بعد تلك المواجهة المُثيرة مع فرعون وسحَرَتِه، تنتقل السورة إلى المرحلة الثالثة من سيرة موسى
عليه السلام، وهي المرحلة التاريخيَّة التي قرَّر فيها موسى - بأمرٍ مِن الله تعالى - أن يخرُج ببني إسرائيل من مصر؛ حيث دخلوها أولًا على عهد يوسف
عليه السلام مُعزَّزين مكرَّمين، ولكن الأحوال تغيَّرَت عليهم فيما بعد بمجِيء الحكم الفرعوني الذي سامَهم أصناف العذاب.
في هذه الآيات صورة لعمليَّة الخروج هذه وما تبِعَها من نجاتهم، وهلاك عدوِّهم، وخوضهم لتجربة الاستقلال تحت قيادة موسى وهارون
عليهما السلام:
أولًا: جاءت قصة الخروج في هذه السورة مختصرةً في قوله تعالى:
﴿وَلَقَدۡ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِی فَٱضۡرِبۡ لَهُمۡ طَرِیقࣰا فِی ٱلۡبَحۡرِ یَبَسࣰا لَّا تَخَـٰفُ دَرَكࣰا وَلَا تَخۡشَىٰ ﴿٧٧﴾ فَأَتۡبَعَهُمۡ فِرۡعَوۡنُ بِجُنُودِهِۦ فَغَشِیَهُم مِّنَ ٱلۡیَمِّ مَا غَشِیَهُمۡ ﴿٧٨﴾ وَأَضَلَّ فِرۡعَوۡنُ قَوۡمَهُۥ وَمَا هَدَىٰ﴾ فالخروج كان معجزة ربانيَّة؛ حيث انفلق البحر لموسى ومن معه حتى صار طريقًا يبسًا، ثم لما رأى فرعون ذلك تشجَّع على مُلاحقتهم في هذا الطريق، فكانت نهايته ومن معه من الجند؛ حيث أطبق البحر عليهم بعد أن نجا آخر فرد من بني إسرائيل.
وهذه المعجزة كأنها جاءت تجليًّا لمعيَّة الله ووعده المؤكَّد
﴿قَالَ لَا تَخَافَاۤۖ إِنَّنِی مَعَكُمَاۤ أَسۡمَعُ وَأَرَىٰ﴾ بعد أن أظهَرَا له سبحانه غايةَ الضعف بقولهما:
﴿رَبَّنَاۤ إِنَّنَا نَخَافُ أَن یَفۡرُطَ عَلَیۡنَاۤ أَوۡ أَن یَطۡغَىٰ﴾، كما أنها جاءت ردًّا عمليًّا على وقاحة فرعون وسوء أدبه مع الله حينما هدَّد السحَرَة بعد إيمانهم بالله
﴿وَلَتَعۡلَمُنَّ أَیُّنَاۤ أَشَدُّ عَذَابࣰا وَأَبۡقَىٰ﴾.
والغريب في قصَّة الخروج هذه أنَّ فرعون قد خرج بنفسه لملاحقة قومٍ مُستضعَفين هاربين لا حول لهم ولا قوَّة، وكان يكفِيه أن يُرسِلَ أحدَ أعوانه مِن حرسه أو قادة جنده، لكنها إرادة الله.
ثانيًا: منَّ الله على بني إسرائيل بالنجاة، وهنا أصبحوا أسيادَ أنفسهم، وأهلًا لتحمُّل المسؤولية، وقد أمدَّهم الله بما يحتاجونه في حياتهم وأداء وظيفتهم
﴿یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ قَدۡ أَنجَیۡنَـٰكُم مِّنۡ عَدُوِّكُمۡ وَوَ ٰعَدۡنَـٰكُمۡ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلۡأَیۡمَنَ وَنَزَّلۡنَا عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰ ﴿٨٠﴾ كُلُواْ مِن طَیِّبَـٰتِ مَا رَزَقۡنَـٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِیهِ فَیَحِلَّ عَلَیۡكُمۡ غَضَبِیۖ وَمَن یَحۡلِلۡ عَلَیۡهِ غَضَبِی فَقَدۡ هَوَىٰ ﴿٨١﴾ وَإِنِّی لَغَفَّارࣱ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا ثُمَّ ٱهۡتَدَىٰ﴾.
