين، ونسبته لليهود هنا تأكيد لصلتهم بالنفاق، ولوجود منافقين يهود أيضًا، ولا يبعد أيضًا أنهم يقولونها سخرية بالمسلمين، والسياق يؤيّد هذا المعنى لحسم الرجاء بإيمانهم، والنفاق أمر خفيّ لا يحسم ذلك الرجاء، والله أعلم.

﴿وَأَحَـٰطَتۡ بِهِۦ خَطِیۤـَٔتُهُۥ﴾ إشارة إلى أن الخطيئة التي تورد صاحبها الجحيم إنما هي الخطيئة المتلبسة به والملازمة له والمحيطة به من كل جانب فتحجبه عن كل خير، وهذا بخلاف الخطيئة العارضة التي تعقبها توبة أو تختلط بالصالحات، كما هو حال غالب المؤمنين، وهذه نسمة من رحمة الله، والله أعلم.

﴿وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِیثَـٰقَكُمۡ لَا تَسۡفِكُونَ دِمَاۤءَكُمۡ وَلَا تُخۡرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِیَـٰرِكُمۡ﴾ أنزل الآخر منزلة النفس، وذاك بتحريم العدوان عليه، ووجوب السعي للحفاظ على حياته وماله، وذلك لاعتبارات عديدة؛ فضياع العدل وغياب القانون وشيوع الجريمة إنما تغرق السفينة كلها، فمن يعتدي اليوم سيُعتدَى عليه غدًا، مع ما في هذا الاعتداء من تهديم لمعاني الإيمان والصلاح، وضياعها أشدُّ خسارة من ضياع الأنفس والأموال.

﴿وَأُشۡرِبُواْ فِی قُلُوبِهِمُ ٱلۡعِجۡلَ﴾ بمعنى: تَشَرَّبتْ قلوبُهم حبَّ العجل، وإلا فالعجل لا يدخل القلوب بذاته، وهذا تقدير مجازي شائع في لغة العرب، والقرآن إنما جاء بهذه اللغة، بل لقد ورد مثله في آيات الأحكام، ولولا التقدير لما استقام الحكم، انظر إلى قوله: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَیۡتَةُ﴾ [المائدة: 3]، وقوله: ﴿حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمۡ أُمَّهَـٰتُكُمۡ﴾ [النساء: 23]، فهو إنما حرَّم الأكل في الأولى والنكاح في الثانية، وكلاهما مقدَّران.

﴿وَلَتَجِدَنَّهُمۡ أَحۡرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَیَوٰةࣲ﴾ جاءت مُنكَّرة على معنى أنَّهم يحرِصُون على أيَّة حياةٍ ولو كانت ذليلة ومهينة، وهذا شأن اليائِسِين والقانِطِين من رحمةِ الله في الآخرة.

﴿مَن كَانَ عَدُوࣰّا لِّجِبۡرِیلَ﴾ ليس هناك من مناسبة لإعلان العداوة لجبريل أو لأيّ من الملائكة سوى العداوة للدين نفسه، وإعلان التمرّد على كل ما لَه صلة بهذا الدين، والعداوة هذه تنُمّ عن احتجاج على البعثة وضياع الرسالة منهم، وهو كما يشيع عند بعض غلاة الروافض من ﴿خيانة الأمين﴾ ويقصدون به جبريل؛ لأنه حوّل الرسالة - بزَعمِهم - من عليٍّ إلى محمدٍ! حتى قال شاعرهم:
"غلِطَ الأميـنُ فجازَها عن حَيدَرٍ * واللهِ ما كان الأميـنُ أمِـيـنَـا"

﴿وَمَاۤ أُنزِلَ عَلَى ٱلۡمَلَكَیۡنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ﴾ بابِل مدينة في سواد العراق، والآية تصرّح بوجودها من القدم، وتُشير إلى اشتهارها بالسحر في ذلك الوقت.
أما الحديث عن هاروت وماروت فإن الروايات الصحيحة لا تسعفنا في إدراك حقيقتيهما، ودورهما في تلك المرحلة، وغاية ما صرَّح به القرآن أنَّهما فتنة للناس، والفتنة هنا بمعنى اختبار عقيدة الناس وتمييز الصادق منهم عن الكاذب، والله أعلم.

﴿وَیَتَعَلَّمُونَ مَا یَضُرُّهُمۡ وَلَا یَنفَعُهُمۡ﴾ إشارة للنهج القرآني في التعلم، وهو ربط التعلم ووزنه بالغاية منه، فالتعلم للعلم شعار مرفوض، بل التعلّم لأداء الوظائف النافعة في خدمة الإنسان وبناء المجتمع، وانحراف البشريَّة عن هذا النهج أودى بها في مهاوي أسلحة التدمير الشامل، والخداع السياسي، والتطوُّر المريع في وسائل الجريمة وأدواتها، وإشارة أخرى أن السحر ليس بخارق للعادة؛ لأن كل شيء يأتي بالتعلُّم فهو معتاد وليس بخارق، والله أعلم.