سورة النمل تفسير مجالس النور الآية 24

وَجَدتُّهَا وَقَوۡمَهَا یَسۡجُدُونَ لِلشَّمۡسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَیَّنَ لَهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فَصَدَّهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِیلِ فَهُمۡ لَا یَهۡتَدُونَ ﴿٢٤﴾

تفسير مجالس النور سورة النمل

المجلس السابع والستون بعد المائة: سليمان وتجربة المُلك


من الآية (15- 44)


لا ينبغي ونحن نتدبَّر قصَّة سيدنا سُليمان على نبيِّنا وعليه الصلاة والسلام أن نغفَل عن حقيقة أنَّ مُلك سُليمان إنما هو ثمرةٌ للدعوة الموسويَّة التي نجَحَت بإخراج بني إسرائيل مِن وطأة فرعون، وكوَّنَت منهم أمةً قادرةً على أن تَشُقَّ طريقها، وأن تصنع تجربتها بنفسها.
ومِن ثَمَّ فإننا حينما نقرأ عن نبوَّة سُليمان عليه السلام وتجربته في المُلك، فإننا نقرأ امتدادًا لنبوَّة موسى عليه السلاموتجربته في التأسيس والتمهيد لهذا المُلك.
وأما صِلَة هذه التجربة بالدعوة المحمديَّة، فلا شكَّ أن هذه الأُمة موعودة بالمُلك والتمكين، وقد كان لها ذلك في عصر النبوَّة والخلافة الراشدة، ثم في العصور المتعاقبة أيام الأمويين والعباسيين والعثمانيين وغيرهم، والأمة الوريثة لا غِنَى لها عن تجارب أسلافها، إضافةً إلى القاعدة المحوريَّة: أن هذه الرسالة المحمديَّة ليست على قطيعةٍ مع تلك الرسالات، بل هي امتدادٌ لها ولنور الوحي فيها، ولكن بما يناسب تطوُّر الحياة الإنسانيَّة وتوسُّعها وتشعُّبها.
ويمكن أن نُلخِّص هذه التجربة المُبارَكة بالآتي:
أولًا: أنَّ الله قد فضَّل سُليمان كما فضَّل أباه داود عليهما السلام بالعلم ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا دَاوُۥدَ وَسُلَیۡمَـٰنَ عِلۡمࣰاۖ وَقَالَا ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِیرࣲ مِّنۡ عِبَادِهِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ وقد أعطاهما الله المُلك، ثم ورِث سُليمان أباه ﴿وَوَرِثَ سُلَیۡمَـٰنُ دَاوُۥدَۖ﴾ في إشارةٍ أن المُلك لا يكون بغير علم، وإلَّا كان وبالًا ووباءً عامًّا، وفتنةً عميَاء.
ثانيًا: لقد حظِيَت التجربةُ السُّليمانيَّةُ بمؤيّدات ومعجزات ربَّانيَّة لا يُمكن القياس عليها، ولا الاعتِماد عليها في العمل، أو اتخاذها مثالًا يحُتذى أو يُنتظر، وإنما جاءت للتذكير بقدرة الله التي لا تحدُّها حدود، وسعة عطائه من حيث يحتسب الناس ومن حيث لا يحتسبون، ويستلزم هذا أدبًا وتواضعًا لمن يُعطِيهم الله بعضًا من عطائه، وأملًا ورجاءً مفتوحًا لمن يُعانون ويئِنُّون تحت وطأَة الظلم والحِرمان.
ومن تلك المؤيِّدات والمعجزات: أنَّه عليه السلام كان يفهم لغة الطير والنمل وغيرهما: ﴿وَقَالَ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّیۡرِ﴾ ثم أكَّد هذا بحواره مع الهدهد كما سيأتي، وأما النمل فقد سمِعَ سُليمان نملةً تُوجِّهُ صاحباتها وتُحذِّرُهم: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكࣰا مِّن قَوۡلِهَا﴾.
