في خِتام هذه السورة المباركة وبسياقٍ مُتَّصل يُقدِّم القرآن صورةً للمُجتمع الفاضل الذي اختار الحقَّ وتمسَّك به، ذلك المجتمع الفريد الموصُول بالله، والذي ظهَرَت عليه رغم بشريَّته الضاغطة كلُّ الصفات المُتَّصلة بتلك الحقائق الكبرى التي ميَّزَت طريقَ الحقِّ عن طريق الباطل، وقد أضافَهم الله إلى نفسه فسمَّاهم عبادَ الرحمن، تودُّدًا وتقرُّبًا، وهو الودود والقريب سبحانه، وهذه الصفات هي:
أولًا: اللِّين والطمأنينة والسَّكِينة مع المجتمع الذي يعيشون فيه، والأرض التي يمشون عليها ﴿وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلَّذِینَ یَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنࣰا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَـٰمࣰا﴾.
ثانيًا: العبادة الخالِصة لله ﴿وَٱلَّذِینَ یَبِیتُونَ لِرَبِّهِمۡ سُجَّدࣰا وَقِیَـٰمࣰا﴾ إيمانًا به وتودُّدًا إليه وشُكرًا له، وقد أكَّد هذا المعنى بقوله: ﴿وَٱلَّذِینَ لَا یَدۡعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ﴾.
ثالثًا: الخوف والمراقبة الدائمة، والتحسُّب ليوم الحساب ﴿وَٱلَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصۡرِفۡ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ﴿٦٥﴾ إِنَّهَا سَاۤءَتۡ مُسۡتَقَرࣰّا وَمُقَامࣰا﴾.
رابعًا: الإنفاق المعتدل الذي ينفع الآخرين، ولا يضُرُّ بالمنفقين ﴿وَٱلَّذِینَ إِذَاۤ أَنفَقُواْ لَمۡ یُسۡرِفُواْ وَلَمۡ یَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَیۡنَ ذَ ٰلِكَ قَوَامࣰا﴾.
خامسًا: تجنُّب الدم الحرام وإزهاق الأرواح بلا وجه حقٍّ ﴿وَلَا یَقۡتُلُونَ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِی حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ﴾.
سادسًا: الابتِعاد عن الزنا ﴿وَلَا یَزۡنُونَۚ﴾.
سابعًا: الابتِعاد عن شهادة الزور وكلِّ قولٍ مُحرَّمٍ أو لغوٍ لا فائدة منه ﴿وَٱلَّذِینَ لَا یَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَامࣰا﴾.
ثامنًا: التفكُّر والتدبُّر ﴿وَٱلَّذِینَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِمۡ لَمۡ یَخِرُّواْ عَلَیۡهَا صُمࣰّا وَعُمۡیَانࣰا﴾.
تاسعًا: تحمُّل مسؤوليَّة الأهل والأولاد والعناية بهم ﴿وَٱلَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَ ٰجِنَا وَذُرِّیَّـٰتِنَا قُرَّةَ أَعۡیُنࣲ﴾.
عاشرًا: الهمَّة العالية، والطموح المشروع في كلِّ أبواب الخير ﴿وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِینَ إِمَامًا﴾.
حادي عشر: الاستغفار والتوبة النصوح بعد كلِّ هفوةٍ أو زلةٍ ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلࣰا صَـٰلِحࣰا فَأُوْلَــٰۤىِٕكَ یُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَیِّـَٔاتِهِمۡ حَسَنَـٰتࣲۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا ﴿٧٠﴾ وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا فَإِنَّهُۥ یَتُوبُ إِلَى ٱللَّهِ مَتَابࣰا﴾.
إنَّها منظومةٌ مِن القِيَم الحاكمة والموجَّهة، والمعالم الهادية على طريق الخير والسعادة الدائِمة؛ ولذلك استحقَّ هؤلاء الأخيار ذلك الجزاء الودود ﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ یُجۡزَوۡنَ ٱلۡغُرۡفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَیُلَقَّوۡنَ فِیهَا تَحِیَّةࣰ وَسَلَـٰمًا ﴿٧٥﴾ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ حَسُنَتۡ مُسۡتَقَرࣰّا وَمُقَامࣰا﴾ على خلاف أولئك المكذِّبِين الضالِّين ﴿قُلۡ مَا یَعۡبَؤُاْ بِكُمۡ رَبِّی لَوۡلَا دُعَاۤؤُكُمۡۖ فَقَدۡ كَذَّبۡتُمۡ فَسَوۡفَ یَكُونُ لِزَامَۢا﴾، في مُقارنةٍ واضِحةٍ بين الفريقَين، والتي هي محورُ السورة كلِّها وموضوعها الأساس.
