فلذلك ردَّ عليهم ذلك بقوله: {قُلْ أنزَلَه الذي يعلم السرَّ في السمواتِ والأرضِ}؛ أي: أنزله مَنْ أحاط علمهُ بما في السماواتِ وما في الأرض من الغيب والشهادة والجهر والسرِّ؛ كقوله: {وإنَّه لَتنزيلُ ربِّ العالمينَ. نَزَلَ به الرُّوحُ الأمينُ. على قَلْبِكَ لتكونَ من المنذِرين}. ووجهُ إقامة الحجة عليهم أنَّ الذي أنزله هو المحيطُ علمُه بكلِّ شيء، فيستحيلُ ويمتنعُ أن يقولَ مخلوقٌ ويتقوَّل عليه هذا القرآن، ويقولَ: هو من عند الله، وما هو من عندِهِ، ويستحلُّ دماء مَنْ خالفَه وأموالَهم، ويزعمُ أنَّ الله قال له ذلك، والله يعلمُ كلَّ شيء، ومع ذلك؛ فهو يؤيِّده وينصرُهُ على أعدائه ويمكِّنُه من رقابهم وبلادهم؛ فلا يمكن أحداً أنْ يُنْكِرَ هذا القرآن إلاَّ بعد إنكارِ علم الله، وهذا لا يقول به طائفةٌ من بني آدم سوى الفلاسفة الدُّهرية. وأيضاً: فإنَّ ذكر علمِهِ تعالى العام ينبِّههم ويحضُّهم على تدبُّر القرآن، وأنَّهم لو تدبَّروا؛ لرأوا فيه من علمِهِ وأحكامِهِ ما يدلُّ دلالةً قاطعةً على أنَّه لا يكون إلا من عالم الغيب والشهادة. ومع إنكارهم للتوحيد والرسالة؛ من لطفِ الله بهم أنَّه لم يَدَعْهُم وظُلْمَهم، بل دعاهم إلى التوبة والإنابة إليه، ووعدهم بالمغفرة والرحمة إنْ هم تابوا ورجعوا، فقال: {إنَّه كان غَفوراً}؛ أي: وصفُه المغفرةُ لأهل الجرائم والذُّنوب إذا فعلوا أسباب المغفرةِ، وهي الرجوع عن معاصيه والتوبة منها. {رحيماً}: بهم؛ حيثُ لم يعاجِلْهم بالعقوبة وقد فعلوا مقتضاها وحيث قبِلَ توبتَهم بعد المعاصي، وحيث محا ما سلف من سيئاتهم، وحيث قبل حسناتِهم، وحيث أعاد الراجع إليه بعد شروده والمقبل عليه بعد إعراضه إلى حالة المطيعين المنيبين إليه.