الرسالة الإسلامية هي الرسالة الخاتمة والخالدة والمهيمنة على كلِّ الرسالات السماويَّة الأخرى، وقد استوعَبَت تجارب النبيِّين السابقين على نبيِّنا وعليهم الصلاة والتسليم؛ ليكون هذا ذخيرةً للأمة الوريثة، وهي تتحمل رسالة الله الأخيرة إلى هذا الكوكب.
غير أنَّ الرسالة الأقرب إلى رسالتنا الإسلاميَّة هي - بلا شكٍّ - الرسالة المُوسويَّة، فهي الرسالة الشاملة والغنيَّة بنماذجها العمليَّة في كلِّ مجالات الحياة: الدعويَّة والتربويَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة؛ فيها مواجهة السلطان الباغي (فرعون) بما معه من جيشٍ ومالٍ وسحرٍ ومكرٍ، وفيها قيادة المجتمع المؤمن، وتخليصه من وطأة الظلم، والسير به في معارج العلم والتزكية والقوَّة، وفيها مواجهة الانحراف ودعاة الضلال كالسامريِّ، وفيها الكثيرُ مما لا نجده في كلِّ
القصص النبوي.
مِن هنا كان الاهتمام بقصَّة موسى، وتجربته المتنوعة هذه، ومِن هنا كان الربط المُتكرِّر بين الدعوتَين المباركتَين: الدعوة المحمَّديَّة، والدعوة المُوسويَّة، فلنتدبَّر الآن ما جاء في فواتِحِ هذه السورة عن هاتَين الدعوتَين المباركتَين:
أولًا: تأكيد أنَّ هذا القرآن الذي هو مصدر هذه الرسالة المحمَّديَّة الخالِدة قد أنزله الله كتابًا مبينًا، فيه الهُدى والبُشرى لكلِّ طالِبٍ وراغِبٍ وباحِثٍ عن طريق الحقِّ
﴿تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡقُرۡءَانِ وَكِتَابࣲ مُّبِینٍ ﴿١﴾ هُدࣰى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ ثم أكَّد موثوقيَّة هذا القرآن، وأنه رسالةُ الله العليم فلا يفوته شيء، والحكيم فلا يختلُّ في هَديِه شيءٌ
﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلۡقُرۡءَانَ مِن لَّدُنۡ حَكِیمٍ عَلِیمٍ﴾.
ثانيًا: أنَّ الناس قد انقَسَموا في هذه الدعوة بين مؤمنٍ وكافرٍ؛ أما المؤمنون الذين اتَّبَعُوا الهُدى واستحَقُّوا البُشرى، فهذه صِفاتهم:
﴿ٱلَّذِینَ یُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡأَخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ﴾ يقينٌ بالله واليوم الآخر يدفَعُهم لأداء حقِّ الله، وحقِّ عباد الله، هذه سِمَتُهم وخلاصة ما يُميِّزُهم عن غيرهم.
ثالثًا: في مُقابِل هؤلاء المؤمنين يأتي الحديث عن الفريق الآخر:
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأَخِرَةِ زَیَّنَّا لَهُمۡ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فَهُمۡ یَعۡمَهُونَ ﴿٤﴾ أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ لَهُمۡ سُوۤءُ ٱلۡعَذَابِ وَهُمۡ فِی ٱلۡأَخِرَةِ هُمُ ٱلۡأَخۡسَرُونَ﴾ إنَّهم كفَروا بالله واليوم الآخر، فقادَهم هذا إلى حالةٍ من العَمَه والتِّيه والتخبُّط في الضلالات، فكان لهم الخُسران بدل البُشرى جزاءً لاختيارهم الضلال بدل الهُدى.
رابعًا: ذكَّرَ القرآن هنا بقصَّة موسى على نبيِّنا وعليه الصلاة والسلام، وكيف أنه تلقَّى الوحيَ عن الله باصطفاءٍ إلهيٍّ:
﴿إِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهۡلِهِۦۤ إِنِّیۤ ءَانَسۡتُ نَارࣰا سَـَٔاتِیكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ ءَاتِیكُم بِشِهَابࣲ قَبَسࣲ لَّعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ ﴿٧﴾ فَلَمَّا جَاۤءَهَا نُودِیَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِی ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿٨﴾ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّهُۥۤ أَنَا ٱللَّهُ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾، وأنَّ الله تعالى قد أيَّدَه بالآيات البيِّنات والبراهين القاطِعات، وأرسله إلى فرعون وقومه، لكنَّهم كفروا بها ظُلمًا وعدوانًا، وفي هذا تسلِيةٌ لرسولنا الكريم
ﷺ عمَّا يلقاه من قومه مِن جحودٍ وصدودٍ
﴿وَأَدۡخِلۡ یَدَكَ فِی جَیۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَیۡضَاۤءَ مِنۡ غَیۡرِ سُوۤءࣲۖ فِی تِسۡعِ ءَایَـٰتٍ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَقَوۡمِهِۦۤۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمࣰا فَـٰسِقِینَ ﴿١٢﴾ فَلَمَّا جَاۤءَتۡهُمۡ ءَایَـٰتُنَا مُبۡصِرَةࣰ قَالُواْ هَـٰذَا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ ﴿١٣﴾ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَیۡقَنَتۡهَاۤ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمࣰا وَعُلُوࣰّاۚ فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِینَ﴾.