سورة الأنبياء تفسير مجالس النور الآية 22

لَوۡ كَانَ فِیهِمَاۤ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ فَسُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَرۡشِ عَمَّا یَصِفُونَ ﴿٢٢﴾

تفسير مجالس النور سورة الأنبياء

المجلس الأربعون بعد المائة: حوار مع المشركين


من الآية (21- 50)


بعد تشخيصه لظاهر الغفلة التي تُعمِي وتُصِمُّ عن التفكُّر في حقائق الأمور ومآلاتها، والتي قادَت هؤلاء الغافلين إلى التمسُّك بأصنامهم وعبادتها والدفاع عنها، فتح القرآن بابًا واسعًا للحوار معهم ومناقشتهم في أصل معتقدهم، وكما يأتي:
أولًا: عرض القرآن صورًا لمعتقداتهم التي خرجوا بها من جادَّة التوحيد إلى مزالق الشرك والكفر، ومن ذلك: ﴿أَمِ ٱتَّخَذُوۤاْ ءَالِهَةࣰ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ﴾ وهذه هي التي يصنعونها بأيديهم، ثم عمَّم: ﴿أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦۤ ءَالِهَةࣰۖ﴾ ليشمل كلَّ الآلهة المزيفة ولو كانوا بصورة الأنبياء، أو الملائكة، ثم خصَّ الفرية الآثمة بنسبة الولد إلى الله - تعالى عن قولهم علوًّا كبيرًا -: ﴿وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ وَلَدࣰاۗ سُبۡحَـٰنَهُۥۚ بَلۡ عِبَادࣱ مُّكۡرَمُونَ﴾ ثم عرَضَ تكذيبَهم بعقيدة البعث والجزاء ﴿وَیَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ ﴿٣٨﴾ لَوۡ یَعۡلَمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ حِینَ لَا یَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمۡ وَلَا هُمۡ یُنصَرُونَ﴾، ثم استهزاءَهم بالأنبياء والمرسلين: ﴿وَإِذَا رَءَاكَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤاْ إِن یَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا﴾، ﴿وَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُلࣲ مِّن قَبۡلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِینَ سَخِرُواْ مِنۡهُم مَّا كَانُواْ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ﴾.
ثانيًا: كشف القرآن أسباب هذا الانحراف، فكان أولها: الجهل ﴿بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ ٱلۡحَقَّۖ فَهُم مُّعۡرِضُونَ﴾.
وهذا الجهل إنَّما كان بسبب إعراضهم وغلق منافذ المعرفة عندهم، وإلا فقد يُعذر الجاهل بجهله إنْ لم تبلغه الدعوة، أو لم تكن عنده أدوات فهمها والتوصُّل بها؛ ولذلك عقَّبَ القرآن بقوله: ﴿قُلۡ إِنَّمَاۤ أُنذِرُكُم بِٱلۡوَحۡیِۚ وَلَا یَسۡمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَاۤءَ إِذَا مَا یُنذَرُونَ﴾ وهذا صَمَم العِناد والتكبُّر، لا صَمَم الخِلقة والعاهَة، ومنها: الاستهزاء، كما مرَّ معنا قوله تعالى: ﴿إِن یَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا﴾، ومنها: طول الأمد والانشغال بالمتاع الزائل: ﴿بَلۡ مَتَّعۡنَا هَـٰۤـؤُلَاۤءِ وَءَابَاۤءَهُمۡ حَتَّىٰ طَالَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡعُمُرُۗ﴾، وطول الأَمَد مع تراكم الغفلة والنسيان لا شكَّ أنَّه أحد أسباب الضلالة، كما قال جلَّ ذِكرُه في سورة الحديد: ﴿فَطَالَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ﴾ [الحديد: 16].
ثالثًا: فنَّد القرآن دعوى المشركين في تأليه الملائكة أو بعض النبيين ﴿وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ وَلَدࣰاۗ سُبۡحَـٰنَهُۥۚ بَلۡ عِبَادࣱ مُّكۡرَمُونَ ﴿٢٦﴾ لَا یَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ یَعۡمَلُونَ ﴿٢٧﴾ یَعۡلَمُ مَا بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا یَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ وَهُم مِّنۡ خَشۡیَتِهِۦ مُشۡفِقُونَ ﴿٢٨﴾ ۞ وَمَن یَقُلۡ مِنۡهُمۡ إِنِّیۤ إِلَـٰهࣱ مِّن دُونِهِۦ فَذَ ٰ⁠لِكَ نَجۡزِیهِ جَهَنَّمَۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ نَجۡزِی ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾.
