سورة النمل تفسير مجالس النور الآية 1

طسۤۚ تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡقُرۡءَانِ وَكِتَابࣲ مُّبِینٍ ﴿١﴾

تفسير مجالس النور سورة النمل

المجلس السادس والستون بعد المائة: ومضات من الدعوتين المحمدية والمُوسوية


من الآية (1- 14)


الرسالة الإسلامية هي الرسالة الخاتمة والخالدة والمهيمنة على كلِّ الرسالات السماويَّة الأخرى، وقد استوعَبَت تجارب النبيِّين السابقين على نبيِّنا وعليهم الصلاة والتسليم؛ ليكون هذا ذخيرةً للأمة الوريثة، وهي تتحمل رسالة الله الأخيرة إلى هذا الكوكب.
غير أنَّ الرسالة الأقرب إلى رسالتنا الإسلاميَّة هي - بلا شكٍّ - الرسالة المُوسويَّة، فهي الرسالة الشاملة والغنيَّة بنماذجها العمليَّة في كلِّ مجالات الحياة: الدعويَّة والتربويَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة؛ فيها مواجهة السلطان الباغي (فرعون) بما معه من جيشٍ ومالٍ وسحرٍ ومكرٍ، وفيها قيادة المجتمع المؤمن، وتخليصه من وطأة الظلم، والسير به في معارج العلم والتزكية والقوَّة، وفيها مواجهة الانحراف ودعاة الضلال كالسامريِّ، وفيها الكثيرُ مما لا نجده في كلِّ القصص النبوي.
مِن هنا كان الاهتمام بقصَّة موسى، وتجربته المتنوعة هذه، ومِن هنا كان الربط المُتكرِّر بين الدعوتَين المباركتَين: الدعوة المحمَّديَّة، والدعوة المُوسويَّة، فلنتدبَّر الآن ما جاء في فواتِحِ هذه السورة عن هاتَين الدعوتَين المباركتَين:
أولًا: تأكيد أنَّ هذا القرآن الذي هو مصدر هذه الرسالة المحمَّديَّة الخالِدة قد أنزله الله كتابًا مبينًا، فيه الهُدى والبُشرى لكلِّ طالِبٍ وراغِبٍ وباحِثٍ عن طريق الحقِّ ﴿تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡقُرۡءَانِ وَكِتَابࣲ مُّبِینٍ ﴿١﴾ هُدࣰى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ ثم أكَّد موثوقيَّة هذا القرآن، وأنه رسالةُ الله العليم فلا يفوته شيء، والحكيم فلا يختلُّ في هَديِه شيءٌ ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلۡقُرۡءَانَ مِن لَّدُنۡ حَكِیمٍ عَلِیمٍ﴾.
ثانيًا: أنَّ الناس قد انقَسَموا في هذه الدعوة بين مؤمنٍ وكافرٍ؛ أما المؤمنون الذين اتَّبَعُوا الهُدى واستحَقُّوا البُشرى، فهذه صِفاتهم: ﴿ٱلَّذِینَ یُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡأَخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ﴾ يقينٌ بالله واليوم الآخر يدفَعُهم لأداء حقِّ الله، وحقِّ عباد الله، هذه سِمَتُهم وخلاصة ما يُميِّزُهم عن غيرهم.
ثالثًا: في مُقابِل هؤلاء المؤمنين يأتي الحديث عن الفريق الآخر: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأَخِرَةِ زَیَّنَّا لَهُمۡ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فَهُمۡ یَعۡمَهُونَ ﴿٤﴾ أُوْلَــٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ لَهُمۡ سُوۤءُ ٱلۡعَذَابِ وَهُمۡ فِی ٱلۡأَخِرَةِ هُمُ ٱلۡأَخۡسَرُونَ﴾ إنَّهم كفَروا بالله واليوم الآخر، فقادَهم هذا إلى حالةٍ من العَمَه والتِّيه والتخبُّط في الضلالات، فكان لهم الخُسران بدل البُشرى جزاءً لاختيارهم الضلال بدل الهُدى.
رابعًا: ذكَّرَ القرآن هنا بقصَّة موسى على نبيِّنا وعليه الصلاة والسلام، وكيف أنه تلقَّى الوحيَ عن الله باصطفاءٍ إلهيٍّ: ﴿إِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهۡلِهِۦۤ إِنِّیۤ ءَانَسۡتُ نَارࣰا سَـَٔاتِیكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ ءَاتِیكُم بِشِهَابࣲ قَبَسࣲ لَّعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ ﴿٧﴾ فَلَمَّا جَاۤءَهَا نُودِیَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِی ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿٨﴾ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّهُۥۤ أَنَا ٱللَّهُ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾، وأنَّ الله تعالى قد أيَّدَه بالآيات البيِّنات والبراهين القاطِعات، وأرسله إلى فرعون وقومه، لكنَّهم كفروا بها ظُلمًا وعدوانًا، وفي هذا تسلِيةٌ لرسولنا الكريم عمَّا يلقاه من قومه مِن جحودٍ وصدودٍ ﴿وَأَدۡخِلۡ یَدَكَ فِی جَیۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَیۡضَاۤءَ مِنۡ غَیۡرِ سُوۤءࣲۖ فِی تِسۡعِ ءَایَـٰتٍ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَقَوۡمِهِۦۤۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمࣰا فَـٰسِقِینَ ﴿١٢﴾ فَلَمَّا جَاۤءَتۡهُمۡ ءَایَـٰتُنَا مُبۡصِرَةࣰ قَالُواْ هَـٰذَا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ ﴿١٣﴾ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَیۡقَنَتۡهَاۤ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمࣰا وَعُلُوࣰّاۚ فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِینَ﴾.


