سورة الفرقان تفسير مجالس النور الآية 61

تَبَارَكَ ٱلَّذِی جَعَلَ فِی ٱلسَّمَاۤءِ بُرُوجࣰا وَجَعَلَ فِیهَا سِرَ ٰ⁠جࣰا وَقَمَرࣰا مُّنِیرࣰا ﴿٦١﴾

تفسير مجالس النور سورة الفرقان

المجلس الثامن والخمسون بعد المائة: دلائل الهدى المبثوثة في هذا الكون


من الآية (45- 62)


بعد التفصيل الذي قرأناه في المجلس السابق لأسباب الغواية والضلال، شَرَعَ القرآن في هذه الآيات بتعداد آلاء الله ونعمائه وآياته المبثوثة في هذا الكون، والتي يتعامل معها الإنسان بشكلٍ يوميٍّ حتى أصبحت جُزءًا من حياته، وكلُّها شاهِدة على وحدانيَّته سبحانه، وهادية إلى طريق الحقِّ والسعادة الأبديَّة:
أولًا: يُذكِّرُ القرآن بحركة الظِّلِّ التي يعيش معها الإنسان في كلِّ نهار، ظِل الأشجار والجبال والبيوت، وظِل الإنسان نفسه وهو واقفٌ أو جالسٌ أو ماشٍ، والذي يستجيب لحركة الشمس طولًا وقصرًا.
وهذا التذكير نوعٌ مِن تدريب العقل على التفكير في كلِّ ما حوله، ومحاولة تحليل الظواهر وتفسيرها مهما كانت مألوفة ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَیۡفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوۡ شَاۤءَ لَجَعَلَهُۥ سَاكِنࣰا ثُمَّ جَعَلۡنَا ٱلشَّمۡسَ عَلَیۡهِ دَلِیلࣰا ﴿٤٥﴾ ثُمَّ قَبَضۡنَـٰهُ إِلَیۡنَا قَبۡضࣰا یَسِیرࣰا﴾.
ثانيًا: واستتباعًا لحركة الظِّل يُذكِّرُ القرآن بتقسيم اليوم إلى ليلٍ ونهارٍ، ولكلٍّ وظيفته ودوره في هذه الحياة، فالليل خيمةُ السكن والراحة، والنهار وقتُ الانتِشار والحركة والعمل ﴿وَهُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّیۡلَ لِبَاسࣰا وَٱلنَّوۡمَ سُبَاتࣰا وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُورࣰا﴾.
ثالثًا:ينتقل القرآن مِن حركة الظِّل إلى حركة الرياح وما تحمله مِن سحابٍ ورزقٍ للعباد ﴿وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ ٱلرِّیَـٰحَ بُشۡرَۢا بَیۡنَ یَدَیۡ رَحۡمَتِهِۦۚ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ طَهُورࣰا ﴿٤٨﴾ وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ ٱلرِّیَـٰحَ بُشۡرَۢا بَیۡنَ یَدَیۡ رَحۡمَتِهِۦۚ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ طَهُورࣰا ﴿٤٩﴾ وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَـٰهُ بَیۡنَهُمۡ لِیَذَّكَّرُواْ فَأَبَىٰۤ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورࣰا﴾.
رابعًا: ثم راحَ القرآن يلفِتُ أنظارَنا إلى عالم البحار وما فيه مِن خبايا وأسرارٍ، ونِعَمٍ ودلائل ﴿۞ وَهُوَ ٱلَّذِی مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَیۡنِ هَـٰذَا عَذۡبࣱ فُرَاتࣱ وَهَـٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجࣱ وَجَعَلَ بَیۡنَهُمَا بَرۡزَخࣰا وَحِجۡرࣰا مَّحۡجُورࣰا﴾.