ومنها: تسخير الجنِّ والمخلوقات الأخرى له، بل كانوا جُندًا من جُنده ﴿قَالَ عِفۡرِیتࣱ مِّنَ ٱلۡجِنِّ أَنَا۠ ءَاتِیكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَۖ وَإِنِّی عَلَیۡهِ لَقَوِیٌّ أَمِینࣱ ﴿٣٩﴾ قَالَ ٱلَّذِی عِندَهُۥ عِلۡمࣱ مِّنَ ٱلۡكِتَـٰبِ أَنَا۠ ءَاتِیكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن یَرۡتَدَّ إِلَیۡكَ طَرۡفُكَۚﮛ﴾، والإتيان بعرش بلقيس هو بذاته معجزة أيضًا.
ثالثًا: أنَّ هذه المؤيِّدات أو المعجزات قد تضمَّنَت دروسًا عمليَّةً كبيرةً، ومن ذلك:
في قصة النملة تبرزُ قيمة المبادرة، وقيمة الحرص على المجتمع ﴿حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَتَوۡاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةࣱ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَـٰكِنَكُمۡ لَا یَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَیۡمَـٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ﴾.
ويلحظ في قولها: ﴿وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ﴾ قيمة أخرى، وهي: التِماس العُذر للمُخطِئ الذي قد لا يكون قاصدًا أو عامدًا.
وفي قصة الهدهد: تأكيد لقيمة المبادرة مع قيمة الحرص على الدعوة، وقيمة الأمانة في النقل، وقيمة الشجاعة في قول الحقِّ، والدفاع عن النفس ﴿وَتَفَقَّدَ ٱلطَّیۡرَ فَقَالَ مَا لِیَ لَاۤ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَاۤىِٕبِینَ ﴿٢٠﴾ لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابࣰا شَدِیدًا أَوۡ لَأَاْذۡبَحَنَّهُۥۤ أَوۡ لَیَأۡتِیَنِّی بِسُلۡطَـٰنࣲ مُّبِینࣲ ﴿٢١﴾ فَمَكَثَ غَیۡرَ بَعِیدࣲ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإࣲ یَقِینٍ ﴿٢٢﴾ إِنِّی وَجَدتُّ ٱمۡرَأَةࣰ تَمۡلِكُهُمۡ وَأُوتِیَتۡ مِن كُلِّ شَیۡءࣲ وَلَهَا عَرۡشٌ عَظِیمࣱ﴾.
وفي قصة العفريت وصاحب العلم تظهر ميزة العلم وتفوُّقه على القوَّة، وفي هذا دلائل ومعانٍ عميقة ﴿قَالَ عِفۡرِیتࣱ مِّنَ ٱلۡجِنِّ أَنَا۠ ءَاتِیكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَۖ وَإِنِّی عَلَیۡهِ لَقَوِیٌّ أَمِینࣱ ﴿٣٩﴾ قَالَ ٱلَّذِی عِندَهُۥ عِلۡمࣱ مِّنَ ٱلۡكِتَـٰبِ أَنَا۠ ءَاتِیكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن یَرۡتَدَّ إِلَیۡكَ طَرۡفُكَۚ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسۡتَقِرًّا عِندَهُۥ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّی لِیَبۡلُوَنِیۤ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا یَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّی غَنِیࣱّ كَرِیمࣱ﴾.
رابعًا: برز في هذه التجربة حدثٌ تاريخيٌّ كبيرٌ، ألا وهو إسلام ملكة سبأ مع قومها، وقد تضمَّن هذا الحدَث عددًا مِن الدروس الكبيرة أيضًا، ومنها:
الدرس الأول: تجاوز الدعوة لحدود العِرق واللون والولاءات الضيقة؛ فملكة سبأ وكلُّ قومها الذين أسلموا مع سُليمان لم يكونوا مِن قوم سُليمان، وليس لهم صلة نسب ولا مصاهرة، ولا جِوار ببني إسرائيل، وقد كان هذا المعنى راسخًا حتى عند الطير المسخَّر في ذلك الوقت لخدمة الدعوة ﴿وَجَدتُّهَا وَقَوۡمَهَا یَسۡجُدُونَ لِلشَّمۡسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ﴾.