﴿ٱلَّذِینَ یُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡأَخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ﴾ إشارة إلى أنَّ الإيمان اليقيني بيوم الحساب هو الذي يدفع الإنسان لأداء الحقوق التي في ذمَّتِه تجاه الخالق تعالى، وتجاه المخلوق.
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأَخِرَةِ زَیَّنَّا لَهُمۡ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فَهُمۡ یَعۡمَهُونَ﴾ تأكيد للمعنى السابق بذكر ضدِّه أو نقيضه؛ فالذي لا يؤمن بيوم الحساب لا يخشَى من عمله الباطل، ولا من أكله الحرام، بل يرَى ذلك فرصةً له مهما أمِنَ الحساب، وذلك هو التزيين الذي يكتسبه جرَّاء كفره وليس بالجبر الإلهي، وإنما نسبه الله لنفسه؛ لأنَّه جارٍ على سُنَنه تعالى في ربط النتائِجِ بأسبابها.
﴿یَعۡمَهُونَ﴾ يتخبَّطُون تخبُّط الأعمى.
﴿إِنِّیۤ ءَانَسۡتُ نَارࣰا﴾ رأيتُ نارًا، ولفظ ﴿ءَانَسۡتُ﴾ مُشعِرٌ بالأُنس والأمل.
﴿سَـَٔاتِیكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ﴾ إذْ ظنَّ على النار بَشرًا يمكن أن يُرشدُهُ إلى الطريق.
﴿أَوۡ ءَاتِیكُم بِشِهَابࣲ قَبَسࣲ﴾ بجذوةٍ من النار.
﴿فَلَمَّا جَاۤءَهَا نُودِیَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِی ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ﴿٨﴾ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّهُۥۤ أَنَا ٱللَّهُ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾ هذا الحدث الذي لا ينبغي للمُتدبِّر معه إلا أن يقِف موقف الهيبة والخشوع، والشعور بضآلة العقل البشري لو حاول أن يتجاوز حدود إمكانياته وقدراته، إنها لحظة اتصال السماء بالأرض بالكيفيَّة التي لا يستطيع العقل تخيُّلها، ولا ملامسة كُنهها، لكنه يُسلِّم لها؛ لما ظهر منها في عالم الأرض من آياتٍ بيِّنات، ومعجزاتٍ قاهرات.
وقوله تعالى: ﴿أَنۢ بُورِكَ مَن فِی ٱلنَّا﴾ قصد به موسى عليه السلام؛ لأنَّ ضوء النار أحاط به، فكأنَّه كان فيها.
﴿تَهۡتَزُّ كَأَنَّهَا جَاۤنࣱّ﴾ ذكر المُفسِّرون هنا أنَّ العرب تُطلِق الجانَّ على ضَربٍ مِن الحيَّات معروفٍ بسرعة الحركة، ولا يبعُد أنه أرادَ واحد الجنِّ؛ لما هو معهودٌ في أذهان الناس من خِفَّتهم وسرعة حركتهم، ويُعضِّدُ هذا أنَّ العصا قُلِبَت حقيقةً إلى حيَّة، فكان تشبيهها بالجنِّ أقرب مِن تشبيهها بالحيَّة، والله أعلم.
﴿وَلَّىٰ مُدۡبِرࣰا وَلَمۡ یُعَقِّبۡۚ﴾ هرب خائفًا مما حصل لعصاه ولم يرجع.
﴿یَـٰمُوسَىٰ لَا تَخَفۡ إِنِّی لَا یَخَافُ لَدَیَّ ٱلۡمُرۡسَلُونَ ﴿١٠﴾ إِلَّا مَن ظَلَمَ﴾ استثناء منقطع؛ لأنَّ الأنبياء مُنزَّهُون عن الظُّلم، فلا يكون فيهم ظالِمٌ.
﴿مِنۡ غَیۡرِ سُوۤءࣲۖ﴾ من غير عاهةٍ ومرضٍ.
﴿تِسۡعِ ءَایَـٰتٍ﴾ المعجزات التي أيَّد الله بها نبيَّه ورسولَه موسى عليه السلام؛ كالعصا، والطوفان وغيرهما.
﴿فَلَمَّا جَاۤءَتۡهُمۡ ءَایَـٰتُنَا مُبۡصِرَةࣰ﴾ أي: واضِحة تُبصِرُها العيُون، ونَسَبَ الإبصارَ للآيات على سبيل المجاز.
﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَیۡقَنَتۡهَاۤ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمࣰا وَعُلُوࣰّاۚ﴾ هذا دأب الطغاة في كلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ أنهم لا يستجيبون للحقِّ ولو استبان لهم كالشمس؛ لأن ما في قلوبهم من الكِبْرِ والغرور يحول بينهم وبين ذلك.