خامسًا: ثم عاد القرآن ليُذكِّر بخَلق الإنسان نفسه، إنَّه مخلُوقٌ مِن ماء، فالماء سِرُّ هذه الحياة، يُكوِّن البحارَ والأمطارَ، ويُحيِي الأرضَ بالنبات والأشجار والثمار، وينبت منه الإنسان في نظامٍ موحَّدٍ ومُتناسقٍ لا يقدر عليه إلا الذي أبدعَه وكوَّنَه ﴿وَهُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ مِنَ ٱلۡمَاۤءِ بَشَرࣰا فَجَعَلَهُۥ نَسَبࣰا وَصِهۡرࣰاۗ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِیرࣰا﴾.
سادسًا: ثم ذكَّر بأصلِ الخلق كلِّه، خلق السماوات والأرض وما بينهما ﴿ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَا فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ ٱلرَّحۡمَـٰنُ فَسۡـَٔلۡ بِهِۦ خَبِیرࣰا﴾.
سابعًا: ثم رفع بنظر الإنسان لينظر في سقف هذا الكون وما فيه من آياتٍ ودلائل باهرات ﴿تَبَارَكَ ٱلَّذِی جَعَلَ فِی ٱلسَّمَاۤءِ بُرُوجࣰا وَجَعَلَ فِیهَا سِرَ ٰ⁠جࣰا وَقَمَرࣰا مُّنِیرࣰا ﴿٦١﴾ وَهُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَ خِلۡفَةࣰ لِّمَنۡ أَرَادَ أَن یَذَّكَّرَ أَوۡ أَرَادَ شُكُورࣰا﴾.
ويلحظ هنا كيف ختم الله هذه الآيات بما بدأ به؛ فذكَّر مرةً أخرى بحركة الليل والنهار وتعاقبهما، وكأنَّه يُشير إلى هذا النظام الموحَّد، والنسق الكلي الذي يحكُمُ حركةَ هذا الكون.
وفي ثنايا هذه الدلائل يُؤكِّد القرآن المعنى الكلِّيَّ الذي تقود إليه هذه الدلائل ﴿وَیَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَنفَعُهُمۡ وَلَا یَضُرُّهُمۡۗ وَكَانَ ٱلۡكَافِرُ عَلَىٰ رَبِّهِۦ ظَهِیرࣰا ﴿٥٥﴾ وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا مُبَشِّرࣰا وَنَذِیرࣰا ﴿٥٦﴾ قُلۡ مَاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ مِنۡ أَجۡرٍ إِلَّا مَن شَاۤءَ أَن یَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِیلࣰا ﴿٥٧﴾ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱلۡحَیِّ ٱلَّذِی لَا یَمُوتُ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِهِۦۚ وَكَفَىٰ بِهِۦ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِیرًا﴾، ﴿وَإِذَا قِیلَ لَهُمُ ٱسۡجُدُواْ لِلرَّحۡمَـٰنِ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحۡمَـٰنُ أَنَسۡجُدُ لِمَا تَأۡمُرُنَا وَزَادَهُمۡ نُفُورࣰا ۩﴾ مُنبِّهًا المؤمنين أيضًا في شخص النبيِّ الكريم بواجب الثبات على الحقِّ وتبليغه والدفاع عنه، مهما كلَّف مِن جهدٍ وجهاد وتضحيات ﴿وَلَوۡ شِئۡنَا لَبَعَثۡنَا فِی كُلِّ قَرۡیَةࣲ نَّذِیرࣰا ﴿٥١﴾ فَلَا تُطِعِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ وَجَـٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادࣰا كَبِیرࣰا﴾.


﴿مَدَّ ٱلظِّلَّ﴾ بسطه بالتدريج تبعًا لحركة الشمس.
﴿ثُمَّ قَبَضۡنَـٰهُ إِلَیۡنَا قَبۡضࣰا یَسِیرࣰا﴾ والقبض ضدُّ البسط، وقبض الظلِّ: انحساره بظهور الشمس وعلوِّها.