الدرس الثاني: السياسة الحكيمة التي اتَّبَعها سُليمان عليه السلام مع الملكة وقومها، فأرسل لها رسالة متضمِّنةً معنى الرحمة: ﴿إِنَّهُۥ مِن سُلَیۡمَـٰنَ وَإِنَّهُۥ بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ﴾، ثم أعرب لها عن قوَّته وشدَّته بالحقِّ ﴿ٱرۡجِعۡ إِلَیۡهِمۡ فَلَنَأۡتِیَنَّهُم بِجُنُودࣲ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخۡرِجَنَّهُم مِّنۡهَاۤ أَذِلَّةࣰ وَهُمۡ صَـٰغِرُونَ﴾، ثم بهرها بالعلم الذي معه من خلال العرش والصرح؛ العرش الذي نقله بطرفة عين، فرَأَتْه أمامها في الشام بعد أن خَلَّفَتْه وراءها في اليمن ﴿فَلَمَّا جَاۤءَتۡ قِیلَ أَهَـٰكَذَا عَرۡشُكِۖ قَالَتۡ كَأَنَّهُۥ هُوَۚ﴾، والصَّرح الذي لم تعهده في دولتها حتى حسِبَتْه بِركةَ ماء ﴿فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةࣰ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَیۡهَاۚ﴾ فهذه قيم ثلاث: الرحمة، والقوَّة، والعلم، وهي منظومة المُلك والحكم الرشيد.
الدرس الثالث: أن المرأة بإمكانها أن تتحلَّى بأخلاق القيادة الرشيدة، وأن تقودَ شعبَها إلى الخير، وهذا النموذج القرآني الكبير لا يجوز أن نَمُرَّ عليه سريعًا؛ فبلقيس أدارَت معركتها السياسيَّة مع سُليمان بحكمةٍ فائقةٍ.
فجمَعَت أُولِي الرأي في قومها واستشارَتْهم مشورة صادقة ﴿قَالَتۡ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَفۡتُونِی فِیۤ أَمۡرِی مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمۡرًا حَتَّىٰ تَشۡهَدُونِ ﴿٣٢﴾ قَالُواْ نَحۡنُ أُوْلُواْ قُوَّةࣲ وَأُوْلُواْ بَأۡسࣲ شَدِیدࣲ وَٱلۡأَمۡرُ إِلَیۡكِ فَٱنظُرِی مَاذَا تَأۡمُرِینَ﴾، ثم شخَّصَت الخطر المحتمل وفق خبرتها وتجاربها السابقة: ﴿إِنَّ ٱلۡمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرۡیَةً أَفۡسَدُوهَا وَجَعَلُوۤاْ أَعِزَّةَ أَهۡلِهَاۤ أَذِلَّةࣰۚ وَكَذَ ٰ⁠لِكَ یَفۡعَلُونَ﴾، ثم بادَرَت بما يسمَّى اليوم (جسّ النبض)، فأرسَلَت بهديَّتها إلى سُليمان، وفي الهديَّة أكثر من رسالة، ثم أعربت عن مستوى عالٍ من الشعور بالمسؤوليَّة والاعتراف بالخطأ ﴿إِنِّی ظَلَمۡتُ نَفۡسِی وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَیۡمَـٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾.
إنَّ هذا النموذج ينبغي أن يكون مُوجِّهًا لنا في فَهمِ بعض الأحاديث التي يُوحِي ظاهرها بما يُخالف هذا النموذج الكبير، ولا يصحُّ بحالٍ الأخذ بتلك الروايات، وببعض الاجتهادات الفقهيَّة المنبثقة منها بمعزِلٍ عن هذه الآيات، والله أعلم.
