تتِمَّة للموضوع السابق الذي تناول دعوة الرسول الخاتم
ﷺ وموقف المشركين منها، شرَعَ القرآن هنا بمناقشة هؤلاء المشركين، ولفت أنظارهم لآيات الله المبثوثة في هذا الكون؛ لعلهم يرجعون إلى رشدهم، ويتفكَّرون في حقيقة أنفسهم، ومُستقبل حياتهم:
أولًا: يدعوهم القرآن للتفكُّر في أنفسهم
﴿وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَنشَأَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَـٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِیلࣰا مَّا تَشۡكُرُونَ ﴿٧٨﴾ وَهُوَ ٱلَّذِی ذَرَأَكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَإِلَیۡهِ تُحۡشَرُونَ ﴿٧٩﴾ وَهُوَ ٱلَّذِی یُحۡیِۦ وَیُمِیتُ وَلَهُ ٱخۡتِلَـٰفُ ٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾.
إنه يُذكِّرهم بأدوات المعرفة التي وهَبَها الله لهم؛ السمع والبصر والعقل، فهذه كفيلة بالوصول إلى الحقِّ الذي نزل به الوحي، فإنَّ مُنزِّل الوحي هو نفسه خالق هذه الأدوات، يُذكِّرهم ببداية الخلق، وكيف أنشأهم الله مِن العدم ثم كثَّرهم ونشرهم في هذه الأرض، وخلق فيهم الموت والحياة يتجدَّدان كلَّ يوم؛ فوجٌ ذاهبٌ، وفوجٌ آتٍ، يُذكِّرهم بهذه الحقائق الكبرى لعلهم يخرجون من مألوف عاداتهم قليلًا، ليتفكروا فيما وراء كلِّ هذا.
ثانيًا: يذكر شُبهتهم المتكررة، والتي تلوكها ألسنتهم دون وعيٍ بتلك الحقائق، ولا بحركةِ الحياة مِن حولهم
﴿بَلۡ قَالُواْ مِثۡلَ مَا قَالَ ٱلۡأَوَّلُونَ ﴿٨١﴾ قَالُوۤاْ أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابࣰا وَعِظَـٰمًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ ﴿٨٢﴾ لَقَدۡ وُعِدۡنَا نَحۡنُ وَءَابَاۤؤُنَا هَـٰذَا مِن قَبۡلُ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّاۤ أَسَـٰطِیرُ ٱلۡأَوَّلِینَ﴾ وكأنَّ الذي خلَقَهم أول مرة، وذرَأَهم في هذه الأرض أجيالًا بعد أجيال يعجز - حاشاه - أن يُعيد خلقَهم كما بدأهم.
ثالثًا: راح القرآن يُحفِّز عقولَهم بالأسئلة التي لا يملِك العقل أمامها غير التسليم
﴿قُل لِّمَنِ ٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِیهَاۤ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ﴿٨٤﴾ سَیَقُولُونَ لِلَّهِۚ قُلۡ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿٨٥﴾ قُلۡ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ ٱلسَّبۡعِ وَرَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِیمِ ﴿٨٦﴾ سَیَقُولُونَ لِلَّهِۚ قُلۡ أَفَلَا تَـتَّـقُونَ ﴿٨٧﴾ قُلۡ مَنۢ بِیَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَیۡءࣲ وَهُوَ یُجِیرُ وَلَا یُجَارُ عَلَیۡهِ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ﴿٨٨﴾ سَیَقُولُونَ لِلَّهِۚ قُلۡ فَأَنَّىٰ تُسۡحَرُونَ﴾.
فالمُشرك مهما عبَدَ مِن أحجارٍ وأشجارٍ لا يستطيع أن يُسلِّم لها بكلِّ شيء، ولا يستطيع أنْ يدَّعي في هذه الجمادات المصنوعة أنَّها هي التي تملِك السماوات والأرض، وهي التي تُسيِّر هذا الكون على هذا النظام الدقيق.
مِن هنا يريد القرآن أن يأخذهم ليَبنُوا على هذه المُسلَّمَات، ولكنهم ينكسون عنادًا وإيثارًا لما عندهم مِن سلطةٍ ومتاعٍ؛ ولذلك يصفهم بالكذب
﴿بَلۡ أَتَیۡنَـٰهُم بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ﴾ كاذبون؛ لأنهم لا يُناقِشُون عن رأيٍ وشبهةٍ، ولا يبحثون عن الصواب، بل يُمارون ويُسوِّفون ويُراوِغون، وهم بذلك إنَّما يكذبون على أنفسهم ويضلُّونها، ويوردونها موارد الهلاك.
رابعًا: يذكُرُ القرآن أنواعًا مِن شِركهم التي لا تتفق مع تلك المسلَّمات التي أقرُّوا بها
﴿مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدࣲ وَمَا كَانَ مَعَهُۥ مِنۡ إِلَـٰهٍۚ إِذࣰا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهِۭ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲۚ سُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا یَصِفُونَ ﴿٩١﴾ عَـٰلِمِ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ فَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾ وهذا ردٌّ لكلامهم على أوله، كأنَّه يقول لهم: إذا كان الله هو ربَّ الأرض ومَن فيها، وربَّ السماوات السبع والعرش العظيم، وهو الذي يُسيِّر كلَّ هذا الكون، فما موقع الشريك، سواء كان ابنًا له، أو وثَنًا يُعبد معه؟ تبارك الله وتعالى عن قولهم علوًّا كبيرًا.
خامسًا: يُوصِي الله ـ نبيَّه الكريم
ﷺ وكلَّ داعيةٍ مِن بعده بالحلم عليهم، وأن يدفع إساءَتهم بالخُلُق الأنبل والأحسن، مع تحقق التمايز عنهم بالعقيدة الصافية، والموقف الواضح الذي لا شُبهة فيه ولا غُموض
﴿قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِیَنِّی مَا یُوعَدُونَ ﴿٩٣﴾ رَبِّ فَلَا تَجۡعَلۡنِی فِی ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِینَ ﴿٩٤﴾ وَإِنَّا عَلَىٰۤ أَن نُّرِیَكَ مَا نَعِدُهُمۡ لَقَـٰدِرُونَ ﴿٩٥﴾ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ ٱلسَّیِّئَةَۚ نَحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا یَصِفُونَ ﴿٩٦﴾ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنۡ هَمَزَ ٰتِ ٱلشَّیَـٰطِینِ ﴿٩٧﴾ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن یَحۡضُرُونِ﴾.