سورة المؤمنون تفسير مجالس النور الآية 110

فَٱتَّخَذۡتُمُوهُمۡ سِخۡرِیًّا حَتَّىٰۤ أَنسَوۡكُمۡ ذِكۡرِی وَكُنتُم مِّنۡهُمۡ تَضۡحَكُونَ ﴿١١٠﴾

تفسير مجالس النور سورة المؤمنون

المجلس الثاني والخمسون بعد المائة: عاقبة المكذِّبين


من الآية (99- 118)


في خِتام هذه السورة المباركة التي بدأت بصفات المؤمنين وأحوالهم، وما أعدَّه الله لهم، جاء الحديث عن المُكذِّبين، والعاقبة البئيسة التي تنتظرهم:
أولًا: يعرِض القرآن حالهم عند الموت، اللحظة التي ينطفِئ فيها كلُّ وهَج الحياة بآلامها وآمالها وحساباتها، ويكون المرء مجرَّدًا من كلِّ شيء أمام مصيره المحتوم، هناك تأكل هؤلاء المكذِّبين حسرات الندم ﴿حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ﴿٩٩﴾ لَعَلِّیۤ أَعۡمَلُ صَـٰلِحࣰا فِیمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّاۤۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَاۤىِٕلُهَاۖ وَمِن وَرَاۤىِٕهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ یَوۡمِ یُبۡعَثُونَ﴾.
ثانيًا: عند البعث والقيامة للحساب يُؤكِّد القرآن أنَّ الميزان هناك إنما هو العمل، فكلُّ نسَبٍ من دونه باطل، وكلُّ علاقة من غيره سراب ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِی ٱلصُّورِ فَلَاۤ أَنسَابَ بَیۡنَهُمۡ یَوۡمَىِٕذࣲ وَلَا یَتَسَاۤءَلُونَ ﴿١٠١﴾ فَمَن ثَقُلَتۡ مَوَ ٰ⁠زِینُهُۥ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ﴿١٠٢﴾ وَمَنۡ خَفَّتۡ مَوَ ٰ⁠زِینُهُۥ فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمۡ فِی جَهَنَّمَ خَـٰلِدُونَ﴾.
ثالثًا: وفق هذا الميزان الحقِّ ليس أمام هؤلاء المكذِّبين سوى العذاب الأليم ﴿تَلۡفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمۡ فِیهَا كَـٰلِحُونَ﴾ وليس أمامهم سوى الاعتراف والإقرار بذنبهم ﴿تَلۡفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمۡ فِیهَا كَـٰلِحُونَ ﴿١٠٥﴾ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتۡ عَلَیۡنَا شِقۡوَتُنَا وَكُنَّا قَوۡمࣰا ضَاۤلِّینَ﴾.
رابعًا: هناك لم يبق بأيديهم إلا التوسُّل لعلَّ الله يُخرِجهم منها ويعيدهم إلى هذه الدنيا مع العهد والميثاق أنْ لا يعودوا للكفر والتكذيب مرة أخرى، لكن الله يردُّ عليهم ويوبخهم، فقد أمضوا في هذه الحياة من الأيام والسنين ما يتذكَّر فيه من يتذكَّر، ويندم فيه من يندم، وقد جاءهم النذير تلو النذير، والآيات تلو الآيات ﴿رَبَّنَاۤ أَخۡرِجۡنَا مِنۡهَا فَإِنۡ عُدۡنَا فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ ﴿١٠٧﴾ رَبَّنَاۤ أَخۡرِجۡنَا مِنۡهَا فَإِنۡ عُدۡنَا فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ ﴿١٠٨﴾ إِنَّهُۥ كَانَ فَرِیقࣱ مِّنۡ عِبَادِی یَقُولُونَ رَبَّنَاۤ ءَامَنَّا فَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَا وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلرَّ ٰ⁠حِمِینَ ﴿١٠٩﴾ فَٱتَّخَذۡتُمُوهُمۡ سِخۡرِیًّا حَتَّىٰۤ أَنسَوۡكُمۡ ذِكۡرِی وَكُنتُم مِّنۡهُمۡ تَضۡحَكُونَ ﴿١١٠﴾ إِنِّی جَزَیۡتُهُمُ ٱلۡیَوۡمَ بِمَا صَبَرُوۤاْ أَنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡفَاۤىِٕزُونَ﴾.
نعم، فهؤلاء المؤمنون كانوا معكم، وهم حجة عليكم، ولكنكم كذَّبتُموهم وحاربتُموهم. تجدُرُ الإشارة هنا إلى أنَّ أساس الاختبار بين كلِّ الناس إنما كان الإيمان بالغيب، فلما رأى المكذِّبون الآخرة وما فيها لم يعُد هناك غَيب يُمتحنون فيه.
خامسًا: يقرر القرآن أخيرًا تلك الحقيقة الكبرى التي قامت عليها الحياة: ﴿أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ عَبَثࣰا وَأَنَّكُمۡ إِلَیۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ ﴿١١٥﴾ فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡحَقُّۖ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡكَرِیمِ﴾.