خامسًا: صفة التبيُّن والتثبُّت التي كان سيِّدنا سُليمان يتحلَّى بها حتى مع أضعَفِ رعيَّتِه؛ فحينما اعتذر الهُدهُد عن غيبته بالخبر الذي ساقَه عن مملكة سبأ، قال له سُليمان: ﴿۞ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡكَـٰذِبِینَ ﴿٢٧﴾ ٱذۡهَب بِّكِتَـٰبِی هَـٰذَا فَأَلۡقِهۡ إِلَیۡهِمۡ ثُمَّ تَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَٱنظُرۡ مَاذَا یَرۡجِعُونَ﴾.
إنَّ هذا الجوَّ المليء بالثقة والعدل والصدق هو الذي شجَّع الهُدهُد أن يقول لسُليمان: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ﴾ هذا درسٌ في استنهاض الطاقات، وكشف المخبوء منها في نفوس الرعيَّة، أما التعالِي والاستخفاف فإنه يجعل الدولةَ تخسَرُ الكثير من الطاقات، وتُضيِّع الكثير من الفرص.
سادسًا: الصفة الثابتة والمكررة في هذه القصة والتي يتحلَّى بها سُليمان عليه السلام هي الشكر، الشكر بمعناه العملي السلوكي ﴿وَقَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِیۤ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتَ عَلَیَّ وَعَلَىٰ وَ ٰ⁠لِدَیَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَـٰلِحࣰا تَرۡضَىٰهُ وَأَدۡخِلۡنِی بِرَحۡمَتِكَ فِی عِبَادِكَ ٱلصَّـٰلِحِینَ﴾، ﴿قَالَ هَـٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّی لِیَبۡلُوَنِیۤ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا یَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّی غَنِیࣱّ كَرِیمࣱ﴾.
سابعًا: يُلاحَظ هنا - إلى جانب ما تقدَّم - أنَّ طبيعة المُلك كانت طبيعة مترفة، وفيها قَدر كبير من إظهار النعمة: ﴿قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحࣱ مُّمَرَّدࣱ مِّن قَوَارِیرَۗ﴾، وفي موضعٍ آخر يقول القرآن: ﴿یَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا یَشَاۤءُ مِن مَّحَـٰرِیبَ وَتَمَـٰثِیلَ وَجِفَانࣲ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورࣲ رَّاسِیَـٰتٍۚ ٱعۡمَلُوۤاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرࣰاۚ﴾ [سبأ: 13].
وفي هذا تصحيحٌ لمفهوم الحكم الرشيد الذي اقتَرَن لدى كثيرٍ مٍن الوعَّاظ بالزهد والتقشُّف، وحِرمان النفس من النعم، وهي الصورة المأخُوذة من حياة الخلفاء الراشدين  دون النظر إلى أسبابها الموضوعيَّة، ومنها: الحالة الاجتماعية العامة، ومستوى الحياة الاقتصاديَّة، ومنها: التوجُّه الشخصي نحو الإقلال من التَّرَف، وهذا حقٌّ، لكنه ليس شَرعًا مُلزِمًا لكلِّ الناس، فضلًا عن ملوكهم وأمرائهم، والله أعلم.


﴿وَوَرِثَ سُلَیۡمَـٰنُ دَاوُۥدَۖ﴾ أي: ورِثَ عنه العلم والنبوَّة والحكم، وليس المال؛ لما ورد في «الصحيحين» عن النبيِّ أنَّه قال: «لَا نُوْرَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»، وقوله : «إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِيْنَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ»؛ ولأنَّ وراثةَ المال لا يستحِقُّها سُليمان دون إخوته وباقي الورثة.