﴿وَهُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّیۡلَ لِبَاسࣰا﴾ يغشاكم ويعمُّكم بستره.
﴿وَٱلنَّوۡمَ سُبَاتࣰا﴾ سكنًا وراحةً لكم.
﴿وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُورࣰا﴾ ينتشر الناس فيه للحركة والعمل.
﴿وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ ٱلرِّیَـٰحَ بُشۡرَۢا بَیۡنَ یَدَیۡ رَحۡمَتِهِۦۚ﴾ يستبشر بهبوبها الناس؛ لما تحمله من خيرٍ ومطرٍ.
﴿مَاۤءࣰ طَهُورࣰا﴾ طاهرًا في نفسه مُطهِّرًا لغيره.
﴿لِّنُحۡـِۧیَ بِهِۦ بَلۡدَةࣰ مَّیۡتࣰا﴾ شبَّه القفر بالموت والزرع بالحياة.
﴿وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَـٰهُ بَیۡنَهُمۡ لِیَذَّكَّرُواْ﴾ أي: ماء السماء فسُقناه إلى بلادٍ مختلفة؛ ليروا آثاره في الحياة، وفي الآية تنبيه أيضًا للهدي النازل من السماء، وما فيه مِن حياةٍ للقلوب، والآيات التالية تؤكِّد هذا المعنى.
﴿وَلَوۡ شِئۡنَا لَبَعَثۡنَا فِی كُلِّ قَرۡیَةࣲ نَّذِیرࣰا﴾ لكنَّ الله خصَّ نبيَّه الخاتم بهذه الدعوة العامة لكافة الخلق؛ تعظيمًا لشأنه ولشأن الرسالة التي يحملها، ولينتظم هذا الخلق في شريعةٍ واحدةٍ، وخلْف قُدوةٍ واحدةٍ.
﴿وَجَـٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادࣰا كَبِیرࣰا﴾ جاهِدْهُم بالقرآن تذكيرًا وتحذيرًا، وترغيبًا وترهيبًا، حاوِرْهُم بحقائقه، وأقِم عليهم الحجة بأدلته، ولا تأْلُ جهدًا في كلِّ ذلك، وهذا الخطاب له ولأمته معه ومن بعده في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.
﴿مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَیۡنِ﴾ خلطهما، وهذا مشاهد بتدفُّق الأنهار العذبة في البحار المالحة، دون أن تتغير الأنهار ولا البحار، كما سيأتي.
﴿عَذۡبࣱ فُرَاتࣱ﴾ الفرات العذب، وأفاد هنا التأكيد، بمعنى أنَّه شديد العذوبة.
﴿مِلۡحٌ أُجَاجࣱ﴾ والأجاج المالح، وأفاد هنا التأكيد، بمعنى أنَّه شديد الملوحة.
﴿وَجَعَلَ بَیۡنَهُمَا بَرۡزَخࣰا وَحِجۡرࣰا مَّحۡجُورࣰا﴾ أي: حاجزًا، فلا يطغَى المالح على العَذْب فيفسده، ولا العَذْب على المالح فيذهب به؛ لأن لكلٍّ منهما وظيفته، فالأنهار العذبة وظيفتها: السقي والريّ، والأنهار المالحة وظيفتها: حفظ الحياة البحرية من التعفُّن والتغيُّر الضار.
أما تفسير العذب بوجود مياه عذبة وسط البحار المالحة فلا مانع منه، لكن ليس هذا هو المعهود والمعروف بين الناس، ثم إنَّ هذه المياه ليست هي التي تُستعمل في السقي، ولا ينتفع منها عامة الناس، ومساق الآيات مساق عظةٍ وامتنان.
وأما إطلاق البحر على النهر العظيم؛ كالنيل في مصر، والرافدين الكبيرين في العراق، فهو أمرٌ شائعٌ ومعروفٌ في لغة العرب، والله أعلم.
