سورة الأنبياء تفسير مجالس النور الآية 70

وَأَرَادُواْ بِهِۦ كَیۡدࣰا فَجَعَلۡنَـٰهُمُ ٱلۡأَخۡسَرِینَ ﴿٧٠﴾

تفسير مجالس النور سورة الأنبياء

المجلس الحادي والأربعون بعد المائة: إبراهيم عليه السلام يقيم الحجة على بطلان الأوثان


من الآية (51- 73)


بعد حواره الطويل مع المشركين وإيراده للحجج العقليَّة والوجدانيَّة يُقدِّم القرآن في هذا المقطع دليلًا حسِّيًّا ملموسًا لا ينبغي أن يختلف في برهانه اثنان، وهذا الدليل جرى على يد سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ حيث قام بتحطيم هذه الآلهة المزيَّفة لعلَّ ذلك يُحرِّك عقولَ الغافِلين، ويمكن تلخيص هذه الحادثة العظيمة كما وردت في هذه الآيات بالآتي:
أولًا: آتَى الله إبراهيم رُشدَه وهيَّأَه لهذه المهمة العصيبة، وكان في البدء يدخل مع قومه الوثنيين بالحوار والأسئلة الاستكشافيَّة ﴿۞ وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَاۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ رُشۡدَهُۥ مِن قَبۡلُ وَكُنَّا بِهِۦ عَـٰلِمِینَ ﴿٥١﴾ إِذۡ قَالَ لِأَبِیهِ وَقَوۡمِهِۦ مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِیلُ ٱلَّتِیۤ أَنتُمۡ لَهَا عَـٰكِفُونَ ﴿٥٢﴾ قَالُواْ وَجَدۡنَاۤ ءَابَاۤءَنَا لَهَا عَـٰبِدِینَ ﴿٥٣﴾ قَالَ لَقَدۡ كُنتُمۡ أَنتُمۡ وَءَابَاۤؤُكُمۡ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ ﴿٥٤﴾ قَالُوۤاْ أَجِئۡتَنَا بِٱلۡحَقِّ أَمۡ أَنتَ مِنَ ٱللَّـٰعِبِینَ ﴿٥٥﴾ قَالَ بَل رَّبُّكُمۡ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلَّذِی فَطَرَهُنَّ وَأَنَا۠ عَلَىٰ ذَ ٰ⁠لِكُم مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِینَ﴾، وواضحٌ من هذا العرض أنّ قومه لم يكونوا يمتلكون حجة سوى تمسُّكِهم بما وجدوا عليه آباءهم.
ثانيًا: أضمر إبراهيم في نفسه أن يُحطِّمَ بيده هذه الأوثان؛ ليُقيمَ عليهم الحجة القاطعة الملموسة، فالإله الذي لا يتمكَّن مِن الدفاع عن نفسه كيف يُسمَّى إلهًا؟ ثم نفَّذَ إبراهيم ما عزم عليه، فجعلهم جُذاذًا إلا كبيرهم ﴿وَتَٱللَّهِ لَأَكِیدَنَّ أَصۡنَـٰمَكُم بَعۡدَ أَن تُوَلُّواْ مُدۡبِرِینَ ﴿٥٧﴾ فَجَعَلَهُمۡ جُذَ ٰ⁠ذًا إِلَّا كَبِیرࣰا لَّهُمۡ لَعَلَّهُمۡ إِلَیۡهِ یَرۡجِعُونَ﴾.
ثالثًا: رجع القوم إلى أصنامهم فرأوها مُحطَّمةً، لم يسألوا أنفسَهم كيف للآلهة أن تتحطَّم؛ بل راحوا يسألون عن الفاعل وكأنه عملٌ جنائيٌّ وعُدوان على بعض ممتلكاتهم! وهذه هي غفلة العقل التي نبَّهَتْ إليها مُقدِّمات السورة، والتي يغرق فيها الإنسان فلا يَقدِر على رؤية الحقائق ولو كانت ماثِلةً بين يديه ﴿قَالُواْ مَن فَعَلَ هَـٰذَا بِـَٔالِهَتِنَاۤ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾.
رابعًا: تذكَّر بعضُهم مُجادلات إبراهيم، فكانت الخيطَ الذي دلَّهُم على هويَّة الفاعل ﴿قَالُواْ سَمِعۡنَا فَتࣰى یَذۡكُرُهُمۡ یُقَالُ لَهُۥۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمُ ﴿٦٠﴾ قَالُواْ فَأۡتُواْ بِهِۦ عَلَىٰۤ أَعۡیُنِ ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ یَشۡهَدُونَ﴾، نعم، هكذا؛ فالناس لن يسألوا عن حقيقة هذه الآلهة، وما الذي يرجُونه منها بعد أن فقَدَت القدرة على حماية نفسها، هذه الأسئلة ليست مُهمَّة لدى الجماهير الغافلة، وإنَّما المهم معرفة الجاني وما سيُفعَل به.
