في خِتام هذه ال
سورة النورانيَّة تأتي التوجيهات الربَّانيَّة المناسبة لمحاور السورة ولموضوعها الاجتماعي الأساس؛ لتصوغ منظومةً من الآداب التي تحافظ على خصوصية هذا المجتمع، وتصُون وحدته ونسيجَه الداخلي، وعلاقاته المختلفة، وتُجيب على بعض التساؤلات التفصيليَّة ذات الصلة:
أولًا: في ضبط تحرُّك العائلة الواحدة ومن يسكن معها داخل البيت؛ مِن خَوَلٍ وخَدَمٍ، وإمكانيَّة اطِّلاع بعضهم على بعض، يُشرِّع القرآن ثلاثةَ أوقات للاستئذان:
﴿یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ لِیَسۡتَـٔۡذِنكُمُ ٱلَّذِینَ مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡ وَٱلَّذِینَ لَمۡ یَبۡلُغُواْ ٱلۡحُلُمَ مِنكُمۡ ثَلَـٰثَ مَرَّ ٰتࣲۚ مِّن قَبۡلِ صَلَوٰةِ ٱلۡفَجۡرِ وَحِینَ تَضَعُونَ ثِیَابَكُم مِّنَ ٱلظَّهِیرَةِ وَمِنۢ بَعۡدِ صَلَوٰةِ ٱلۡعِشَاۤءِۚ ثَلَـٰثُ عَوۡرَ ٰتࣲ لَّكُمۡۚ لَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ وَلَا عَلَیۡهِمۡ جُنَاحُۢ بَعۡدَهُنَّۚ طَوَّ ٰفُونَ عَلَیۡكُم بَعۡضُكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲۚ كَذَ ٰلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡـَٔایَـٰتِۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ﴾.
ومعلومٌ أن هذه هي أوقات الراحة، وما عداها أوقات عمل وحركة، وفي وقت الراحة يخلُدُ الناسُ إلى خلَوَاتهم وحجراتهم الخاصة، وقد يتخفَّفُون مِن ثيابهم، وقد يكون معهم في ذلك أزواجهم، لكلِّ ذلك وجب الاستئذان بالنسبة للخَوَلِ والخَدَمِ، وكذلك الأولاد المُميِّزون الذين لم يبلُغوا الحُلُم في هذه الأوقات الثلاث، فإن بلَغُوا الحُلُم وجب عليهم الاستئذان فيها وفي غيرها
﴿وَإِذَا بَلَغَ ٱلۡأَطۡفَـٰلُ مِنكُمُ ٱلۡحُلُمَ فَلۡیَسۡتَـٔۡذِنُواْ كَمَا ٱسۡتَـٔۡذَنَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَذَ ٰلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَایَـٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ﴾.
ثانيًا: استثنى من الحكم السابق المرأة الكبيرة التي لا ترجو نكاحًا، ولا تتشوَّف للزواج، وقد قعَدَت عن الحيض والحَبَل، فلها أن تضع عنها مِن ثيابها مِن غير تبرُّجٍ ولا تزيُّنٍ
﴿وَٱلۡقَوَ ٰعِدُ مِنَ ٱلنِّسَاۤءِ ٱلَّـٰتِی لَا یَرۡجُونَ نِكَاحࣰا فَلَیۡسَ عَلَیۡهِنَّ جُنَاحٌ أَن یَضَعۡنَ ثِیَابَهُنَّ غَیۡرَ مُتَبَرِّجَـٰتِۭ بِزِینَةࣲۖ﴾، ثم رغَّبَها بالاستعفاف والاحتياط في ذلك
﴿وَأَن یَسۡتَعۡفِفۡنَ خَیۡرࣱ لَّهُنَّۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ﴾.
ثالثًا: في ضبط الأكل والشرب داخل البيت، وفي بيوت الأرحام والأقرباء والأصدقاء يقول القرآن:
﴿لَّیۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجࣱ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجࣱ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِیضِ حَرَجࣱ وَلَا عَلَىٰۤ أَنفُسِكُمۡ أَن تَأۡكُلُواْ مِنۢ بُیُوتِكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ ءَابَاۤىِٕكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ أُمَّهَـٰتِكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ إِخۡوَ ٰنِكُمۡ﴾.
ففي هذه الآية يُعدِّدُ القرآنُ قائمةً بالذين يجوز للشخص أن يأكل مِن طعامهم دون إذنٍ منهم، بل يكتفي بما هو معروف ومعهود في مثل هذه القرابات والعلاقات، بل ربما يكون طلب الإذن مُستغربًا ومُستهجنًا، وهو من التنطُّع والتكلُّف في دين الله.