﴿عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّیۡرِ﴾ أي: فهم المعنى الذي تُعبِّرُ عنه الطيور فيما بينها بصَفيرها وتقطيع صوتها، فالحيوانات تتفاهمُ فيما بينها بأصواتها وحركاتها وإن كانت بالنسبة لنا لا دلالة لها، وقد خصَّ الطيرَ بالذكر مع أنَّه عليه السلام كان يفهم لغة النمل أيضًا، ربَّما لما سيأتي من قصة الهُدهُد؛ تنبيهًا لأهميتها، وعظيم أثرها.
﴿وَحُشِرَ لِسُلَیۡمَـٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ وَٱلطَّیۡرِ﴾ دلالة أنَّ هؤلاء جميعًا كانوا في خدمته وتحت سلطانه، وهذا مِن عطاء الله الذي لا يُقاس عليه، ولا يصحُّ اتخاذه مثالًا يُحتذى.
﴿فَهُمۡ یُوزَعُونَ﴾ أي: يُنظَّمون في وقفتهم وحركتهم، ويعرف كلٌّ منهم مكانه ومكانته.
﴿لَا یَحۡطِمَنَّكُمۡ﴾ لا يكسرنَّكم، إشارة إلى أنَّ جسم النملة مُكوَّن مِن مادةٍ قابلةٍ للكسر، وهو ما بَدَا ينكشف في بعض الدراسات الحديثة أنَّه تغلب عليه مادة الزجاج، والله أعلم.
﴿وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ﴾ كأنَّها تعتذر لهم، بمعنى أنَّهم يحطمونكم عن غير قصد.
﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكࣰا﴾ صيغة من صيغ التأكيد، كأنَّه قال: فتبسَّم تبسُّمًا، واختيار الضحك بدل التبسُّم فيه تأكيدٌ معنويٌّ، أي: بالغ في التبسُّم، والله أعلم.
﴿وَقَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِیۤ﴾ ألهِمني ووفِّقني.
﴿أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتَ عَلَیَّ وَعَلَىٰ وَ ٰ⁠لِدَیَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَـٰلِحࣰا تَرۡضَىٰهُ﴾ تفسير لمعنى الشكر؛ ولذلك ورد عن الجنيد  قوله: (الشُكر ألا تستعينَ بنِعم الله على معاصِيه).
﴿وَتَفَقَّدَ ٱلطَّیۡرَ﴾ تفقُّد المسؤول من هم تحت مسؤوليَّته، والنظر في أحوالهم وأخبارهم.
﴿فَقَالَ مَا لِیَ لَاۤ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَاۤىِٕبِینَ﴾ بمعنى: هل هو موجود ولكنَّ عيني أخطَأَتْه، أو غابَ عن الحضور دون علمي؟
﴿لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابࣰا شَدِیدًا أَوۡ لَأَاْذۡبَحَنَّهُۥۤ أَوۡ لَیَأۡتِیَنِّی بِسُلۡطَـٰنࣲ مُّبِینࣲ﴾ أي: إن لم يأتِني بعُذرٍ بيِّن فقد استحقَّ العقوبة، وهذا الحزم المشفوع بالتثبُّت هو شرط الحاكم الرشيد في التعامل مع جنده، أما البحث في عقوبة الحيوانات والبهائم إذا خرجت عن المطلوب منها فلا أراه مناسبًا هنا؛ إذ إنَّ سُليمان يتعامَلُ مع كلِّ جنوده كأنَّهم عُقلاء ومُكلَّفون، وهذه خصوصيَّة له لا يصحُّ القياس عليها، ولا اعتمادها دليلًا في أي مسألةٍ فقهيةٍ من هذا القبيل، وإنَّما يُستفاد منها: الحزم والتثبُّت مع الجند الآدميين المكلَّفين بالأمر والنهي.
﴿فَمَكَثَ غَیۡرَ بَعِیدࣲ﴾ أي: لم يتأخَّر الهُدهُد إلا قليلًا.
