بعد محور الحجِّ وما تضمَّنه من تنديدٍ بموقف المشركين وصدِّهم عن المسجد الحرام، شرَعَ القرآن ببيان طبيعة العلاقة مع هؤلاء المشركين وما ينبغي للمؤمنين الاستعداد له:
أولًا: بيان أنَّ الله ـ يدافع عن الذين آمنوا، وهو معهم على مَن عاداهم وظلَمَهُم
﴿۞ إِنَّ ٱللَّهَ یُدَ ٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ كُلَّ خَوَّانࣲ كَفُورٍ﴾،
﴿وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِیرٌ﴾ وواضح من أسلوب القرآن هنا أنَّه يتحدث عن الحرب الدفاعيَّة لردِّ الظالم المُعتدِي، وكفِّ عُدوانه.
ثانيًا: بيان أنَّ المشركين هم المعتدون، وهم الظالمون؛ ولذلك حُقَّ للمؤمنين أنْ يردُّوا هذا الظلم، وهذا العدوان
﴿أُذِنَ لِلَّذِینَ یُقَـٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِیرٌ ﴿٣٩﴾ ٱلَّذِینَ أُخۡرِجُواْ مِن دِیَـٰرِهِم بِغَیۡرِ حَقٍّ إِلَّاۤ أَن یَقُولُواْ رَبُّنَا ٱلـلَّـهُۗ﴾.
ثالثًا: تأكيدُ القرآن أنَّ ردَّ العدوان ولو من مُشركٍ أو كافرٍ ينبغي أن يكون بالعدل
﴿۞ ذَ ٰلِكَۖ وَمَنۡ عَاقَبَ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبَ بِهِۦ ثُمَّ بُغِیَ عَلَیۡهِ لَیَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورࣱ﴾.
رابعًا: بيان أنَّ أصل الخلاف مع المشركين لم يكن على أرضٍ أو مصلحةٍ دنيويَّةٍ، وإنما كان خلافًا عقديًّا بسبب موقف المشركين من رسالة التوحيد التي جاء بها خاتم المرسلين محمد
ﷺ، وهو موقفٌ مُتكرر مع كلِّ نبيٍّ مرسلٍ، فالصراع بين الشرك والتوحيد صراع وجود لا تخلو منه أرض ولا زمان
﴿وَإِن یُكَذِّبُوكَ فَقَدۡ كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحࣲ وَعَادࣱ وَثَمُودُ ﴿٤٢﴾ وَقَوۡمُ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَقَوۡمُ لُوطࣲ ﴿٤٣﴾ وَأَصۡحَـٰبُ مَدۡیَنَۖ وَكُذِّبَ مُوسَىٰۖ فَأَمۡلَیۡتُ لِلۡكَـٰفِرِینَ ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَیۡفَ كَانَ نَكِیرِ﴾.
خامسًا: بيان أنَّ عاقبة الشرك خسارة الدنيا والآخرة، وفي هذا تهديدٌ ووعيدٌ شديدٌ
﴿فَكَأَیِّن مِّن قَرۡیَةٍ أَهۡلَكۡنَـٰهَا وَهِیَ ظَالِمَةࣱ فَهِیَ خَاوِیَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرࣲ مُّعَطَّلَةࣲ وَقَصۡرࣲ مَّشِیدٍ ﴿٤٥﴾أَفَلَمۡ یَسِیرُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبࣱ یَعۡقِلُونَ بِهَاۤ أَوۡ ءَاذَانࣱ یَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِی فِی ٱلصُّدُورِ ﴿٤٦﴾ وَیَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلۡعَذَابِ وَلَن یُخۡلِفَ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥۚ وَإِنَّ یَوۡمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلۡفِ سَنَةࣲ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴿٤٧﴾ وَكَأَیِّن مِّن قَرۡیَةٍ أَمۡلَیۡتُ لَهَا وَهِیَ ظَالِمَةࣱ ثُمَّ أَخَذۡتُهَا وَإِلَیَّ ٱلۡمَصِیرُ﴾،
﴿وَٱلَّذِینَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔایَـٰتِنَا فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عَذَابࣱ مُّهِینࣱ﴾.
سادسًا: بيان أنَّ عاقبة المؤمنين خير الدنيا وخير الآخرة
﴿وَلَیَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ﴾،
﴿فَٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَرِزۡقࣱ كَرِیمࣱ﴾،
﴿وَٱلَّذِینَ هَاجَرُواْ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوۤاْ أَوۡ مَاتُواْ لَیَرۡزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ رِزۡقًا حَسَنࣰاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ خَیۡرُ ٱلرَّ ٰزِقِینَ﴾ وهكذا يكون المؤمن بين الحُسنَيَين؛ نصر الدنيا، وشهادة الآخرة.
