سورة الأنبياء تفسير مجالس النور الآية 92

إِنَّ هَـٰذِهِۦۤ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ ﴿٩٢﴾

تفسير مجالس النور سورة الأنبياء

المجلس الثاني والأربعون بعد المائة: شذرات من قصص النبيين


من الآية (74- 92)


بعد التذكير بقصة موسى وهارون، ثم تفصيل قصة إبراهيم وتحطيمه للأصنام، شَرَعَ القرآن بنظم بعض الشذرات والومضات السريعة مِن قصص النبيين عليهم جميعًا وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والتسليم، وهي كالآتي:
أولًا: ذِكْرُ لوط عليه السلام وكيف نجَّاه الله من تلك القرية التي كانت تعمل الخبائث ﴿وَلُوطًا ءَاتَیۡنَـٰهُ حُكۡمࣰا وَعِلۡمࣰا وَنَجَّیۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡقَرۡیَةِ ٱلَّتِی كَانَت تَّعۡمَلُ ٱلۡخَبَـٰۤىِٕثَۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمَ سَوۡءࣲ فَـٰسِقِینَ ﴿٧٤﴾ وَأَدۡخَلۡنَـٰهُ فِی رَحۡمَتِنَاۤۖ إِنَّهُۥ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ﴾ وقد قدَّمَه القرآن بالذكر لصِلَتِه بقصة إبراهيم عليهما السلام.
ثانيًا: ذِكْرُ نوح عليه السلام وكيف استجابَ الله له فنجَّاه ومَن معه، وأهلك قومه المعاندين المُكذِّبِين ﴿وَنُوحًا إِذۡ نَادَىٰ مِن قَبۡلُ فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ فَنَجَّیۡنَـٰهُ وَأَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلۡكَرۡبِ ٱلۡعَظِیمِ ﴿٧٦﴾ وَنَصَرۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِینَ كَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِنَاۤۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمَ سَوۡءࣲ فَأَغۡرَقۡنَـٰهُمۡ أَجۡمَعِینَ﴾.
ثالثًا: ذِكْرُ داود وابنه سليمان عليهما السلاموكيف آتاهما الله المُلك وأسباب التمكين والقوة ﴿وَدَاوُۥدَ وَسُلَیۡمَـٰنَ إِذۡ یَحۡكُمَانِ فِی ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِیهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَـٰهِدِینَ ﴿٧٨﴾ فَفَهَّمۡنَـٰهَا سُلَیۡمَـٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَیۡنَا حُكۡمࣰا وَعِلۡمࣰاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ یُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّیۡرَۚ وَكُنَّا فَـٰعِلِینَ ﴿٧٩﴾ وَعَلَّمۡنَـٰهُ صَنۡعَةَ لَبُوسࣲ لَّكُمۡ لِتُحۡصِنَكُم مِّنۢ بَأۡسِكُمۡۖ فَهَلۡ أَنتُمۡ شَـٰكِرُونَ ﴿٨٠﴾ وَلِسُلَیۡمَـٰنَ ٱلرِّیحَ عَاصِفَةࣰ تَجۡرِی بِأَمۡرِهِۦۤ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَاۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَیۡءٍ عَـٰلِمِینَ ﴿٨١﴾ وَلِسُلَیۡمَـٰنَ ٱلرِّیحَ عَاصِفَةࣰ تَجۡرِی بِأَمۡرِهِۦۤ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَاۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَیۡءٍ عَـٰلِمِینَ﴾.
رابعًا: ذِكْرُ أيوب عليه السلام وكيف كشَفَ الله عنه الضرَّ والمرض الذي أصابه بعد طول صبرٍ وتحمُّلٍ ﴿۞ وَأَیُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥۤ أَنِّی مَسَّنِیَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّ ٰ⁠حِمِینَ ﴿٨٣﴾ فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ فَكَشَفۡنَا مَا بِهِۦ مِن ضُرࣲّۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِنَا وَذِكۡرَىٰ لِلۡعَـٰبِدِینَ﴾.