﴿فَجَعَلَهُۥ نَسَبࣰا وَصِهۡرࣰاۗ﴾ جعل مِن هذه النُّطَف بشرًا كثيرًا لهم أنساب وسلالات وقرابات وعلاقات ومصاهرات.
﴿وَكَانَ ٱلۡكَافِرُ عَلَىٰ رَبِّهِۦ ظَهِیرࣰا﴾ أي: مُعاديًا لله محاربًا لدينه، ومعاونًا للشيطان في كلِّ ذلك.
﴿قُلۡ مَاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ مِنۡ أَجۡرٍ﴾ فالدعوة لله، وأجرها من الله، وفي هذا تأكيد للنزاهة، ونظافة اليد لكلِّ من يتصدّى لمهمة التبليغ والدعوة إلى الله.
﴿إِلَّا مَن شَاۤءَ أَن یَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِیلࣰا﴾ استثناءٌ منقطعٌ، بمعنى: أنِّي لا أطلب منكم أجرًا سوى هدايتكم إلى طريق الله.
﴿وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱلۡحَیِّ ٱلَّذِی لَا یَمُوتُ﴾ فكلُّ ميتٍ أو مُعرَّضٍ للموت لا يصح التوكل عليه، فالذي لا يحمي نفسَه من الموت كيف يحمي غيره! وهذا تنبيهٌ نفيسٌ لخصائص التوحيد الحقِّ، ومجادلةٌ ضمنيَّةٌ للمشركين الذين يرجون من المخلوق ما لا يملكه ولا يقدر عليه.
﴿فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ﴾هي ليست مِن أيامنا؛ لأن يومَنا هو حصيلةُ دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس، ولكلِّ كوكب يومه، فكيف باليوم الذي كان قبل خلقِ السماوات والأرض؟ فذلك لا يعلَمُه إلا الله، والمقصود بالإخبار عن تلك الأيام إنما هو التقديرُ على مراحل، كما هي سنَّةُ الخلق كله.
﴿ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ﴾ استِواءٌ يَلِيقُ به سبحانه، ومن لوازِمه العلوُّ المطلق، والمُلك والسلطان، وكلُّ صِفات الكمال الثابتة له سبحانه.
﴿ٱلرَّحۡمَـٰنُ فَسۡـَٔلۡ بِهِۦ خَبِیرࣰا﴾ وليس هناك مِن خبيرٍ بالرحمن وأسمائه وصفاته كالرحمن نفسه - تبارك وتعالى علوًّا كبيرًا -، كأنَّه يقول: لا تَسَلْ غيري عنِّي، فأنا العليم الذي ليس فوقي عليم، وأنا الخبير الذي ليس بعدي خبير.
﴿قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحۡمَـٰنُ﴾ هذا قولُ المُشركين الذين يُنكِرون هذا الاسمَ العظيم لله، وكأنَّهم يتَّهِمُون النبيَّ باختلاقه وإضافته إلى الله، بدلالة قولهم: ﴿أَنَسۡجُدُ لِمَا تَأۡمُرُنَا وَزَادَهُمۡ نُفُورࣰا ۩﴾.
﴿بُرُوجࣰا﴾المنازل والطرق التي تدور فيها الأفلاك.
﴿وَجَعَلَ فِیهَا سِرَ ٰ⁠جࣰا﴾ يعني: الشمس، وفيه إشارةٌ أنَّ الشمسَ ضوءها ذاتي كالسراج، بخلاف القمر.
﴿وَهُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَ خِلۡفَةࣰ﴾ يخلف أحدُهما الآخر، في دورة فلكيَّة يوميَّة، كما هو مُشاهدٌ ومحسوسٌ.
﴿لِّمَنۡ أَرَادَ أَن یَذَّكَّرَ أَوۡ أَرَادَ شُكُورࣰا﴾ فهذه كلُّها دلائِلُ تستلزِم التذكُّر والتفكُّر، ونِعَم تستَدعِي الاعتِراف والشكر.