رابعًا: أكَّد القرآن فقدان المشركين لأيِّ دليلٍ أو حجةٍ على صحة دعواهم بوجود آلهة أخرى: ﴿أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦۤ ءَالِهَةࣰۖ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَـٰنَكُمۡۖ هَـٰذَا ذِكۡرُ مَن مَّعِیَ وَذِكۡرُ مَن قَبۡلِیۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ ٱلۡحَقَّۖ فَهُم مُّعۡرِضُونَ﴾.
خامسًا: شرَعَ القرآن في بيان أدلته القاطعة على توحيد الله، فذكر منها ما عُرِفَ بدليل التمانُع: ﴿لَوۡ كَانَ فِیهِمَاۤ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ﴾؛ لأن ﴿لَوۡ﴾ هنا حرف امتناع لامتناع، بمعنى أنه لما قامَت السماوات والأرض على هذا النظام الموحَّد الدقيق، وانتفى فسادها والتناقض في داخلها، دلَّ هذا على نفي الشريك؛ إذ لو كان فيهما أكثر من إلهٍ لكان فيهما أكثر من نظامٍ تبعًا لاختلاف الإرادات لهذه الآلهة، فالنظامُ الواحدُ لكلِّ هذا الكون دليلٌ على الإله الواحد والإرادة الواحدة، ومنها إلى دقة هذا النظام، وهذا لا يكون إلا مِن إلهٍ واحدٍ حكيمٍ عليمٍ قديرٍ: ﴿أَوَلَمۡ یَرَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقࣰا فَفَتَقۡنَـٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ حَیٍّۚ أَفَلَا یُؤۡمِنُونَ ﴿٣٠﴾ وَجَعَلۡنَا فِی ٱلۡأَرۡضِ رَوَ ٰ⁠سِیَ أَن تَمِیدَ بِهِمۡ وَجَعَلۡنَا فِیهَا فِجَاجࣰا سُبُلࣰا لَّعَلَّهُمۡ یَهۡتَدُونَ ﴿٣١﴾ وَجَعَلۡنَا ٱلسَّمَاۤءَ سَقۡفࣰا مَّحۡفُوظࣰـاۖ وَهُمۡ عَنۡ ءَایَـٰتِهَا مُعۡرِضُونَ ﴿٣٢﴾ وَجَعَلۡنَا ٱلسَّمَاۤءَ سَقۡفࣰا مَّحۡفُوظࣰـاۖ وَهُمۡ عَنۡ ءَایَـٰتِهَا مُعۡرِضُونَ﴾.
سادسًا: مع هذه المُحاجَجة العقليَّة، استعمل القرآن الخطاب العاطفي الوجداني الذي يهزُّ النفوسَ مِن داخلها، ويُذكِّرُها بمصيرها المحتوم وما ينتظرها بعد ذلك ﴿وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرࣲ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِیْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَـٰلِدُونَ ﴿٣٤﴾كُلُّ نَفۡسࣲ ذَاۤىِٕقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَیۡرِ فِتۡنَةࣰۖ وَإِلَیۡنَا تُرۡجَعُونَ﴾﴿وَلَىِٕن مَّسَّتۡهُمۡ نَفۡحَةࣱ مِّنۡ عَذَابِ رَبِّكَ لَیَقُولُنَّ یَـٰوَیۡلَنَاۤ إِنَّا كُنَّا ظَـٰلِمِینَ ﴿٤٦﴾ وَنَضَعُ ٱلۡمَوَ ٰ⁠زِینَ ٱلۡقِسۡطَ لِیَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ فَلَا تُظۡلَمُ نَفۡسࣱ شَیۡـࣰٔاۖ وَإِن كَانَ مِثۡقَالَ حَبَّةࣲ مِّنۡ خَرۡدَلٍ أَتَیۡنَا بِهَاۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَـٰسِبِینَ﴾.
سابعًا: ربط القرآن بين دعوة التوحيد التي جاء بها سيدنا محمد وبين الرسالات السماوية السابقة ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ ٱلۡفُرۡقَانَ وَضِیَاۤءࣰ وَذِكۡرࣰا لِّلۡمُتَّقِینَ ﴿٤٨﴾ ٱلَّذِینَ یَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَیۡبِ وَهُم مِّنَ ٱلسَّاعَةِ مُشۡفِقُونَ ﴿٤٩﴾ وَهَـٰذَا ذِكۡرࣱ مُّبَارَكٌ أَنزَلۡنَـٰهُۚ أَفَأَنتُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ﴾.
وهذا الربط جاء لتأكيد أنَّ هذه الدعوة المباركة ليست بِدعًا في الدعوات، بل هي رسالةُ الفطرة والمنطق السليم التي نادى بها جميعُ الأنبياء عليهم السلام.