وقد أشكل على بعض المفسرين علاقة هذا الموضوع بصدر الآية، والظاهرُ أنَّ الحديث عن الأعمى والأعرج والمريض في رفع الحرج عنهم جاء بمثابة المقدِّمة والتمهيد، كأنَّه يقول: إنَّ طبيعة هذا الدين هي رفعُ الحرج، والبُعد عن التنطُّع والتكلُّف، وكلّ ما يؤدِّي إلى المشقة، فكما أنَّ الله رفعَ الحرجَ عن أصحاب الأعذار في كلِّ ما يشُقُّ عليهم مِن جهادٍ وغيره، فكذلك رفع الحرج في هذه العلاقات؛ لأن طلبَ الإذن في كلِّ مرَّة مبعث على الضيق وتقييد الصلات التي أمر الله أن تتوسَّع وتتوثَّق؛ ليكون رفع الحرج قاعدة عامة تندرج تحتها مسائل كثيرة.
وفي هذا تربية أصوليَّة قياسيَّة مقاصديَّة للعقل المسلم، والله أعلم.
ثم أكَّد هذا المبدأ العام في مسألة تفصيليَّة:
﴿لَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَأۡكُلُواْ جَمِیعًا أَوۡ أَشۡتَاتࣰاۚ﴾، فلكلِّ حالة ما يناسبها بلا تشديد ولا تضييق، وبحسب حال الناس والظرف الذي يمرون به.
رابعًا: في التحيَّة التي هي السلام، وديننا كلُّه هو دين السلام
﴿فَإِذَا دَخَلۡتُم بُیُوتࣰا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰۤ أَنفُسِكُمۡ تَحِیَّةࣰ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَـٰرَكَةࣰ طَیِّبَةࣰۚ﴾ والآيةُ ليس فيها تقييد، فمَن دخَلَ بيتًا ووجَدَ فيه أهله فليسلِّم عليهم، وإذا لم يجِد فيه أحدًا فليسلِّم على نفسه، كما جاء في التشهد: «السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِيْنَ».
وسلامُ المؤمنين على أنفسهم يحتمل هذا وهذا معًا، وفيه شعورٌ ودودٌ بالأخوَّة الحميمة التي تتسامى حتى تكون كالجسد الواحد، والنفس الواحدة.
خامسًا: في آداب الانصراف، لاسيَّما في اللقاءات التي تهم الشأن العام؛ حيث يتأكد الالتزام بضوابط اللقاء ووقته ونهايته، فإذا كان ذلك في عهد رسول الله
ﷺ، فسيكون الالتزام مع ما فيه من خُلُقٍ رفيعٍ علامةً على الإيمان الصادق، وحسن الأدب مع مقام النبوَّة
﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُۥ عَلَىٰۤ أَمۡرࣲ جَامِعࣲ لَّمۡ یَذۡهَبُواْ حَتَّىٰ یَسۡتَـٔۡذِنُوهُۚ إِنَّ ٱلَّذِینَ یَسۡتَـٔۡذِنُونَكَ أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ فَإِذَا ٱسۡتَـٔۡذَنُوكَ لِبَعۡضِ شَأۡنِهِمۡ فَأۡذَن لِّمَن شِئۡتَ مِنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمُ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ ﴿٦٢﴾ لَّا تَجۡعَلُواْ دُعَاۤءَ ٱلرَّسُولِ بَیۡنَكُمۡ كَدُعَاۤءِ بَعۡضِكُم بَعۡضࣰاۚ قَدۡ یَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ یَتَسَلَّلُونَ مِنكُمۡ لِوَاذࣰاۚ فَلۡیَحۡذَرِ ٱلَّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦۤ أَن تُصِیبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ یُصِیبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمٌ﴾.
سادسًا: ذكَّر القرآن بعد كلِّ هذه التوجيهات والتشريعات بالأصل الذي يدفع المسلم للالتزام والانضباط، وتنمية الرقابة الذاتية في ضميره ووجدانه
﴿أَلَاۤ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قَدۡ یَعۡلَمُ مَاۤ أَنتُمۡ عَلَیۡهِ وَیَوۡمَ یُرۡجَعُونَ إِلَیۡهِ فَیُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمُۢ﴾.
اللهم فأحسِن رجوعَنا إليك، وارزُقنا حُسنَ الأدب معك ومع نبيِّك وعبادك المؤمنين وكافَّة خلقك.