﴿وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَـٰنِ﴾ فيه مُقارنة بطريق الإشارة بين هؤلاء المؤمنين بالرحمن، وبين أولئك البعِيدين الذين يتساءَلون باستنكار واستكبار: ﴿وَمَا ٱلرَّحۡمَـٰنُ﴾؟ ﴿یَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنࣰا﴾ كناية عن التواضُع والطمأنينة ولِين الجانب. ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَـٰمࣰا﴾ أي: قَولًا يُجنِّبُهم الخصومة والمِراء الباطل، ومنه التغافل والعفو وغضُّ الطرف، أما لفظة: ﴿سَلَـٰمࣰا﴾ هذه فقد يكون قولها مدعاةً للخصومة خاصَّة بين المسلمين؛ لأنه يحمِلُ اتّهامًا مبطَّنًا بالجهل باستذكار هذه الآية، فتكون النتيجة بعكس ما أرادَتْه الآية، وهذه ملحوظةٌ دقيقةٌ ينبغي التنبُّه لها في العلاقات والمجادلات. ﴿كَانَ غَرَامًا﴾ ثقيلًا ومديدًا لا فكاك منه. ﴿لَمۡ یُسۡرِفُواْ﴾ بزيادة الإنفاق فوق ما ينبغي. ﴿وَلَمۡ یَقۡتُرُواْ﴾ ولم يبخَلوا. ﴿قَوَامࣰا﴾ عدلًا ووسطًا بين الإسراف والبخل. ﴿یَلۡقَ أَثَامࣰا﴾ عذابًا على ما ارتكب مِن الإثم، أطلق الملزوم - وهو الإثم -، وأرادَ لازِمَه وما يترتب عليه - وهو العذاب -، ثم فسَّره بقوله: ﴿یُضَـٰعَفۡ لَهُ ٱلۡعَذَابُ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَیَخۡلُدۡ فِیهِۦ مُهَانًا﴾. ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلࣰا صَـٰلِحࣰا﴾ دلالة أن التوبة لا يكفي فيها الندم والانقطاع عن الذنب، بل لا بُدَّ مِن أن يكون ذلك نابِعًا مِن الإيمان، ومتبوعًا بالتصحيح والعمل الصالح، وأداء الحقوق لأهلها. ﴿فَإِنَّهُۥ یَتُوبُ إِلَى ٱللَّهِ مَتَابࣰا﴾ اكتَفَى بالموصوف عن صِفَته، والمقصود: المتاب الصادق المقبول عند الله. ﴿وَٱلَّذِینَ لَا یَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ﴾ بألسنتهم ولا بمشاركتهم. ﴿مَرُّواْ كِرَامࣰا﴾ مُعرِضِين عن اللغو وكلِّ كلامٍ باطلٍ، فهم أرفَع مِن ذلك وأسمى. ﴿لَمۡ یَخِرُّواْ عَلَیۡهَا صُمࣰّا وَعُمۡیَانࣰا﴾ أي: لا يتعامَلُون مع آيات الله كما يتعامَلُ المشركون الجاحدون؛ حيث يُعمُون عنها عيونهم، ويُصمُّون عنها آذانهم، ويخِرُّون عند سماعها كأنَّهم يتحاشَون أن يرَوا قارِئَها؛ لشدَّة بُغضِهم له ولما معه مِن الذكر.
وفيه: أنَّ المؤمِن يأنَسُ بالقرآن، ويفتَح له قلبه وعينيه وأذنَيه بإصغاءٍ وتدبُّرٍ هاديَين نافعَين. ﴿هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَ ٰجِنَا وَذُرِّیَّـٰتِنَا قُرَّةَ أَعۡیُنࣲ﴾ بأن يكونوا مُؤمِنِين صالِحِين يهنأُ بهم القلب، وتُسرُّ بهم العين. ﴿وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِینَ إِمَامًا﴾ قدوة حسنة، ومثالًا يُحتذَى لمَن أراد التقوى والعمل الصالح. ﴿أُوْلَــٰۤىِٕكَ یُجۡزَوۡنَ ٱلۡغُرۡفَةَ﴾ جمعها الغرفات، وهي أعلى منازل الجنة. ﴿بِمَا صَبَرُواْ﴾ دلالة أن هذه الصفات والخلال الحميدات تتطلَّبُ قَدرًا كبيرًا مِن الصبر ومجاهدة النفس. ﴿قُلۡ مَا یَعۡبَؤُاْ بِكُمۡ رَبِّی﴾ أي: لا يُبالي بِكُم، ولا يكتَرِث لحالكم، وأصل يَعبَأُ: يتحمَّلُ العِبْءَ. ﴿لَوۡلَا دُعَاۤؤُكُمۡۖ﴾ أي: لولا دعوتكم إلى الحقِّ؛ إذ بعث الله أنبياءه ورسله لهذه الغاية، فهذه وظيفتهم.
أما عِبْءُ الاستجابة فيتحمَّل مسؤوليَّته المدعوون، فهم المُمتَحَنون والمُختَبَرون، فمَن آمَنَ كانت له الغرفات، ومَن أبَى واستكبَرَ كان العذاب ﴿لِزَامَۢا﴾ له.
اللهم فاجعَلنا في زُمرة عباد الرحمن، وخلِّقنا بأخلاقهم، وجمِّلنا بصفاتهم.