خامسًا: ذِكْرُ إسماعيل وإدريس وذي الكفل ونَعتُهم بالصبر والصلاح ﴿وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَإِدۡرِیسَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ كُلࣱّ مِّنَ ٱلصَّـٰبِرِینَ ﴿٨٥﴾ وَأَدۡخَلۡنَـٰهُمۡ فِی رَحۡمَتِنَاۤۖ إِنَّهُم مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ﴾.
سادسًا: ذِكْرُ يونس عليه السلام ومحنته القاسية والفريدة في بطن الحوت وفي ظُلمات الليل والبحر ﴿وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـٰضِبࣰا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَیۡهِ فَنَادَىٰ فِی ٱلظُّلُمَـٰتِ أَن لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنتَ سُبۡحَـٰنَكَ إِنِّی كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ ﴿٨٧﴾ وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـٰضِبࣰا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَیۡهِ فَنَادَىٰ فِی ٱلظُّلُمَـٰتِ أَن لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنتَ سُبۡحَـٰنَكَ إِنِّی كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾.
سابعًا: ذِكْرُ زكريا وابنه يحيى عليهما السلام الذي وهَبَه الله له على كِبَر سِنِّهِ ﴿وَزَكَرِیَّاۤ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ رَبِّ لَا تَذَرۡنِی فَرۡدࣰا وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلۡوَ ٰ⁠رِثِینَ ﴿٨٩﴾ فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَوَهَبۡنَا لَهُۥ یَحۡیَىٰ وَأَصۡلَحۡنَا لَهُۥ زَوۡجَهُۥۤۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ یُسَـٰرِعُونَ فِی ٱلۡخَیۡرَ ٰ⁠تِ وَیَدۡعُونَنَا رَغَبࣰا وَرَهَبࣰاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَـٰشِعِینَ﴾.
ثامنًا: ذِكْرُ مريم وابنها المسيح عليهما السلام وقصة خلقه المعجزة ﴿وَٱلَّتِیۤ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِیهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلۡنَـٰهَا وَٱبۡنَهَاۤ ءَایَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ ﴿٩١﴾ إِنَّ هَـٰذِهِۦۤ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ﴾.
تاسعًا: بعد كلِّ هذا ذَكَرَ القرآن الحكمة الجوهرية مِن ذِكْرِ هؤلاء الأنبياء في مقطعٍ واحدٍ ﴿إِنَّ هَـٰذِهِۦۤ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ﴾، فهؤلاء الصفوة الكرام مع ما يُمثِّلونه مِن أسوةٍ حسنة، ومثالٍ يُحتَذَى به في كلِّ ما يعرض للإنسان المؤمن في حياته المتنوعة، هم كذلك يُمثِّلون المعالم المكوِّنة لشخصيَّة الأمة الواحدة التي تستَعلِي على كلِّ الحدود والفواصل المكانيَّة والزمانيَّة، والعنصريَّة والطبقيَّة، وبالتالي فإنَّ أيَّ مفهومٍ للأمة يخرج عن هذا الإطار هو من الولاءات المُحرَّمة التي تُصادِم صريحَ القرآن.
أما الولاءات الأخرى التي تستند إلى واقع سياسي كمفهوم (الدولة)، أو اجتماعي كمفهوم (القبيلة) فهذه ينبغي أن تدور كلُّها في دائرة المفهوم الواسع للأمة، أما إذا خرجت عنها وتنكَّرَت لها، فهي كذلك من الولاءات العصبيَّة المُحرَّمة.