﴿أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ﴾ كلمة شجاعة، وفيها أكثر من درس؛ فعدالة الحاكم هي التي فتَحَت البابَ لهذه الشجاعة ولهذه المبادرة، وأنَّ العالِم َمهما بلغ علمه لا يجمع العلم كلَّه، فقد يفوته شيء منه ليطَّلِع عليه مَن هو أقلُّ شأنًا وأقلُّ علمًا؛ ولذلك يقترن العلم بالتواضع عند العارفين المخلصين، بخلاف أهل الكبر والرياء.
﴿وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ﴾ مِن أرض اليمن.
﴿بِنَبَإࣲ یَقِینٍ﴾ تنبيه إلى ضرورة التيقُّن في مثل هذه الأخبار، خاصة تلك التي تهمُّ الشأن العام، وينبني عليها عمل.
﴿إِنِّی وَجَدتُّ ٱمۡرَأَةࣰ تَمۡلِكُهُمۡ﴾ هي بلقيس.
﴿وَأُوتِیَتۡ مِن كُلِّ شَیۡءࣲ﴾ عام مخصوص بالعقل والحس، أي: من كلِّ شيءٍ يُناسِبُ الملوك في ذلك الزمن.
﴿وَلَهَا عَرۡشٌ عَظِیمࣱ﴾ السرير أو الكرسيّ الذي تجلس عليه.
﴿وَجَدتُّهَا وَقَوۡمَهَا یَسۡجُدُونَ لِلشَّمۡسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ﴾ حيث كانت عبادة الشمس شائعة في تلك العصور، ويلحظ هنا أنَّ النبأ الذي رفعه الهُدهُد إلى ملكه وقائده قد جاء شاملًا للجوانب السياسيَّة والدينيَّة التي يحتاجها الملك قبل أن يتَّخذ قراره.
﴿یُخۡرِجُ ٱلۡخَبۡءَ﴾ يظهر المخبوء والمستتر، مما يغيب عن علم الناس، من أرزاق وآجال إذا حان أوانه.
﴿۞ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡكَـٰذِبِینَ﴾ أي: سننظرُ نظرَ المتأمِّل المُدقِّق.
﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَٱنظُرۡ مَاذَا یَرۡجِعُونَ﴾ أمَرَه أن يتنحَّى عنهم قليلًا؛ بحيث يسمع كلامهم ولا يرَونَه.
﴿إِنِّیۤ أُلۡقِیَ إِلَیَّ كِتَـٰبࣱ كَرِیمٌ﴾ بمعنى: أنَّه نفيسٌ من حيث خَتمه وشكله وخطِّه وجزالته، بما يُعبِّر عن احترام صاحبه وإتقانه، ودقَّة ذَوقه.
﴿أَلَّا تَعۡلُواْ عَلَیَّ﴾ لا تتكبَّروا عليَّ.
﴿أَفۡتُونِی فِیۤ أَمۡرِی﴾ أشِيروا عليَّ.
﴿مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمۡرًا حَتَّىٰ تَشۡهَدُونِ﴾ حتى تحضرون، وهذا من تمام عقلها، وحسن سياستها.
﴿قَالُواْ نَحۡنُ أُوْلُواْ قُوَّةࣲ وَأُوْلُواْ بَأۡسࣲ شَدِیدࣲ وَٱلۡأَمۡرُ إِلَیۡكِ فَٱنظُرِی مَاذَا تَأۡمُرِینَ﴾ أعربوا أولًا عن قوَّتِهم وشدَّةِ بأسِهِم، ثم أعطَوها مساحةً مرِنةً لاتخاذ القرار الأصوَب والأصلَح.
﴿قَالَتۡ إِنَّ ٱلۡمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرۡیَةً أَفۡسَدُوهَا﴾ إذا دخَلُوها بالقوة والقهر أفسدوها بالتخريب والتدمير، تُلمِّحُ لهم بالمُسالمة والمُوادعة؛ لما تعرفه عن قوة جيش سُليمان عليه السلام، ولما تخبره من تاريخ الحروب والغزوات.
