سورة طه كأنها نزلت في النبيِّ موسى
عليه السلام خاصَّة، تلخِّص سيرته، وتتابع مراحل حياته المختلفة، والأحداث التي واجهته، وجديرٌ بالذكر هنا أن قصة موسى بالعموم لا شكّ أنها القصّة الأبرز في كلّ
القصص النبوي الوارد في القرآن الكريم كلّه، وأكثرها ورودًا وتكرارًا.
وفي هذا المقطع تعرض السورة المرحلة الأولى في سيرة هذا النبي الكريم، وهي مرحلة التربية والتهيئة والإعداد، ويمكن تلخيصها في الآتي:
أولًا: يُمهِّد القرآن لهذه القصَّة بتأكيد موثوقيَّة مصدرها
﴿تَنزِیلࣰا مِّمَّنۡ خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ وَٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ ٱلۡعُلَى ﴿٤﴾ ٱلرَّحۡمَـٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ ﴿٥﴾ لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ ٱلثَّرَىٰ﴾ فهذا القرآن الذي يقصُّ علينا هذه
القصص إنما هو تنزيلٌ من الله الذي يعلَمُ السرَّ وأخفَى، وله السموات والأرض وما تحت الثرى، وهذا التمهيد جاء مناسبًا للحدث الأكبر والأجلِّ الذي استهلَّ به القرآن هذه القصَّة.
ثانيًا: تبدأ القصة في هذه السورة بالحدث الأجلِّ
﴿إِذۡ رَءَا نَارࣰا فَقَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوۤاْ إِنِّیۤ ءَانَسۡتُ نَارࣰا لَّعَلِّیۤ ءَاتِیكُم مِّنۡهَا بِقَبَسٍ أَوۡ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدࣰى ﴿١٠﴾ فَلَمَّاۤ أَتَىٰهَا نُودِیَ یَـٰمُوسَىٰۤ ﴿١١﴾ إِنِّیۤ أَنَا۠ رَبُّكَ فَٱخۡلَعۡ نَعۡلَیۡكَ إِنَّكَ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوࣰى﴾ هذا الحَدَث الذي لا ينبغي للمُتدبِّر معه إلا أن يقف موقف الهيبة والخشوع، والشعور بضآلة العقل البشري لو حاول أن يتجاوز حدود إمكانيَّاته وقدراته، إنها لحظة اتصال السماء بالأرض بالكيفية التي لا يستطيع العقل تخيُّلها ولا مُلامسة كُنهِها، لكنه يسلِّم لها؛ لِمَا ظهر منها في عالم الأرض من آياتٍ بيِّناتٍ ومُعجِزاتٍ قاهراتٍ.
ثالثًا: بيَّن القرآن بشكلٍ قاطعٍ الحكمةَ من ذلك الحدث العظيم
﴿وَأَنَا ٱخۡتَرۡتُكَ فَٱسۡتَمِعۡ لِمَا یُوحَىٰۤ﴾ ثم أكَّد هذا المعنى في نهاية المقطع
﴿وَٱصۡطَنَعۡتُكَ لِنَفۡسِی﴾ إنه الاصطفاء الخاص، والبدء بصياغة هذه الشخصية الصياغة الخاصّة التي تؤهِّله للقيام بالدور الكبير الذي اختاره الله له في تلك المرحلة الخطيرة من التاريخ البشري.
تجدُرُ الإشارة هنا إلى أنَّ الرسالة الموسويَّة هي الأقرب للرسالة المحمديَّة من حيث شموليتها، وخطورة شأنها، وطبيعة حركتها، وللرسالة المحمديَّة ميزة العالمية التي لا يحدُّها زمان، ولا يفصلها مكان، وميزة الخاتميَّة التي تستلزم صلاحها الأبدي ومواكبتها المستمرّة لحياة الخلق.
رابعًا: بدأ المشهد بإعداد موسى
عليه السلام إعدادًا ذاتيًّا بمعاني الإيمان والعبادة والعمل الصالح، والاستقامة والثبات على كلّ ذلك
﴿إِنَّنِیۤ أَنَا ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنَا۠ فَٱعۡبُدۡنِی وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِیۤ ﴿١٤﴾ إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِیَةٌ أَكَادُ أُخۡفِیهَا لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا تَسۡعَىٰ ﴿١٥﴾ فَلَا یَصُدَّنَّكَ عَنۡهَا مَن لَّا یُؤۡمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ فَتَرۡدَىٰ﴾ ثلاثُ آياتٍ جمعت معاني التوحيد الخالص، والإيمان باليوم الآخر (وهو يوم الحساب والجزاء)، وملازمة العبادة والصلاة والذكر، والثبات على الصراط المستقيم، والوقوف بحزمٍ أمام دُعاة الضلالة والمنكر، هذه هي القِيَم الأولى التي اختارَها الله لصياغة هذه الشخصية الكريمة.