﴿وَلُوطًا ءَاتَیۡنَـٰهُ حُكۡمࣰا وَعِلۡمࣰا﴾ أما الحُكم فهو هنا: الحكمة، والقدرة على الفصل بين الخصوم، وتمييز الحقّ عن الباطل، ومعلومٌ أنَّه عليه السلام لم يُؤتَ الحُكم الذي هو السلطة والمُلك، وأما العِلم فهو: عِلمُ النبوَّة.
﴿إِذۡ یَحۡكُمَانِ فِی ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِیهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ﴾ نموذجٌ مِن حكمةِ الأنبياء وعدلِهم، واحتكام الناس إليهم؛ لعدلهم وحُسن تدبيرهم.
وقد أعرض القرآن عن تفصيل القصَّة؛ لأنه اكتَفَى بهذا المعنى، فالسياق لم يأتِ لبيان مسألةٍ فقهيَّةٍ، والظاهر أنَّ أصلَ المسألة كانت على خلافٍ بين صاحب زرعٍ وصاحب غنمٍ، وقد انتشَرَت غنمُ هذا في زرعِ هذا فأفسَدَتْه، فاحتكما إلى داود وكان بجنبه ابنه سُليمان، فحكم داودُ أولًا بما معه من عِلمٍ، ثم استدرك عليه سُليمان، فكان الأقربَ إلى مُراد الله، وذلك قوله تعالى: ﴿فَفَهَّمۡنَـٰهَا سُلَیۡمَـٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَیۡنَا حُكۡمࣰا وَعِلۡمࣰاۚ﴾.
وفيه أيضًا: فضيلة المبادرة بالرأي الحسن مع صِغرِ السنِّ، وفضيلة التراجُع إلى أحسن القولَين مع كِبرِ السنِّ.
﴿وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ یُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّیۡرَۚ﴾ في تسخيرهما معنًى مُضاف غير التسبيح؛ إذ التسبيح كائن قبل داود عليه السلام وبعده، ولعلَّ خصوصيته كانت بسماعه لهذا التسبيح، واستئناسه به، ولا يمنع أيضًا أنهما سُخِّرتا له لتحصيل منافعهما، وكان هذا مُقترنًا بتسبيحهما وخضوعهما لناموس الله الذي وضعه فيهما.
﴿وَعَلَّمۡنَـٰهُ صَنۡعَةَ لَبُوسࣲ لَّكُمۡ لِتُحۡصِنَكُم مِّنۢ بَأۡسِكُمۡۖ﴾ هي الدروع التي تحمي الأجساد من ضرب السيوف وطعن الرماح.
﴿وَلِسُلَیۡمَـٰنَ ٱلرِّیحَ عَاصِفَةࣰ﴾ أي: سخَّرناها له فكانت تجري بأمره، وإلى الوجهة التي يريدها.
﴿وَمِنَ ٱلشَّیَـٰطِینِ مَن یَغُوصُونَ لَهُۥ وَیَعۡمَلُونَ عَمَلࣰا دُونَ ذَ ٰ⁠لِكَۖ﴾ أي: كان يُكلِّفهم بالعمل داخل البحر لاستكشافهِ وجَنْيِ جواهرِهِ، ويُكلِّفهم بأعماله الأخرى أيضًا.
وهذه معجزة وليست مثالًا يُحتذى، ولا علة يُقاسُ عليها، فالأصل الفصل بين عالم الإنس وعالم الجن، فلا نحن نُسخِّرهم لخدمتنا، ولا هم يُسخِّروننا لخدمتهم، فهذا مُنافٍ لحكمة الله في الخلق والتكليف.
﴿وَءَاتَیۡنَـٰهُ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ﴾ ردَّ عليه أهلَهُ، ثم باركَ فيهم وكثَّرَهم.
﴿وَذَا ٱلنُّونِ﴾ صاحب الحوت، وهو يونس عليه السلام.
﴿إِذ ذَّهَبَ مُغَـٰضِبࣰا﴾ ترك قومه بعد أن غضِبَ عليهم.
﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَیۡهِ﴾ حيثُ ترك قومه من غير إذنٍ من ربِّه؛ لظنِّه أنَّ الله لم يُلزِمه بالبقاء معهم والصبر عليهم.
﴿وَأَصۡلَحۡنَا لَهُۥ زَوۡجَهُۥۤۚ﴾ الظاهر أنَّه صلاحُ الجسد؛ بحيث تكون قادرة على الحمل والولادة بعد كبرِ سنِّها، والله أعلم.
﴿وَٱلَّتِیۤ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا﴾ عن كلِّ حرامٍ وشُبهةٍ.
﴿وَجَعَلۡنَـٰهَا وَٱبۡنَهَاۤ ءَایَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾ دليلًا على وحدانية الله تعالى وقُدرته المطلقة.