﴿وَإِنِّی مُرۡسِلَةٌ إِلَیۡهِم بِهَدِیَّةࣲ فَنَاظِرَةُۢ بِمَ یَرۡجِعُ ٱلۡمُرۡسَلُونَ﴾ وهذا اختبار سياسي حكيم؛ فإن قبِلُوا الهديَّة - ويبدو أنها كانت مالًا عظيمًا - يتبيَّن لها أنَّ مطلَبَ سُليمان المال لا غير، فتستعد معه للتفاوض الاقتصادي، وإن رفضوا كان الموضوع أبعَدَ من ذلك، وهذا الذي كان مِن سُليمان: ﴿قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالࣲ فَمَاۤ ءَاتَىٰنِۦَ ٱللَّهُ خَیۡرࣱ مِّمَّاۤ ءَاتَىٰكُمۚ بَلۡ أَنتُم بِهَدِیَّتِكُمۡ تَفۡرَحُونَ﴾.
﴿ٱرۡجِعۡ إِلَیۡهِمۡ﴾ الخطاب لزعيم الوفد الذي حمل الهدية إليه.
﴿وَلَنُخۡرِجَنَّهُم مِّنۡهَاۤ﴾ من سبأ.
﴿وَهُمۡ صَـٰغِرُونَ﴾ خاضعون لحكمنا.
﴿قَالَ یَــٰۤـأَیُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَیُّكُمۡ یَأۡتِینِی بِعَرۡشِهَا قَبۡلَ أَن یَأۡتُونِی مُسۡلِمِینَ﴾ في القصة اختصار يدلُّ عليه السياق، والظاهر أنَّها بعد أن أبلغها الوفد رسالة سُليمان ومعها الهدية التي رفض قبولها، أرسلت إليه تُخبِرُه بأنَّها قادمة إليه، فطلَبَ سُليمانُ مِن جنده أن ينقلوا عرشَها إليه لتجِده أمامها عند سُليمان!
﴿قَالَ عِفۡرِیتࣱ مِّنَ ٱلۡجِنِّ أَنَا۠ ءَاتِیكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَۖ﴾ تقديرٌ لقِصَر الوقت، بمعنى: أنَّه سيُحضِره له قبل أن يُغادِر مجلسه.
﴿قَالَ ٱلَّذِی عِندَهُۥ عِلۡمࣱ مِّنَ ٱلۡكِتَـٰبِ أَنَا۠ ءَاتِیكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن یَرۡتَدَّ إِلَیۡكَ طَرۡفُكَۚ﴾ أي: بلا زمن، والذي عنده هذا العلم لم يُخبِرنا الله بشأنه، وكيف حصل على هذا العلم، والظاهر أنَّه جزءٌ مِن الحالة العامَّة التي كانت سائِدة في مُلك سُليمان، فلا هذا العلم يقبل التعلُّم، ولا الجنّ يقدِرون اليوم على أن ينقُلوا الأشياء الثقيلةَ مِن مكانٍ إلى آخر، فذلك كلُّه مِن خصائص مُلك سُليمان الذي هو معجزات وخوارق للعادات، لا يُقاس عليها ولا يُقتدَى بها، والله أعلم.
﴿وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا یَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ﴾ لأن الله تعالى وتقدَّس لا ينتفع بشُكرنا له، وإنَّما نفعُ الشكر يعود لنا ثوابًا منه وقربةً إليه.
﴿نَكِّرُواْ لَهَا عَرۡشَهَا﴾ غيِّرُوا فيه؛ بحيث لا يظهر لها كما عهِدَتْه، أراد اختبار ذكائها، واتِّزان رأيها، ودقَّة مُلاحظتها.
﴿نَنظُرۡ أَتَهۡتَدِیۤ أَمۡ تَكُونُ مِنَ ٱلَّذِینَ لَا یَهۡتَدُونَ﴾ أتعرف عرشها بعد التغيير الذي أُحدِث فيه، أم تكون غافلةً عنه، ولو عرَفَتْه فماذا ستقول فيه وقد خلَّفَتْه وراءَها في سبأ؟ إنه أشبَه باختبار نمَط شخصيَّتها ومكانة عقلها.