﴿أَمِ ٱتَّخَذُوۤاْ ءَالِهَةࣰ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ هُمۡ یُنشِرُونَ﴾ استفهامٌ مُتضمِّن معنى النفي والإنكار، أي: إن هذه الإلهة المزيَّفة لا تقدر على نشرهم وإحيائهم بعد إماتتهم.
﴿لَوۡ كَانَ فِیهِمَاۤ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ﴾ أي: لو كان في السماوات والأرض آلهة متعددة غير الله لفَسَد النظام الكوني؛ لأنه لن يكون هناك نظام واحد، بل كلُّ إلهٍ يضع النظام الذي يريده.
﴿لَا یُسۡـَٔلُ عَمَّا یَفۡعَلُ وَهُمۡ یُسۡـَٔلُونَ﴾ فالله لا يسأله أحدٌ عن إرادته وقدرته المطلقة التي أنتَجَت هذا النظام الكوني الواحد، وكلُّ ما عدا الله يُسألُ عن سُلُوكه وتصرُّفاته.
﴿هَـٰذَا ذِكۡرُ مَن مَّعِیَ﴾ القرآن الذي هو ذِكرٌ للمُؤمنين.
﴿وَذِكۡرُ مَن قَبۡلِیۚ﴾ التوراة والإنجيل.
﴿بَلۡ عِبَادࣱ مُّكۡرَمُونَ﴾ هم الملائكة الذين نعَتَهم المشركون بصفات الإله أو أنَّهم بنات الله.
﴿لَا یَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ﴾ أي: لا يُقدِّمون قولَهم على قول خالقهم، بمعنى أنَّهم مُستسلِمُون لطاعته وعبادته.
﴿وَلَا یَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ﴾ نفيٌ للشفاعة الباطلة التي هي مُستند الشرك، وفتح باب الشفاعة المقترنة بمعاني التوحيد والرحمة الإلهيَّة الواسعة.
﴿۞ وَمَن یَقُلۡ مِنۡهُمۡ إِنِّیۤ إِلَـٰهࣱ مِّن دُونِهِۦ فَذَ ٰ⁠لِكَ نَجۡزِیهِ جَهَنَّمَۚ﴾ هذا مثل قوله تعالى: ﴿لَىِٕنۡ أَشۡرَكۡتَ لَیَحۡبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65] فصورةُ الخطاب لرسولِ الله ، والمقصود غيره ممن يتوقَّع منهم الشرك بعد الإيمان، فرسولُ الله مُنزَّهٌ عن الشرك، وكذلك الملائكة، وإنَّما المقصود تهديد المشركين أشدَّ التهديد، فإذا كان الملائكة لو ادَّعى واحدٌ منهم أنَّه إلهٌ، كان هذا عقابه، فكيف بمن يكذب عليهم هذه الكذبة، أو يدَّعِيها لنفسه كما فعل فرعون؟
﴿أَوَلَمۡ یَرَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقࣰا فَفَتَقۡنَـٰهُمَاۖ﴾ كانتا شيئًا واحدًا متصلًا، ثم فصَلَ الله بينهما، وربما كشف العلم الحديث بعض الحقائق والنظريات الداعمة لهذا التفسير.
لكن يُشكِل هنا: أنَّ الكافرين لم يرَوا ذلك، والقرآن قال: ﴿أَوَلَمۡ یَرَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤاْ﴾ ثم إنَّه لا بُدَّ مِن مُحاجَجتهم بشيءٍ يعلَمُونه، ويُؤكِّد فيهم دقَّة النظام الكوني الواحد الذي يدلُّ على وجود الخالق الواحد، فهذا هو السياق أصلًا.
وعليه فقولُ ابن عباس وغيره أنَّهم يرَون السماء رَتقًا، فتنفَتِقُ عليهم بالمطر، ويرَون الأرض رَتقًا، فتنفَتِقُ لهم بالزرع أقرب لِمَا يعلمه المشركون في ذلك الوقت، وأدلّ على موضوع الحوار، وهناك قرينة من النص أيضًا، وهي قوله تعالى مُباشرةً: ﴿وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ﴾، وليس مِن مانع أنْ تتضمَّن الآية المعنَيَين، فهما ليسا ضدَّين ولا نقيضَين، بل فَتقُ الكون الأكبر مُقدِّمة لفَتقِ المطر والزرع، والله أعلم.
﴿وَجَعَلۡنَا فِی ٱلۡأَرۡضِ رَوَ ٰ⁠سِیَ أَن تَمِیدَ بِهِمۡ﴾ الرواسي: الجبال، وقد قرَنَها القرآن باستِقرار الأرض وتوازنها، فلا تنقلب بنا ولا ﴿ﮭ﴾ أي: تتحرك بأهلها فلا يستقرون عليها.
﴿فِجَاجࣰا سُبُلࣰا﴾ والسبل هي: الفِجَاج، وجاء بها للبيانِ والتأكيدِ.