سابعًا: تحميل المؤمنين مسؤوليَّة الإصلاح ونشر الخير والفضيلة، ومحاربة المنكر والرذيلة بعد تمكين الله لهم، ونصره لهم على عدوِّهم
﴿ٱلَّذِینَ إِن مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ﴾.
وهذه مسؤوليَّةٌ لا تقِلُّ أهميةً عن مسؤوليَّة البذل والتضحية في مراحل الصراع المختلفة، فمن يَصبِر على مِحَنِ الطريق، ربما يقِلُّ صَبرُه عند قطف الثمر، والتنافُس في مُقارعة العدو قد يكون أسهل على النفس من التنافس على الغنائم، وفي هذه وتلك يعيش المؤمن حالةً من الاختبار والامتحان.
ثامنًا: في خِضَمِّ هذا المحور يَذكرُ القرآن بُعدًا آخر لهذا الصراع، ونموذجًا مما كان يواجهه
ﷺ من هؤلاء المشركين، إنَّه نموذجٌ لظاهرة من ظواهر الصراع مع كلِّ الدعوات، ومع كلِّ النبيين، وليست حادثة جزئيَّة أو منفصلة كما تُشير بعض الروايات التفسيرية التي ذهَبَت بالمقصود من السياق إلى زاوية أخرى ليس لها صلة بالواقع، ولا بالسياق، ولا بطبيعة الصراع أصلًا.
إنَّ القرآن يُقدِّم هذا النموذج كالآتي:
﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولࣲ وَلَا نَبِیٍّ إِلَّاۤ إِذَا تَمَنَّىٰۤ أَلۡقَى ٱلشَّیۡطَـٰنُ فِیۤ أُمۡنِیَّتِهِۦ فَیَنسَخُ ٱللَّهُ مَا یُلۡقِی ٱلشَّیۡطَـٰنُ ثُمَّ یُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَایَـٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ ﴿٥٢﴾ لِّیَجۡعَلَ مَا یُلۡقِی ٱلشَّیۡطَـٰنُ فِتۡنَةࣰ لِّلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ وَٱلۡقَاسِیَةِ قُلُوبُهُمۡۗ وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ لَفِی شِقَاقِۭ بَعِیدࣲ ﴿٥٣﴾ وَلِیَعۡلَمَ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَیُؤۡمِنُواْ بِهِۦ فَتُخۡبِتَ لَهُۥ قُلُوبُهُمۡۗ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهَادِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤاْ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ ﴿٥٤﴾ وَلَا یَزَالُ ٱلَّذِینَ كَفَرُواْ فِی مِرۡیَةࣲ مِّنۡهُ حَتَّىٰ تَأۡتِیَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةً أَوۡ یَأۡتِیَهُمۡ عَذَابُ یَوۡمٍ عَقِیمٍ﴾.
إنه يتكلم عن حالة متكررة، وصراع مستمر وله آثاره وانعكاساته، وهذا لا يمكن أن يكون بكلمةٍ ألقاها جانٌّ أو شيطان ليخلطها بقراءة النبيِّ، ثم يسمعها الناسُ على غير حقيقتها، هذا نوعٌ من العَبَث الذي لا يصحُّ تناوله عند تفسير القرآن العظيم، وكلام ربنا الكريم.
إنَّ الآيات تتحدَّث عن شُبهاتٍ تُثار حول القرآن الكريم، وتشغب على كثيرٍ من الناس ممن لم يتأصَّلوا تأصيلًا متينًا على منهجيَّة القرآن، وهذه الشُّبهات مُستمرة في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وكان القرآن أيام نزوله يتولَّى بنفسه دحضها وكشف زيفها، كما حصل في أكثر مِن مُجادلةٍ، وحوارات طويلة مع المشركين والكتابيين وغيرهم، وهذا هو معنى قوله:
﴿فَیَنسَخُ ٱللَّهُ مَا یُلۡقِی ٱلشَّیۡطَـٰنُ﴾.
والنسخ بهذا المعنى قائمٌ ولا يزال، وهو مسؤوليَّة العلماء الربانيين المتأصِّلِين بمنهجيَّة القرآن ومُحكماته، وبهذا تكون هذه الشبهات فتنةً للمنافقين والمتردِّدين وبعض الجاهلين، أما أهل العلم فلا تفتنهم هذه الشبهات
﴿وَلِیَعۡلَمَ ٱلَّذِینَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾ فهم علِموه بالعلم، وهذه ميزتهم.
هذه المعاني يشهد لها أيضًا قوله تعالى المتقدم والمتصل بهذه الآيات:
﴿وَٱلَّذِینَ سَعَوۡاْ فِیۤ ءَایَـٰتِنَا مُعَـٰجِزِینَ﴾ أي: يتسابقون في الطعن بها، وإثارة الشُّبُهات حولها، والله أعلم.