﴿فَلَمَّا جَاۤءَتۡ قِیلَ أَهَـٰكَذَا عَرۡشُكِۖ قَالَتۡ كَأَنَّهُۥ هُوَۚ﴾ جوابٌ في غاية الذكاء والاتِّزان، والظاهرُ أنَّها عرَفَتْه؛ فهو عرشُها الذي عهِدَتْه رغم ما حصل فيه من تغييرٍ، لكنها ترَكَتْه وراءَها، فما الذي جاء به؟ فأجابَت بجوابٍ مُحتمل، لا يستطيع أحدٌ أن يُكذِّبَها فيه، وهذه عادةُ السياسيين في كلامهم وحواراتهم.
﴿وَأُوتِینَا ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهَا وَكُنَّا مُسۡلِمِینَ﴾ الظاهرُ أنه من قول سُليمان حين رأى علمَها ورجاحَةَ عقلها، ذكر نعمةَ الله عليه بالعلم السابق على علمها، والإيمان السابق على إيمانها سبق زمان، وسبق رتبة، والله أعلم.
﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعۡبُدُ مِن دُونِ ٱلـلَّــهِۖ إِنَّهَا كَانَتۡ مِن قَوۡمࣲ كَـٰفِرِینَ﴾ جوابٌ لسؤال مُفترض؛ أنها إذا كانت برجاحة العقل هذه، كيف إذن صُدَّت عن توحيد الله وعبادته؟
والجوابُ: أنها نشأت في قومٍ كافرين لا يعرفون إلا عبادةَ الشمس، والإنسان مهما بلغ، أسيرٌ لبيئته ومجتمعه، خاصَّة لمن يتصدَّر فيهم، ويسعى للاحتفاظ بمكانته عندهم.
﴿قِیلَ لَهَا ٱدۡخُلِی ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةࣰ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَیۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحࣱ مُّمَرَّدࣱ مِّن قَوَارِیرَۗ﴾ هنا ظهر التفاوُت في العلم وهندسة العمران، فلم ينفعها الذكاءُ بشيءٍ؛ لقلة خِبرَتها في هذا، وهذه مُقاربة لطيفة بين مفهوم العقل ومفهوم العلم؛ فالعاقل مهما بلغ عقله قد يزِلُّ أو يضِلُّ بسبب نقص المعلومات التي عنده.
ومن ثَمَّ فالدرس المستفاد من هذه الحادثة: أن لا يتَّكِل الذكيُّ على ذكائه في تحليل الأشياء والأحداث من غير علمٍ كافٍ بتفاصيل المسألة وما يحيط بها، وفوق كل ذي علم عليم.
واللُّجَّةُ: بِركة الماء، والقوارير: الزُّجَاج.
﴿قَالَتۡ رَبِّ إِنِّی ظَلَمۡتُ نَفۡسِی وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَیۡمَـٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ وهنا قادَها ذكاؤها ورجاحة عقلها، واتِّزان شخصيَّتها إلى التفكير بحالها وعقيدتها التي نشَأَت عليها، فاعترفت بخطئها، ثم أعلَنَت إسلامَها على قاعدة التخلِيَة قبل التحلِيَة؛ فهي قد هدَمَت عقيدتَها الفاسدة أولًا، ثم أقامَت مكانها عقيدة التوحيد؛ لتبقى عقيدةً نقيَّةً خالصةً لا تشوبها شائبة الماضي.
وفي الربط بين ما رأَتْه من معالم العلم وإتقان الصنعة وبين دخولها في الإسلام تأكيد أن القِيَم الإسلامية حين تترجم واقعًا في حياة الناس، ونموذجًا صالحًا على الأرض، فإنَّ هذا يكون أدعَى لنجاح الدعوة، وإقناع الآخرين بها.