سورة الأنبياء تفسير مجالس النور الآية 1

ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِی غَفۡلَةࣲ مُّعۡرِضُونَ ﴿١﴾

تفسير مجالس النور سورة الأنبياء

المجلس التاسع والثلاثون بعد المائة: تنبيه الغافلين


من الآية (1- 20)


تُعالِجُ السورة في مُقدِّماتها مشكلة الغفلة التي تلفُّ عقولَ الناس وقلوبَهم، وتُبعِدُهم عن التفكير الجاد بحالهم ومآلهم والكون الفسيح مِن حولهم، ومِن هنا تكرَّرَت في هذه الآيات مصطلحات: الغفلة، واللهو، واللعب، ولا شكَّ أنَّ هذه إحدى أهم أسباب الضلالة والإعراض عن النهج الحقِّ، ويمكن استخلاص طريقة القرآن في تناوُله لهذه الظاهرة بالنقاط الآتية:
أولًا: وصف القرآن هذه الظاهرة وصفًا دقيقًا في أكثر مِن موضع في هذه المُقدِّمات، فقال: ﴿ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِی غَفۡلَةࣲ مُّعۡرِضُونَ﴾ فهم مُعرِضون؛ لشدَّة غَفلَتهم حتى عن التفكير في ما ينتظرهم، ثم قال: ﴿مَا یَأۡتِیهِم مِّن ذِكۡرࣲ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ یَلۡعَبُونَ﴾ فهم غارِقون في الغفلة إلى الحدِّ الذي لا يُكلِّفُون أنفسَهم النظرَ في الكلام الذي يسمَعُونَه ولو كان فيه خيرهم، ثم يُشيرُ القرآن إشارةً سريعةً إلى سبب هذه الغفلة ﴿لَاهِیَةࣰ قُلُوبُهُمۡۗ﴾ فانشغال قلوبهم بمتاع الدنيا ولهوها وزينتها لا يُبقِي فيها مكانًا للتدبُّر والتفكير الصادق.
ثانيًا: بيَّن القرآن مدى انعكاس هذه الظاهرة على نظرة هؤلاء لطبيعة الحياة والكون الذي يعيشون فيه، فهم لا يرَون في كلِّ هذا إلا اللهو والعبث؛ ولذلك ردَّ القرآن عليهم سفَهَهم هذا: ﴿وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَاۤءَ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَا لَـٰعِبِینَ ﴿١٦﴾ لَوۡ أَرَدۡنَاۤ أَن نَّـتَّـخِذَ لَهۡوࣰا لَّٱتَّخَذۡنَـٰهُ مِن لَّدُنَّاۤ إِن كُنَّا فَـٰعِلِینَ﴾.
وهذه النظرة نراها اليوم في كثيرٍ مِن النظريات والفلسفات الحديثة التي يجنَحُ العقل البشري فيها إلى تغيِيبِ الحكمة مِن وجود هذا الكون، وتسخِيره لهذا الإنسان، والانهماك في تحقيق المصالح المادِّيَّة المجردة، وتحقيق أكبر قدر ممكن من المتاع.
ثالثًا: ثم بيَّن كذلك مدى انعكاسها في عجزهم عن التفكُّر في حال الناس من قبلهم وما جرى لهم بسبب غفلتهم وإعراضهم ﴿وَكَمۡ قَصَمۡنَا مِن قَرۡیَةࣲ كَانَتۡ ظَالِمَةࣰ وَأَنشَأۡنَا بَعۡدَهَا قَوۡمًا ءَاخَرِینَ ﴿١١﴾ فَلَمَّاۤ أَحَسُّواْ بَأۡسَنَاۤ إِذَا هُم مِّنۡهَا یَرۡكُضُونَ ﴿١٢﴾ لَا تَرۡكُضُواْ وَٱرۡجِعُوۤاْ إِلَىٰ مَاۤ أُتۡرِفۡتُمۡ فِیهِ وَمَسَـٰكِنِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡـَٔلُونَ ﴿١٣﴾ قَالُواْ یَـٰوَیۡلَنَاۤ إِنَّا كُنَّا ظَـٰلِمِینَ ﴿١٤﴾ فَمَا زَالَت تِّلۡكَ دَعۡوَىٰهُمۡ حَتَّىٰ جَعَلۡنَـٰهُمۡ حَصِیدًا خَـٰمِدِینَ﴾.
رابعًا: أشارَ القرآن الكريم إلى أن شُبهاتهم التي يُثيرونها بوجه الدعوة المباركة ليست آراء محترمة ناتِجة عن نظرٍ عقليٍّ، وتفكيرٍ صادقٍ، وإنما هي إفرازٌ لحالة الغفلة واللعب واللهو هذه، فتراه مثلًا يقول: ﴿لَاهِیَةࣰ قُلُوبُهُمۡۗ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجۡوَى ٱلَّذِینَ ظَلَمُواْ هَلۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا بَشَرࣱ مِّثۡلُكُمۡۖ أَفَتَأۡتُونَ ٱلسِّحۡرَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ﴾، وينعَكِس هذا اللَّهو واللعب في اضطرابهم، وشدَّة تناقُضهم: ﴿بَلۡ قَالُوۤاْ أَضۡغَـٰثُ أَحۡلَـٰمِۭ بَلِ ٱفۡتَرَىٰهُ بَلۡ هُوَ شَاعِرࣱ﴾.
خامسًا: في ثنايا هذا التشخيص والتوصيف يبُثُّ القرآن الكريم تنبيهاته وتحذيراته المتكررة التي تهزّ القلوب وتحرّك العقول، فتراه حينما يضرب مثلًا من الذين خلَوا من قبل يقول: ﴿فَمَا زَالَت تِّلۡكَ دَعۡوَىٰهُمۡ حَتَّىٰ جَعَلۡنَـٰهُمۡ حَصِیدًا خَـٰمِدِینَ﴾ وحينما يخاطب هؤلاء الغافلين يقول لهم: ﴿ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ﴾.
سادسًا: يُؤكِّدُ القرآن لهؤلاء ولغيرهم أنَّ الأمرَ جادٌّ وحاسِمٌ، وأنَّه لا مجال فيه للهو والعبث ﴿لَوۡ أَرَدۡنَاۤ أَن نَّـتَّـخِذَ لَهۡوࣰا لَّٱتَّخَذۡنَـٰهُ مِن لَّدُنَّاۤ إِن كُنَّا فَـٰعِلِینَ ﴿١٧﴾ بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَـٰطِلِ فَیَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقࣱۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَیۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾.
سابعًا: تأكيده لهم أنَّ القرآن إنما جاء لإسعادهم ورفع شأنهم لو تركوا لأنفسهم فرصة للتفكُّر والتدبُّر ﴿لَقَدۡ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكُمۡ كِتَـٰبࣰا فِیهِ ذِكۡرُكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾.
ثامنًا: تأكيده أيضًا أنَّ الله غنيٌّ عنهم وعن عبادتهم، وهو حينما يدعوهم إنما يدعوهم لمصلَحَتهم، وإلا فالله عنده من الملائكة ما لا يعلَمُه إلا الله، يسبحونه ويعبدونه وحده دون شريك، ودون فتور ﴿وَلَهُۥ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَنۡ عِندَهُۥ لَا یَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَلَا یَسۡتَحۡسِرُونَ ﴿١٩﴾ یُسَبِّحُونَ ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَ لَا یَفۡتُرُونَ﴾.