خامسًا: أُحضِرَ إبراهيم عليه السلام أمام هذا الجمهور الأبلَه الغافل لتبدأ هذه المحاكمة الغريبة ﴿قَالُوۤاْ ءَأَنتَ فَعَلۡتَ هَـٰذَا بِـَٔالِهَتِنَا یَـٰۤإِبۡرَ ٰ⁠هِیمُ ﴿٦٢﴾ قَالَ بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِیرُهُمۡ هَـٰذَا فَسۡـَٔلُوهُمۡ إِن كَانُواْ یَنطِقُونَ ﴿٦٣﴾ فَرَجَعُوۤاْ إِلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ فَقَالُوۤاْ إِنَّكُمۡ أَنتُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ ﴿٦٤﴾ ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمۡ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَا هَـٰۤـؤُلَاۤءِ یَنطِقُونَ﴾.
لقد ترك إبراهيم عليه السلام كبيرَ الأصنام لهذا الغرض، فهذه إذا كانت آلهة ولها إرادات مختلفة فربما حصل بينهم ما يحصل بين ملوك الأرض، فقام كبيرهم بالتخلُّص مِن هؤلاء الشركاء المُشاكِسِين، وبعد هذا فما الذي يمنع كبير الآلهة - وقد خلا له السلطان تمامًا - مِن أن يُعلِن سلطانه وتفرُّده، وأنَّه هو الذي أزَاحَ هؤلاء المُنافِسِين! هكذا أرادَ إبراهيم أن يطرُقَ على هذه العقول لعلها تستيقِظ، لكنهم بعد تلاوُمٍ وتشاوُرٍ جاءوه بجوابهم الأخير ﴿لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَا هَـٰۤـؤُلَاۤءِ یَنطِقُونَ﴾!
سادسًا: لم ير إبراهيم بُدًّا مِن أن يُواجههم بالحقيقة، ويُفنِّد هذه الطريقة الغبيَّة والساذجة في التفكير ﴿قَالَ أَفَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَنفَعُكُمۡ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَضُرُّكُمۡ ﴿٦٦﴾ أُفࣲّ لَّكُمۡ وَلِمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾.
سابعًا: فما كان جواب هؤلاء إلا اللجوء إلى منطق القوَّة والانتقام بأبشع صوره ﴿قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوۤاْ ءَالِهَتَكُمۡ إِن كُنتُمۡ فَـٰعِلِینَ﴾ فالتحريقُ إذن هو الردُّ المناسب؛ لِمَا وجدوه من حُرقةٍ في قلوبهم وهُم يرَون آلهتهم مُحطَّمة أمام أعيُنهم، وهكذا اندفع الغوغاء لجمع الحطب وإيقاد النار، وكأنهم وجدوا ما ينشغلون به عن كلِّ فكرةٍ أو خاطرةٍ قد تُحرِّك شيئًا من مجاري عقولهم الآسِنَة.
ثامنًا: أراد الله أن يُقيم عليهم تمام الحجة، وليرينا أيضًا أنَّ هاوية الضلال لا نهاية لها حينما يتلبَّد العقل، ويصدَأُ الفكر ﴿قُلۡنَا یَـٰنَارُ كُونِی بَرۡدࣰا وَسَلَـٰمًا عَلَىٰۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ ﴿٦٩﴾ وَأَرَادُواْ بِهِۦ كَیۡدࣰا فَجَعَلۡنَـٰهُمُ ٱلۡأَخۡسَرِینَ﴾، لقد رأوا النار التي جمعوها وأضرموها قد أحالها اللهُ القديرُ إلى بردٍ وسلامٍ، ونجَّى الله إبراهيم.
وهذه آية تضطر الفكر اضطرارًا للمُقارنة بين تلك الأصنام المحطَّمة التي لم تتمكَّن مِن الدفاع عن نفسها، وبين حال إبراهيم الذي يدعوهم إلى عبادة الإله الواحد، وكيف أنَّ هذا الإله قد تدخَّل لإنقاذه مِن بين أيديهم، ومِن بين لَهَب نيرانهم، لكنهم أصَرُّوا على التمسُّك بتلك الآلهة المحطمة، وليس بعد هذه الغفلة مِن غفلة، ولا بعد هذا الضلال مِن ضلال.
تاسعًا: ترك إبراهيم عليه السلام هؤلاء الناس، مُصطحبًا معه لوطًا عليه السلاموزوجته سارة، حتى استقرَّ بهم المقام في أرض الشام، ثم رزقه الله منها بإسحاق، ومن ذرية إسحاق يعقوب، ثم كانت سلسلة النبيين ممن جعلهم الله منارات للسائرين على طريق الهدى والحقِّ المبين ﴿وَنَجَّیۡنَـٰهُ وَلُوطًا إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَا لِلۡعَـٰلَمِینَ ﴿٧١﴾ وَوَهَبۡنَا لَهُۥۤ إِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ نَافِلَةࣰۖ وَكُلࣰّا جَعَلۡنَا صَـٰلِحِینَ ﴿٧٢﴾ وَجَعَلۡنَـٰهُمۡ أَىِٕمَّةࣰ یَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَیۡرَ ٰ⁠تِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِیتَاۤءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَـٰبِدِینَ﴾.