﴿وَجَعَلۡنَا ٱلسَّمَاۤءَ سَقۡفࣰا مَّحۡفُوظࣰـاۖ﴾ مُتماسِكًا فلا تقَع على الأرض.
﴿كُلࣱّ فِی فَلَكࣲ یَسۡبَحُونَ﴾ يسِيرُون في مداراتهم المُخصَّصة لهم وفق النظام الكوني الدقيق الذي ضبَطَ الله فيه حركةَ هذا الكون بما فيه من شمسٍ وقمرٍ.
﴿كُلُّ نَفۡسࣲ ذَاۤىِٕقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ﴾ قرارٌ حاسِمٌ وشامِلٌ لا يُستثنى منه أحد، وإنّما الفارق في الآجال وموعد التنفيذ.
﴿وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَیۡرِ فِتۡنَةࣰۖ﴾ فكلُّ ما يُصيب الإنسان في هذه الحياة من صحةٍ ومرضٍ، وقوةٍ وضعفٍ، وغنًى وفقرٍ، وكلّ ما يسُرُّه أو يُحزِنُه إنَّما هو داخِلٌ في باب الابتِلاء والاختِبار، كما قال تعالى في موضع آخر: ﴿خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ﴾ [الملك: 2]، وإنَّما العبرة بسلوك المبتلى؛ فمن شكَرَ وصبَرَ ظَفِرَ، ومن بطرَ وجَزِعَ خَسِرَ.
﴿خُلِقَ ٱلۡإِنسَـٰنُ مِنۡ عَجَلࣲۚ﴾ أي: عَجُولًا، والسياق يقدم بهذه الجملة؛ تمهيدًا لردِّه على الكافرين في استعجالهم العذاب استعجال المُنكِر المتحدِّي؛ ولذلك عقَّب بقوله: ﴿سَأُوْرِیكُمۡ ءَایَـٰتِی فَلَا تَسۡتَعۡجِلُونِ﴾.
﴿فَتَبۡهَتُهُمۡ﴾ تجعلهم باهِتِين واجِمِين لا يعرفون ماذا يصنَعون.
﴿فَحَاقَ بِٱلَّذِینَ سَخِرُواْ مِنۡهُم مَّا كَانُواْ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ﴾ فأحاط بهم العذاب الذي يستحقونه على استهزائهم بأنبيائهم.
﴿مَن یَكۡلَؤُكُم بِٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحۡمَـٰنِۚ﴾ مَن يحفظكم ويمدكم بأسباب الحياة غير الله؟ و﴿مَن﴾ هنا على البدليَّة، بمعنى: مَن ذاك البديل عن الرحمن الذي يكلَؤُكم؟
﴿أَمۡ لَهُمۡ ءَالِهَةࣱ تَمۡنَعُهُم مِّن دُونِنَاۚ﴾ تأكيدٌ للمعنى الأول، بمعنى: هل لهم آلهة غيرنا تحفظهم؟
﴿وَلَا هُم مِّنَّا یُصۡحَبُونَ﴾ أي: لا تكون معهم منا نصرة أو جوار.
﴿أَفَلَا یَرَوۡنَ أَنَّا نَأۡتِی ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَاۤۚ أَفَهُمُ ٱلۡغَـٰلِبُونَ﴾ إنذار للمشركين بأنَّ كلَّ سلطان آيلٌ إلى النقصان ثم الزوال، وهذه سنَّةٌ من سُننِ الله، والمقصود بالأرض هنا: الدولة والسلطان الذي يقوم على أرض محددة، ثم تتآكل هذه الدولة، وينكمش ذلك السلطان، وهذا أمرٌ مشاهدٌ ومعلومٌ في كلِّ أمم الأرض، وقرينة هذا المعنى قوله تعالى: ﴿أَفَهُمُ ٱلۡغَـٰلِبُونَ﴾، والله أعلم.
﴿وَلَىِٕن مَّسَّتۡهُمۡ نَفۡحَةࣱ مِّنۡ عَذَابِ رَبِّكَ﴾ شيءٌ من عذاب الله المُعجَّل لهم في الدنيا.
﴿وَنَضَعُ ٱلۡمَوَ ٰ⁠زِینَ ٱلۡقِسۡطَ﴾ أي: الموازين العادلة التي لا تُحابي ولا تميل على أحد.
﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ ٱلۡفُرۡقَانَ﴾ التوراة، وكأنَّ هذه الآية جاءت لتربط بين موضوع هذه السورة والسورة التي قبلها، وهي سورة طه، بتأكيد أنَّ دعوة الأنبياء واحدة، وأنّهم يُمثِّلون سلسلة النور والتوحيد في مُقابل تلك التي تُمثِّل الظلامَ والوثنيَّةَ.