بعد ذِكرِ نماذج مِن أخبار الأنبياء السابقين، ذكَرَ القرآنُ هنا طرفًا مِن اختلاف أتباعِهم؛ تمهيدًا للحديثِ عن دعوةِ نبيِّنا الكريم عليه وعلى إخوانه النبيين أفضل الصلاة وأتم التسليم، ويتلخَّص في الآتي:
أولًا: شيوع الاختلاف بعد الأنبياء السابقين
﴿فَتَقَطَّعُوۤاْ أَمۡرَهُم بَیۡنَهُمۡ زُبُرࣰاۖ كُلُّ حِزۡبِۭ بِمَا لَدَیۡهِمۡ فَرِحُونَ﴾، فانقَسَمَت الملَّة الواحدة إلى طوائف، وكلّ طائفةٍ لديها كتاب زادَت فيه ونقصت منه، حتى لم يَعُد للملة الواحدة كتاب واحد، وكلّ طائفة تدَّعي أنَّ ما عندها هو الحقُّ، وما عند غيرها الباطل، هذا بالإضافة إلى الأُميِّين الذين لم ينزل عليهم كتاب فاجتاحتهم خرافات الوثنيَّة والجاهلية.
ثانيًا: يُصحِّحُ القرآن لهؤلاء ميزان الحقِّ والباطل، فيردُّ عليهم تصوُّرَهم الخاطئ
﴿أَیَحۡسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالࣲ وَبَنِینَ ﴿٥٥﴾ نُسَارِعُ لَهُمۡ فِی ٱلۡخَیۡرَ ٰتِۚ بَل لَّا یَشۡعُرُونَ﴾ فالمال والجاه والكثرة ليست هي المقياس، إنما المقياس الحق:
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ هُم مِّنۡ خَشۡیَةِ رَبِّهِم مُّشۡفِقُونَ ﴿٥٧﴾ وَٱلَّذِینَ هُم بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِمۡ یُؤۡمِنُونَ﴿٥٨﴾ وَٱلَّذِینَ هُم بِرَبِّهِمۡ لَا یُشۡرِكُونَ ﴿٥٩﴾ وَٱلَّذِینَ یُؤۡتُونَ مَاۤ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَ ٰجِعُونَ ﴿٦٠﴾ أُوْلَــٰۤىِٕكَ یُسَـٰرِعُونَ فِی ٱلۡخَیۡرَ ٰتِ وَهُمۡ لَهَا سَـٰبِقُونَ ﴿٦١﴾ وَلَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ وَلَدَیۡنَا كِتَـٰبࣱ یَنطِقُ بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ﴾.
إنها منظومة الإيمان والقِيَم الصحيحة والعمل الصالح، فهؤلاء هم المُقرَّبُون عند الله، المُسارعون في الخيرات، الذين تكدُّ أجسادهم في الطاعة، وقلوبهم مُتواضِعة ليِّنة، لا يرَون أنَّهم قدَّموا شيئًا.
ثالثًا: يُحذِّرُ الله أولئك المُترَفين أصحابَ المقاييس الفاسِدَة مِن الصدمة التي ستصدِمُهم وهم في حالٍ مِن الغفلة والضياع
﴿حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَخَذۡنَا مُتۡرَفِیهِم بِٱلۡعَذَابِ إِذَا هُمۡ یَجۡـَٔرُونَ ﴿٦٤﴾ لَا تَجۡـَٔرُواْ ٱلۡیَوۡمَۖ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ ﴿٦٥﴾ قَدۡ كَانَتۡ ءَایَـٰتِی تُتۡلَىٰ عَلَیۡكُمۡ فَكُنتُمۡ عَلَىٰۤ أَعۡقَـٰبِكُمۡ تَنكِصُونَ ﴿٦٦﴾ مُسۡتَكۡبِرِینَ بِهِۦ سَـٰمِرࣰا تَهۡجُرُونَ﴾.
رابعًا: ثم يأخذ القرآن ببيان إقامة الحُجَّة عليهم، وأنَّ اللهَ لم يترُكهم هَمَلًا
﴿أَفَلَمۡ یَدَّبَّرُواْ ٱلۡقَوۡلَ أَمۡ جَاۤءَهُم مَّا لَمۡ یَأۡتِ ءَابَاۤءَهُمُ ٱلۡأَوَّلِینَ ﴿٦٨﴾ أَفَلَمۡ یَدَّبَّرُواْ ٱلۡقَوۡلَ أَمۡ جَاۤءَهُم مَّا لَمۡ یَأۡتِ ءَابَاۤءَهُمُ ٱلۡأَوَّلِینَ ﴿٦٩﴾ أَمۡ یَقُولُونَ بِهِۦ جِنَّةُۢۚ بَلۡ جَاۤءَهُم بِٱلۡحَقِّ وَأَكۡثَرُهُمۡ لِلۡحَقِّ كَـٰرِهُونَ﴾ نعم، كان يكفيهم لو استمعوا لرسولهم
ﷺ، وتدبَّروا قوله وهم يعرفونه تمام المعرفة، يعرفون صدقه وأمانته وشرفه فيهم، ثم يلتفت الخطاب إلى النبيِّ
ﷺ فيُزكِّيه ويُزكِّي دعوته
﴿وَإِنَّكَ لَتَدۡعُوهُمۡ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ﴾.
خامسًا: يؤكِّدُ القرآن أنَّ الذي صدَّهم عن سماع الحقِّ وتدبُّره والقبول به ليس شُبهةً ذات قيمة، ولا فكرةً قابِلة للنقاش، وإنَّما هي كراهية الحقِّ؛ لأنَّه ثقيلٌ على الهوى
﴿بَلۡ جَاۤءَهُم بِٱلۡحَقِّ وَأَكۡثَرُهُمۡ لِلۡحَقِّ كَـٰرِهُونَ ﴿٧٠﴾ وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَاۤءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِیهِنَّۚ بَلۡ أَتَیۡنَـٰهُم بِذِكۡرِهِمۡ فَهُمۡ عَن ذِكۡرِهِم مُّعۡرِضُونَ ﴿٧١﴾ أَمۡ تَسۡـَٔلُهُمۡ خَرۡجࣰا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَیۡرࣱۖ وَهُوَ خَیۡرُ ٱلرَّ ٰزِقِینَ﴾.
سادسًا: يؤكِّدُ القرآن أيضًا أنَّ هؤلاء المُتكبِّرين المُعانِدين لن يرجِعُوا إلى الحقِّ حتى لو كُشِفَ عنهم الضرُّ
﴿۞ وَلَوۡ رَحِمۡنَـٰهُمۡ وَكَشَفۡنَا مَا بِهِم مِّن ضُرࣲّ لَّلَجُّواْ فِی طُغۡیَـٰنِهِمۡ یَعۡمَهُونَ ﴿٧٥﴾ وَلَقَدۡ أَخَذۡنَـٰهُم بِٱلۡعَذَابِ فَمَا ٱسۡتَكَانُواْ لِرَبِّهِمۡ وَمَا یَتَضَرَّعُونَ ﴿٧٦﴾ حَتَّىٰۤ إِذَا فَتَحۡنَا عَلَیۡهِم بَابࣰا ذَا عَذَابࣲ شَدِیدٍ إِذَا هُمۡ فِیهِ مُبۡلِسُونَ﴾ والشواهد على هذا كثيرة، وأوضحها ما ورَدَ في فرعون وقومه، والآيات الصاعقات التي تنزل عليهم ثم لا يرجعون ولا يهتدون.