﴿ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ﴾ أي: يوم حِسابهم؛ وهو يوم القيامة، والخبر عامٌّ لكلِّ الناس، وإن كان المقصُود به تنبيهَ الغافِلِين من مُشرِكِي قريش وتحذيرهم.
﴿مَا یَأۡتِیهِم مِّن ذِكۡرࣲ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ﴾ أي: جديد بالنسبة لنزوله عليهم واتصالهم به، لا بوصف القرآن نفسه، فالقرآن كلام الله وكلامه صفةٌ له سبحانه، لا يتغيَّر ولا يتجدَّد.
﴿وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجۡوَى﴾ تناجَوا سرًّا فيما بينهم.
﴿أَفَتَأۡتُونَ ٱلسِّحۡرَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ﴾ يوبِّخُ بعضُهم بعضًا لمجيئهم واستماعهم لقراءة القرآن؛ حيث كان بعضُهم يتذوَّق بلاغةَ القرآن، ويستأنِس بها، ولا يصبِر عنها.
﴿قَالَ رَبِّی یَعۡلَمُ ٱلۡقَوۡلَ فِی ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِۖ﴾ هو من قوله ردًّا على اتهامهم له، كأنَّه يقول لهم: إن ربِّي عليمٌ بحقيقة ما أقولُه لكم، وهو عليمٌ أيضًا بحقيقة ما تقولونه عنِّي.
﴿أَضۡغَـٰثُ أَحۡلَـٰمِۭ﴾ منامات مختلطة لا حقيقة لها ولا بُرهان عليها، وهم إنما يقولون هذا في القرآن الكريم، وهم مع هذا لا يُخفون إعجابهم ببيانه وبلاغته حتى سمَّوه سِحرًا، وهذا دليلٌ على أنهم لا يتكلَّمون بآراء ووجهات نظر، وإنما يلهَون ويعبَثُون، ويتصرَّفون وفق عُقدٍ نفسيَّةٍ تجمعُ بين التكبُّر والحسد واللامبالاة.
﴿فَلۡیَأۡتِنَا بِـَٔایَةࣲ﴾ بمعجزةٍ ملموسةٍ؛ كناقة صالح، وعصا موسى.
﴿مَاۤ ءَامَنَتۡ قَبۡلَهُم مِّن قَرۡیَةٍ أَهۡلَكۡنَـٰهَاۤۖ أَفَهُمۡ یُؤۡمِنُونَ﴾ يُذكِّرُهم بالقُرى التي جاءها أنبياؤها بهذه الآيات، فلم يؤمنوا فأهلكهم الله بتكذيبهم وعنادهم؛ لأن هذه القرى لم يكن يختلط عليها الحقّ بالباطل فتحتاج إلى هذه المعجزات الحسِّيَّة، وإنما كان يصدُّها الغرورُ والتكبُّر والحسد والإعراض حتى عن مجرَّد التفكير، وهي موجودةٌ أيضًا عند كفَّار قريش.
والآيةُ تتضمَّن بيان الحكمة من عدم نزول مثل تلك الآيات على قريش؛ لأنهم لو كذَّبُوا بها فسيهلكون عن آخرهم، والله لا يريد لهم ذلك؛ لعلمه سبحانه أنهم سيؤمنون ويتحمَّلون أعباء هذه الدعوة، وقد كان ذاك بالفعل، فدخَلَت قريشٌ كلُّها في الإسلام، وكان منهم قادَة الأمة (الخلفاء الراشدون ، والأمويُّون والعباسيُّون) وغيرهم.
﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ إِلَّا رِجَالࣰا﴾ ردٌّ على اشتراطهم أن يبعث الله لهم مَلكًا حتى يؤمنوا به، والاستدلال بهذا على إنكار نبوَّة المرأة لا يقتضيه السياق، خاصَّةً عند من يُفرِّق بين النبوَّة والرسالة باشتراط التبليغ في الرسالة دون النبوَّة، فالآية تتحدَّث عن الرسل وليس عن الأنبياء، وتتحرَّز عن الملائكيَّة وليس عن الأنثويَّة.
وقد قال بنفي النبوَّة عن النساء جمهورُ العلماء، وغالِبُ استدلالهم بهذه الآية، أو بأدلةٍ عقليَّة تتعلَّق بمهمة التبليغ، وليس بنزول الوحي، وليس هنا محل التفصيل، لكن الخلاف في هذا وارد، والاجتهاد فيه مقبول، والله أعلم.
﴿فَسۡـَٔلُوۤاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾ وهم هنا أهلُ الكتاب، خاصَّةً اليهود الذين كانوا على صِلَة بقريش، والسؤال مُحدَّد في موضوع كون الرسل رجالًا من البشر، أو كانوا من الملائكة، فهذه معلومةٌ لا يختلف فيها أهلُ القرآن عن أهل الكتب السابقة، وليس في الآية إطلاق السؤال لهم في كلِّ مسألة.
﴿وَمَا جَعَلۡنَـٰهُمۡ جَسَدࣰا لَّا یَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَـٰلِدِینَ﴾ تأكيدٌ لبشريَّة الرسل، فهم ليسوا ملائكةً ولا آلهةً.
﴿فِیهِ ذِكۡرُكُمۡۚ﴾ شرَفُكم وعلوُّ شأنكم، وأسبابُ خيركم وسعادتكم.
﴿وَكَمۡ قَصَمۡنَا﴾ وكم أهلكنا.
﴿فَلَمَّاۤ أَحَسُّواْ بَأۡسَنَاۤ إِذَا هُم مِّنۡهَا یَرۡكُضُونَ﴾ هربًا من قريتهم بعدما رأوا العذاب النازل عليها.
﴿لَا تَرۡكُضُواْ وَٱرۡجِعُوۤاْ إِلَىٰ مَاۤ أُتۡرِفۡتُمۡ فِیهِ وَمَسَـٰكِنِكُمۡ﴾ توبيخٌ لهم وتهكُّمٌ بهم، وفيه إشارةٌ إلى أن التَّرَفَ كان سببًا في هلاكهم.
﴿لَعَلَّكُمۡ تُسۡـَٔلُونَ﴾ لعلَّ أحدًا يطلب منكم بعض حاجاته، وهذا تهكُّمٌ أيضًا وهو مناسب لحال المُترَفِين.
﴿جَعَلۡنَـٰهُمۡ حَصِیدًا خَـٰمِدِینَ﴾ ميِّتين لا يتحرَّكون كحال الزرع المحصود.
﴿لَوۡ أَرَدۡنَاۤ أَن نَّـتَّـخِذَ لَهۡوࣰا لَّٱتَّخَذۡنَـٰهُ مِن لَّدُنَّاۤ﴾ يتنزَّل القرآن إلى مستوى عقول هؤلاء الغافلين العابثين، فيقول لهم: لو كان الله يريد اللَّهوَ سبحانه - كما تزعمون - لما خلَقَكم وخلَقَ الموتَ والحياةَ، وأرسلَ إليكم رسُلَه، وجعلَ الثوابَ والعقابَ، ولكان يَكفِيه ما عنده من الحُور والولدان، وأسباب اللهو والمتاع بحسب تصوُّراتكم المريضة والقاصرة.
﴿فَیَدۡمَغُهُۥ﴾ يزهقه ويزيله.
﴿لَا یَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَلَا یَسۡتَحۡسِرُونَ﴾ أي: لا يمنعهم عن دوام العبادة تكبُّرٌ ولا تكاسُلٌ، وإيثارٌ للدَّعَة والراحة، بل هم يجِدُون أُنسَهم وسعادتَهم في هذه العبادة.
﴿لَا یَفۡتُرُونَ﴾ لا يضعُفُون أو يتردَّدون، وأصل الفُتُور: التراخي والسكون بعد الحركة.