خامسًا: تمهيدًا للوظيفة الكبيرة التي سيتحمَّلها موسى في مواجهة فرعون، شاءت حكمة الله أن يُريه من الآيات ما يُقوِّي قلبه، ويُثبِّت حجته أمام فرعون وملئه
﴿وَمَا تِلۡكَ بِیَمِینِكَ یَـٰمُوسَىٰ ﴿١٧﴾ قَالَ هِیَ عَصَایَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَیۡهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِی وَلِیَ فِیهَا مَـَٔارِبُ أُخۡرَىٰ ﴿١٨﴾ قَالَ أَلۡقِهَا یَـٰمُوسَىٰ ﴿١٩﴾ فَأَلۡقَىٰهَا فَإِذَا هِیَ حَیَّةࣱ تَسۡعَىٰ ﴿٢٠﴾ قَالَ خُذۡهَا وَلَا تَخَفۡۖ سَنُعِیدُهَا سِیرَتَهَا ٱلۡأُولَىٰ ﴿٢١﴾ وَٱضۡمُمۡ یَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخۡرُجۡ بَیۡضَاۤءَ مِنۡ غَیۡرِ سُوۤءٍ ءَایَةً أُخۡرَىٰ ﴿٢٢﴾ لِنُرِیَكَ مِنۡ ءَایَـٰتِنَا ٱلۡكُبۡرَى﴾.
سادسًا: بعد تلك المُمَهِّدات جاء التكليف الحاسم
﴿ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ﴾.
سابعًا: وقف موسى
عليه السلام يتلقى الأمر وهو يفكِّر من موقعه في تحمُّله لهذه المسؤوليَّة الكبيرة، وهنا بدأ يرسُمُ حاجاته وأدواته التي تؤهِّلُه للقيام بهذه المهمة
﴿قَالَ رَبِّ ٱشۡرَحۡ لِی صَدۡرِی ﴿٢٥﴾ وَیَسِّرۡ لِیۤ أَمۡرِی ﴿٢٦﴾ وَٱحۡلُلۡ عُقۡدَةࣰ مِّن لِّسَانِی ﴿٢٧﴾ یَفۡقَهُواْ قَوۡلِی ﴿٢٨﴾ وَٱجۡعَل لِّی وَزِیرࣰا مِّنۡ أَهۡلِی ﴿٢٩﴾ هَـٰرُونَ أَخِی ﴿٣٠﴾ ٱشۡدُدۡ بِهِۦۤ أَزۡرِی ﴿٣١﴾ وَأَشۡرِكۡهُ فِیۤ أَمۡرِی﴾.
إنها أشبَه بحالة استقراء تامٍّ لعدَّة الداعية؛ التهيئة النفسية بانشراح الصدر، والقوَّة البيانيَّة والعلميَّة بحَلِّ عقدة اللسان وإيصال الفهم الصحيح، والأخ الناصح الأمين الذي يتحمَّل معه المسؤوليَّة، والصلة الدائمة بمصدر هذه الرسالة وهذا التكليف
﴿كَیۡ نُسَبِّحَكَ كَثِیرࣰا ﴿٣٣﴾ وَنَذۡكُرَكَ كَثِیرًا﴾.
ثامنًا: أقرَّ الله موسى على حاجاته واستجَابَ له سؤالاته
﴿قَالَ قَدۡ أُوتِیتَ سُؤۡلَكَ یَـٰمُوسَىٰ﴾ وفي هذا تأكيدٌ لأهميتها، ووجوب التأسِّي بها لكلِّ مَن يسير على هذا الدرب، درب الدعوة والوراثة النبويَّة.
تاسعًا: عاد القرآن ليذكِّر بمراحل الإعداد المبكِّر قبل ذلك الحدث الأجَلِّ، الذي قدَّمه القرآن تقديم رتبةٍ ومقامٍ، لا تقديم آنٍ وزمانٍ
﴿وَلَقَدۡ مَنَنَّا عَلَیۡكَ مَرَّةً أُخۡرَىٰۤ ﴿٣٧﴾ إِذۡ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰۤ أُمِّكَ مَا یُوحَىٰۤ ﴿٣٨﴾ أَنِ ٱقۡذِفِیهِ فِی ٱلتَّابُوتِ فَٱقۡذِفِیهِ فِی ٱلۡیَمِّ فَلۡیُلۡقِهِ ٱلۡیَمُّ بِٱلسَّاحِلِ یَأۡخُذۡهُ عَدُوࣱّ لِّی وَعَدُوࣱّ لَّهُۥۚ وَأَلۡقَیۡتُ عَلَیۡكَ مَحَبَّةࣰ مِّنِّی وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَیۡنِیۤ ﴿٣٩﴾ ذۡ تَمۡشِیۤ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن یَكۡفُلُهُۥ ۖ فَرَجَعۡنَـٰكَ إِلَىٰۤ أُمِّكَ كَیۡ تَقَرَّ عَیۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسࣰا فَنَجَّیۡنَـٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونࣰاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِینَ فِیۤ أَهۡلِ مَدۡیَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرࣲ یَـٰمُوسَىٰ﴾.
وهذه الآيات تختصر سيرة موسى
عليه السلام من ولادته ثم إرجاعه إلى أمه بعد أن جعلته في التابوت وقذفته في البحر؛ حيث عثر عليه الفراعنة، فنجَّاه الله منهم، ثم أعاده إليهم لينشأ في قصورهم، ثم يقوم بقتلِ واحدٍ من حاشيتهم بعد أن استصرخه واحدٌ من أهله (أي: من بني إسرائيل)، فخرج خائفًا من العقوبة إلى مدين، وهناك تزوَّج من ابنةِ ذلك الرجل الصالح، فلَبِثَ عنده ما شاء الله له، ثم عادَ بزوجته، وبينما كانا معًا في الطريق رأى النار، فكانت المرحلة الثانية التي بدأت بها هذه السورة أولًا.