هذا من أوعاده الصادقةِ التي شوهِدَ تأويلُها ومَخْبَرُها؛ فإنَّه وعد مَنْ قام بالإيمان والعمل الصالح من هذه الأمة أن يَسْتَخْلِفَهم في الأرض، يكونونَ هم الخلفاءَ فيها، المتصرفين في تدبيرها، وأنه يمكِّن {لهم دينَهُمُ الذي ارتضى لهم}، وهو دينُ الإسلام الذي فاقَ الأديانَ كلَّها، ارتضاه لهذه الأمة لفضلِها وشرفِها ونعمتِهِ عليها بأن يتمكَّنوا من إقامتِهِ وإقامةِ شرائعِهِ الظاهرةِ والباطنةِ في أنفسهم وفي غيرِهم؛ لكونِ غيرِهم من أهل الأديان وسائرِ الكفَّار مغلوبينَ ذليلينَ، وأنَّه يبدِّلُهم [أمناً] {من بعدِ خوفِهم}؛ الذي كان الواحد منهم لا يتمكَّنُ من إظهار دينِهِ وما هو عليه إلاَّ بأذى كثيرٍ من الكفار، وكون جماعة المسلمين قليلينَ جدًّا بالنسبة إلى غيرهم، وقد رماهُم أهلُ الأرض عن قوسٍ واحدةٍ، وبَغَوْا لهم الغوائلَ، فوعَدَهم الله هذه الأمورَ وقت نزول الآية، وهي لم تشاهد الاستخلافَ في الأرض والتمكينَ فيها والتمكينَ من إقامةِ الدين الإسلاميِّ والأمنَ التامَّ بحيثُ يعبُدون الله ولا يشرِكون به شيئاً ولا يخافون أحداً إلاَّ الله، فقام صدرُ هذه الأمة من الإيمان والعمل الصالح بما يفوقُ على غيرهم، فمكَّنهم من البلاد والعباد، وفُتِحَتْ مشارقُ الأرض ومغاربُها، وحصل الأمنُ التامُّ والتمكين التامُّ؛ فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة، ولا يزالُ الأمر إلى قيام الساعة، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح؛ فلا بدَّ أن يوجَدَ ما وَعَدَهُم الله، وإنَّما يسلِّطُ عليهم الكفار والمنافقين ويُديلُهم في بعض الأحيان بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح. {ومَن كَفَرَ بعد ذلك}: التمكين والسلطنة التامَّة لكم يا معشرَ المسلمينَ، {فأولئك هم الفاسقون}: الذين خرجوا عن طاعة الله وفسدوا، فلم يصلحوا لصالح، ولم يكنْ فيهم أهليَّةٌ للخير؛ لأنَّ الذي يَتْرُكُ الإيمانَ في حال عزِّه وقهرِهِ وعدم وجودِ الأسباب المانعة منه يدلُّ على فساد نيَّته وخُبث طويَّته؛ لأنَّه لا داعي له لترك الدين إلاَّ ذلك. ودلت هذه الآية أنَّ الله قد مكَّن مَنْ قبلَنا واستخلَفَهم في الأرض؛ كما قال موسى لقومه: {ويَسْتَخْلِفكُم في الأرْضِ فَيَنْظُرَ كيف تعملونَ}، وقال تعالى: {ونريدُ أن نَمُنَّ على الذين استُضْعِفوا في الأرض [ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين] ونمكِّنَ لهم في الأرض}.