ثالثًا: سجَّل القرآنُ هنا أوَّلَ سقطةٍ لبني إسرائيل في امتحانهم الأول؛ حيث صنَعُوا لهم عجلًا من الذهب، وصاروا يعبدونه من دون الله، وكان هذا عند غِياب موسى عنهم لذهابه إلى ميقات ربه
﴿۞ وَمَاۤ أَعۡجَلَكَ عَن قَوۡمِكَ یَـٰمُوسَىٰ ﴿٨٣﴾ قَالَ هُمۡ أُوْلَاۤءِ عَلَىٰۤ أَثَرِی وَعَجِلۡتُ إِلَیۡكَ رَبِّ لِتَرۡضَىٰ ﴿٨٤﴾ قَالَ فَإِنَّا قَدۡ فَتَنَّا قَوۡمَكَ مِنۢ بَعۡدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِیُّ﴾.
وهذه السقطة تؤكِّد أن الحريَّة مسؤوليَّة، وأن العبودية ثقافة، فهؤلاء الذين تحرَّروا من فرعون بمعجزة الخروج وانفلاق البحر، عادوا ليصنَعوا بأيديهم عِجلًا يعبدونه، والذهب الذي كان يأخذه منهم فرعون إتاوةً، راحُوا يُقدِّمُونه لعِجلهم طواعيةً.
رابعًا: رجع موسى إلى قومه غاضبًا عليهم مُندِّدًا بفعلتهم
﴿فَرَجَعَ مُوسَىٰۤ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَـٰنَ أَسِفࣰاۚ قَالَ یَـٰقَوۡمِ أَلَمۡ یَعِدۡكُمۡ رَبُّكُمۡ وَعۡدًا حَسَنًاۚ أَفَطَالَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡعَهۡدُ أَمۡ أَرَدتُّمۡ أَن یَحِلَّ عَلَیۡكُمۡ غَضَبࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُم مَّوۡعِدِی﴾، وما كان جوابهم إلا أن ألقَوا باللائمة على صاحبهم السامِرِيِّ الذي صنعَ لهم العِجل، مع أنَّه ما كان يملِكُ أدنى سلطة عليهم
﴿قَالُواْ مَاۤ أَخۡلَفۡنَا مَوۡعِدَكَ بِمَلۡكِنَا وَلَـٰكِنَّا حُمِّلۡنَاۤ أَوۡزَارࣰا مِّن زِینَةِ ٱلۡقَوۡمِ فَقَذَفۡنَـٰهَا فَكَذَ ٰلِكَ أَلۡقَى ٱلسَّامِرِیُّ ﴿٨٧﴾ فَأَخۡرَجَ لَهُمۡ عِجۡلࣰا جَسَدࣰا لَّهُۥ خُوَارࣱ فَقَالُواْ هَـٰذَاۤ إِلَـٰهُكُمۡ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِیَ ﴿٨٨﴾ أَفَلَا یَرَوۡنَ أَلَّا یَرۡجِعُ إِلَیۡهِمۡ قَوۡلࣰا وَلَا یَمۡلِكُ لَهُمۡ ضَرࣰّا وَلَا نَفۡعࣰا﴾.
خامسًا: يُسجِّل القرآن هنا موقف هارون
عليه السلام الذي خلَفَ موسى في قومه
﴿وَلَقَدۡ قَالَ لَهُمۡ هَـٰرُونُ مِن قَبۡلُ یَـٰقَوۡمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِۦۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحۡمَـٰنُ فَٱتَّبِعُونِی وَأَطِیعُوۤاْ أَمۡرِی ﴿٩٠﴾ قَالُواْ لَن نَّبۡرَحَ عَلَیۡهِ عَـٰكِفِینَ حَتَّىٰ یَرۡجِعَ إِلَیۡنَا مُوسَىٰ﴾ ولكن بعد رجوع أخيه موسى، توجَّه إليه بالمساءلة والمحاسبة، فكان هذا الحوار:
﴿قَالَ یَـٰهَـٰرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذۡ رَأَیۡتَهُمۡ ضَلُّوۤاْ ﴿٩٢﴾ أَلَّا تَـتَّـبِعَنِۖ أَفَعَصَیۡتَ أَمۡرِی ﴿٩٣﴾ قَالَ یَبۡنَؤُمَّ لَا تَأۡخُذۡ بِلِحۡیَتِی وَلَا بِرَأۡسِیۤۖ إِنِّی خَشِیتُ أَن تَقُولَ فَرَّقۡتَ بَیۡنَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ وَلَمۡ تَرۡقُبۡ قَوۡلِی﴾ وهذه حكمةٌ هارونيَّةٌ قَلَّ مَن يلتفت إليها؛ فهارون بقي مُمسِكًا بالمجتمع الإسرائيلي، محافظًا على وحدته رغم ما حصل فيه مِن خللٍ عقديٍّ خطيرٍ؛ ذاك لأن بقاء الناس مُجتمِعِين في مكانٍ واحدٍ، وتحت قيادةٍ واحدةٍ أدعَى للإصلاح، وأيسر في معالجة الخلل.