﴿۞ وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَاۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ رُشۡدَهُۥ مِن قَبۡلُ﴾ أي: مِن قبل موسى وهارون، وقدَّمَهُما بالذكر؛ لمناسبة سورة طه المتقدمة، والتي وردت فيها قصتُهما مفصَّلة، ولتقدم الإشارة إليهما في المقطع السابق بقوله: ﴿هَـٰذَا ذِكۡرُ مَن مَّعِیَ وَذِكۡرُ مَن قَبۡلِیۚ﴾.
﴿ٱلَّتِیۤ أَنتُمۡ لَهَا عَـٰكِفُونَ﴾ ملازمون لعبادتها.
﴿وَتَٱللَّهِ لَأَكِیدَنَّ أَصۡنَـٰمَكُم﴾ قالها في نفسه، فالكَيد في مثل هذه الأمور لا يناسبه الإعلان، ثم لو كان قد أعلَنَ ذلك لهم لأخذوا حذرهم، ولما تساءلوا: ﴿مَن فَعَلَ هَـٰذَا بِـَٔالِهَتِنَاۤ﴾، وحينما أشاروا إليه بالتهمة إنَّما تذكَّروا ذِكرَه لأصنامهم على سبيل الإنكار وليس على سبيل التهديد؛ إذ لو كانوا قد سمِعُوا منه التهديد لما قالوا له: ﴿ءَأَنتَ فَعَلۡتَ هَـٰذَا بِـَٔالِهَتِنَا یَـٰۤإِبۡرَ ٰ⁠هِیمُ﴾.
﴿قَالَ بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِیرُهُمۡ هَـٰذَا﴾ لاستدراجهم إلى الاعتراف بأن آلهتهم لا تنطق ولا تفعل، وفيه معنى التهكُّم أيضًا.
﴿فَرَجَعُوۤاْ إِلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ فَقَالُوۤاْ إِنَّكُمۡ أَنتُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ﴾ ربما كان هذا في لحظةٍ من التحرر الجزئي للعقل، ثم ما لبثت أن غابت في مَوج الغفلة والعناد والمكابرة، ويحتمل أنهم تلاوموا حينما شعروا بالتقصير تجاه آلهتهم التي تركوها من غير حراسة وحماية.
﴿ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمۡ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَا هَـٰۤـؤُلَاۤءِ یَنطِقُونَ﴾ تحتمل المعنَيَين أيضًا؛ أنَّهم بعد ومضة التيقُّظ انتكسوا، أو أنَّ القرآن يصف حالهم وهم يعترفون بأنَّهم إنّما يعبدون آلهةً لا تنطق ولا تفعل شيئًا، وليس بعد هذا الانتكاس مِن انتكاس.
﴿أُفࣲّ لَّكُمۡ﴾ كلمة تضجر؛ لما رآه منهم من انتكاسٍ في العقل، وارتكاسٍ في حمأة الجهل والغفلة.
﴿وَوَهَبۡنَا لَهُۥۤ إِسۡحَـٰقَ﴾ مِن زوجته سارة، وقد رُزِقَ قبله بإسماعيل من هاجر.
﴿وَیَعۡقُوبَ نَافِلَةࣰۖ﴾ هو ولد إسحاق، وسمَّاه نافلةً؛ لأنه جاء مِن غير سؤالٍ، بخلاف أبيه إسحاق.
﴿وَجَعَلۡنَـٰهُمۡ أَىِٕمَّةࣰ﴾ يُقتَدَى بهم.
﴿یَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا﴾ يدلُّون الناس ويُرشِدُونهم إلى طريق الحقِّ بإذن الله تعالى.