﴿فِیمَا تَرَكۡتُۚ ﯗ﴾ فيما ضيَّعتُ مِن العمر.
﴿كَلَّاۤۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ﴾ أطلَقَ الكلمة المفردة على مجموع كلامه، وهو شائعٌ في لغة العرب.
﴿هُوَ قَاۤىِٕلُهَاۖ﴾ قولٌ بلا حقيقة، ولا ينتج عنه واقع؛ لأنَّ الأمر بيد الله وحده.
﴿فَمَن ثَقُلَتۡ مَوَ ٰ⁠زِینُهُۥ﴾ بالأعمال الصالحة.
﴿ٱلَّذِینَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمۡ﴾ خسِرُوا إنسانيَّتهم وما منحهم الربُّ الجليل مِن عقولٍ ووسائل للفهم والتدبُّر، فآثروا الغفلة ولم يفكروا في هذا الذي ينتظرهم؛ فخسروا أنفسهم، وخسروا كلَّ شيءٍ، ﴿كَـٰلِحُونَ﴾ صورة ومعنى؛ صورة من أثر النار ودخانها، ومعنى مِن أثر الخزي والحسرة والندامة.
﴿غَلَبَتۡ عَلَیۡنَا شِقۡوَتُنَا﴾ الشقاء الذي صنعوه لأنفسهم بأيديهم، وما ربك بظلام للعبيد.
﴿فَٱتَّخَذۡتُمُوهُمۡ سِخۡرِیًّا﴾ من السخرية والاستهزاء، ﴿حَتَّىٰۤ أَنسَوۡكُمۡ ذِكۡرِی﴾ لانشغالكم بمعاندتهم ومحاربتهم والاستهزاء بهم، فلم تعطوا لأنفسكم الوقت للتفكير في حقيقة دينهم وما يدعونكم إليه، وهنا إشارة إلى سببٍ مِن أسباب الضلال؛ وهو تحويلُ النظر من الأفكار، ومناقشتها إلى النظر في الأشخاص؛ حيث تظهر حظوظ النفس في الغيرة والحسد، والخلافات الشخصية والمجتمعية، فيكون هذا حائلًا سميكًا دون النظر في جوهر الفكرة محل الخلاف.
﴿قَالُواْ لَبِثۡنَا یَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ یَوۡمࣲ﴾ أي: في الدنيا، وكأنَّهم نسوا ذلك العمر الطويل، وما كان لهم فيه مِن متاعٍ وعلاقاتٍ ومواقف، ﴿قَـٰلَ إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا قَلِیلࣰاۖ﴾ قياسًا على الحياة الأخرى وأبديَّتها التي لا تقف عند حدٍّ.
﴿وَمَن یَدۡعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ لَا بُرۡهَـٰنَ لَهُۥ بِهِۦ﴾ على سبيل التحقُّق لا على سبيل التحرُّز؛ إذ الإله الآخر وَهْمٌ لا يمكن أن يقترن ببرهان، ولا شبهة برهان.
﴿وَقُل رَّبِّ ٱغۡفِرۡ وَٱرۡحَمۡ وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلرَّ ٰ⁠حِمِینَ﴾ دعاء ودود وجميل، اللَّهم فاغفر لنا وارحمنا وأنت خيرُ الراحمين.