لقد قال لأخيه بوضوح العبارة:
﴿إِنِّی خَشِیتُ أَن تَقُولَ فَرَّقۡتَ بَیۡنَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ﴾ فلم يُعقِّب موسى، ولم يُعقِّب الوحي، وهذا إقرارٌ بمنح الشرعية لمثلِ هذا السلوك، فمُفاصلة المنكر ليست دائمًا هي الحل.
وقد رأينا من سيرة نبيِّنا
ﷺ كيف قاطَعَتْه قريش ومَن معه في شِعب أبي طالب، فما كان يرضَى بهذه المقاطعة حتى قطَعَها الله بآية من آياته؛ فكان في ذلك الفرج للمسلمين.
وحين غابَت هذه الحكمةُ عن بعض الجماعات المنتسبة للإسلام اليوم، راحَت تضرب حولَ نفسها أطواقَ العزلة والمفاصلة عن الناس، ومنها مَن بالَغَ في العدوانيَّة وإظهار الخصومة، ولا زالَت الفتاوى تصدُرُ مِن هنا وهناك في منعِ المشاركة في الحياة السياسية وإدارة شؤون البلاد؛ استنادًا إلى المفهوم الخاطئ لعقيدة الولاء والبراء.
وقد مرَّ معنا في قصة يوسف
عليه السلام ما يدحَض هذا الفهم الضيِّق؛ حيث انخرَطَ
عليه السلام في حياة الناس السياسية والاقتصادية وهُمْ على دينٍ آخر مُخالفٍ لدينه.
سادسًا: يُختَم هذا المشهد بموقف موسى
عليه السلام من السامِرِيِّ
﴿قَالَ فَمَا خَطۡبُكَ یَـٰسَـٰمِرِیُّ ﴿٩٥﴾ قَالَ بَصُرۡتُ بِمَا لَمۡ یَبۡصُرُواْ بِهِۦ فَقَبَضۡتُ قَبۡضَةࣰ مِّنۡ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذۡتُهَا وَكَذَ ٰلِكَ سَوَّلَتۡ لِی نَفۡسِی ﴿٩٦﴾ قَالَ فَٱذۡهَبۡ فَإِنَّ لَكَ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَۖ وَإِنَّ لَكَ مَوۡعِدࣰا لَّن تُخۡلَفَهُۥ ۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰۤ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِی ظَلۡتَ عَلَیۡهِ عَاكِفࣰاۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُۥ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُۥ فِی ٱلۡیَمِّ نَسۡفًا﴾.
ويُلحظ هنا أنّ السامِرِيَّ كان مُتقدِّمًا في الذكاء على قومه، وأنّه بَصُرَ بما لم يبصروا به، لكن الذكاء لا يعصِمُ صاحبَه من السقوط إذا لم تتوفَّر التزكية الصحيحة التي تُهذِّبُ الإرادة، وتُعدِّلُ السلوك، بل الذكاء قد يُضاعِف من إرادة الشر وآثارها، كما ترى في قادة العصابات الإجراميّة، وصانعي الأسلحة التدميريّة، ومنتجي المسلسلات الإباحيّة.
والغريب أنك ترى المناهج التعليميّة اليوم تجنح نحو تقديم المعارف المجرَّدة، تارِكِين الجانب القيمي والأخلاقي لإرادة المتعلِّم وطبيعة تكوينه وتربيته، ويُلحَظ هنا أيضًا أنّ موسى
عليه السلام قد ترك السامِرِيَّ حيًّا طليقًا، مع أنه السبب الأول والأهم في الفتنة والردَّة، بينما اكتفى بتحريقِ عِجل الذهب ونَسفه في البحر، ومحو أثره.