ثم ذَكَرَ نموذجاً آخر من مخاطبته للطير، فقال: {وتفقَّدَ الطيرَ}: دلَّ هذا على كمال عزمِهِ وحزمِهِ وحسن تنظيمِهِ لجنودِهِ وتدبيرِهِ بنفسه للأمور الصغار والكبار، حتى إنَّه لم يُهْمِلْ هذا الأمر، وهو تفقُّد الطيور، والنظرُ هل هي موجودةٌ كلُّها أم مفقودٌ منها شيء؟ وهذا هو المعنى للآية. ولم يصنع شيئاً مَنْ قال: إنَّه تفقَّد الطير لينظرَ أين الهدهد منه ليدلَّه على بعدِ الماء وقربِهِ؛ كما زعموا عن الهدهد أنَّه يبصِرُ الماء تحت الأرض الكثيفة؛ فإنَّ هذا القول لا يدلُّ عليه دليلٌ، بل الدليلُ العقليُّ واللفظيُّ دالٌّ على بطلانِهِ: أما العقليُّ؛ فإنَّه قد عُرِفَ بالعادة والتجارب والمشاهدات أنَّ هذه الحيوانات كلَّها ليس منها شيءٌ يبصر هذا البصرَ الخارقَ للعادة وينظر الماءَ تحت الأرض الكثيفة، ولو كان كذلك؛ لَذَكَرَهُ الله؛ لأنَّه من أكبر الآيات. وأما الدليلُ اللفظيُّ؛ فلو أريد هذا المعنى؛ لقال: وطلب الهدهدَ لينظر له الماء، فلمَّا فقده؛ قال ما قال، أو: فَفَتَّش عن الهدهد، أو: بحث عنه. ونحو ذلك من العبارات. وإنَّما تفقَّد الطيرَ لينظرَ الحاضر منها والغائبَ ولزومَها للمراكز والمواضع التي عيَّنها لها. وأيضاً؛ فإنَّ سليمان عليه السلام لا يحتاج ولا يضطرُّ إلى الماء بحيث يحتاج لهندسةِ الهدهدِ؛ فإنَّ عنده من الشياطين والعفاريت ما يحفرون له الماء، ولو بلغ في العمق ما بلغ، وسخَّر الله له الريح غُدُوُّها شهرٌ ورَواحها شهرٌ؛ فكيف مع ذلك يحتاجُ إلى الهدهد؟! وهذه التفاسير التي توجد وتشتهر بها أقوالٌ لا يُعْرَفُ غيرُها تَنْقِلُ هذه الأقوال عن بني إسرائيل مجرَّدة، ويغفل الناقل عن مناقضتها للمعاني الصحيحة وتطبيقِها على الأقوال، ثم لا تزال تَتَناقل وينقُلُها المتأخِّر مسلِّماً للمتقدِّم، حتى يُظَنَّ أنَّها الحقُّ، فيقع من الأقوال الرديَّة في التفاسير ما يقعُ، واللبيبُ الفطنُ يعرِف أنَّ هذا القرآن الكريم العربيَّ المبينَ الذي خاطب الله به الخلقَ كلَّهم عالمهم وجاهلهم وأمَرَهم بالتفكُّر في معانيه وتطبيقها على ألفاظه العربيَّة المعروفة المعاني التي لا تجهلُها العربُ العرباءُ، وإذا وَجَدَ أقوالاً منقولة عن غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رَدَّها إلى هذا الأصل؛ فإن وافقه؛ قبلها؛ لكون اللفظ دالًّا عليها، وإنْ خالفتْه لفظاً ومعنىً أو لفظاً أو معنىً؛ ردَّها وجزم ببطلانِها؛ لأنَّ عنده أصلاً معلوماً مناقضاً لها، وهو ما يعرفه من معنى الكلام ودلالته. والشاهدُ أنَّ تفقُّدَ سليمان عليه السلام للطير وفَقْدَهُ الهدهدَ يدلُّ على كمال حزمِهِ وتدبيرِهِ للمُلك بنفسه وكمال فطنتِهِ، حتى فَقَدَ هذا الطائر الصغير، {فقال ما لي لا أرى الهُدْهُدَ أم كان من الغائبين}؛ أي: هل عدم رؤيتي إيَّاه لقلَّة فطنتي به لكونه خفيًّا بين هذه الأمم الكثيرة؟ أم على بابها بأن كان غائباً من غير إذني ولا أمري؟!