سورة النمل تفسير مجالس النور الآية 54

وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦۤ أَتَأۡتُونَ ٱلۡفَـٰحِشَةَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ ﴿٥٤﴾

تفسير مجالس النور سورة النمل

المجلس الثامن والستون بعد المائة: صالح ولوط


من الآية (45- 58)


بعد تجربة المُلك التي قادَها نبيُّ الله سُليمان، يعرض القرآن هنا نموذجًا مختلفًا، نموذج الطغيان الذي يحاصر الدعوة ويحارب أهلها بعنادٍ ومُكابرة، فتكون غاية الدعاة: النجاة بأنفسهم ومن معهم مِن وطأة الظلم، ومِن عذاب الله الذي يأخذ هذا الطغيان وأهله.
وقد تضمَّن هذا النموذج حالَتَين مختلفتَين:
حالة الظلم الذي يُواجِهُه الدعاة بسبب تعصُّب القبيلة، وتمسُّكها بموروث الآباء والأجداد ولو كان خرافةً وكفرًا، وقد مثَّل هذه الحالةَ سيِّدنا صالِحٌ في مُواجهة قبيلته ثمود.
وأما الحالة الثانية: والتي مثَّلها سيِّدنا لوطٌ، فكانت تجسِّد مُواجهةَ الدعاة للفساد والمنكر الذي ينتشر في المجتمعات المدنية على خلاف المجتمعات القبليَّة، ويمكن تلخِيصُ هذا النموذج كما ورد في هذه الآيات بالآتي:
أولًا: كانت دعوة صالح عليه السلام لقومه مركَّزة في جانب الإيمان وعبادة الله وحده: ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَاۤ إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَـٰلِحًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ﴾، بينما كانت دعوة لوط لقومه مركَّزة في الأخلاق؛ لإنقاذهم من الشذوذ الذي شطَّ بهم بعيدًا عن فِطرة الآدميين: ﴿وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦۤ أَتَأۡتُونَ ٱلۡفَـٰحِشَةَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ ﴿٥٤﴾ أَىِٕنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهۡوَةࣰ مِّن دُونِ ٱلنِّسَاۤءِۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمࣱ تَجۡهَلُونَ﴾.
ثانيًا: رفضَت ثمودُ دعوةَ نبيِّها عليه السلام، ومكَرُوا به مُحاوِلين قتله وأهله ﴿قَالَ یَـٰقَوۡمِ لِمَ تَسۡتَعۡجِلُونَ بِٱلسَّیِّئَةِ قَبۡلَ ٱلۡحَسَنَةِۖ لَوۡلَا تَسۡتَغۡفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ﴿٤٦﴾ قَالُواْ ٱطَّیَّرۡنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَۚ قَالَ طَـٰۤىِٕرُكُمۡ عِندَ ٱلـلَّــهِۖ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمࣱ تُفۡتَنُونَ ﴿٤٧﴾ وَكَانَ فِی ٱلۡمَدِینَةِ تِسۡعَةُ رَهۡطࣲ یُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا یُصۡلِحُونَ ﴿٤٨﴾ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ لَنُبَیِّتَنَّهُۥ وَأَهۡلَهُۥ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِیِّهِۦ مَا شَهِدۡنَا مَهۡلِكَ أَهۡلِهِۦ وَإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ ﴿٤٩﴾ وَمَكَرُواْ مَكۡرࣰا وَمَكَرۡنَا مَكۡرࣰا وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ﴾.
وكذلك رفضَ قومُ لوط عليه السلام دعوةَ نبيِّهم، ومكروا به ليُخرِجُوه وأهله من قريتهم ﴿۞ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦۤ إِلَّاۤ أَن قَالُوۤاْ أَخۡرِجُوۤاْ ءَالَ لُوطࣲ مِّن قَرۡیَتِكُمۡۖ إِنَّهُمۡ أُنَاسࣱ یَتَطَهَّرُونَ﴾.
ثالثًا: أهلَكَ الله ثمودَ، ونجَّى صالحًا ﴿فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ مَكۡرِهِمۡ أَنَّا دَمَّرۡنَـٰهُمۡ وَقَوۡمَهُمۡ أَجۡمَعِینَ ﴿٥١﴾ فَتِلۡكَ بُیُوتُهُمۡ خَاوِیَةَۢ بِمَا ظَلَمُوۤاْۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ ﴿٥٢﴾ وَأَنجَیۡنَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ یَتَّقُونَ﴾، وكذلك نجَّى الله لوطًا، وأهلَكَ قومَه ﴿فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَأَهۡلَهُۥۤ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ قَدَّرۡنَـٰهَا مِنَ ٱلۡغَـٰبِرِینَ ﴿٥٧﴾ وَأَمۡطَرۡنَا عَلَیۡهِم مَّطَرࣰاۖ فَسَاۤءَ مَطَرُ ٱلۡمُنذَرِینَ﴾.
إن الغاية من تقديم هذه النماذج المختلفة - مع ما فيها من دروس وعبر مُتنوِّعة - إنما هي فتح مجال الاحتمالات المتوقعة لمسيرة هذه الدعوة مهما كان القائمون عليها من الصلاح وحسن الاستقامة؛ فسُنن الله غلَّابة، والتمكين في الأرض لا بُدَّ له من اجتماع أسبابه، ولا يكفي فيه صدق النيَّة، وحُسن السيرة.
وقد رأينا كثيرًا من الأنبياء - وهم أنبياء - لم يُمكِّن الله لهم، بل كان غايةُ أمرهم: النجاة بأنفسهم وبمن معهم.
إن الدعوة اليوم بحاجةٍ إلى أن تنظر في واقعها وواقع العالم من حولها، والتفاوُت الضخم في موازين القوى، ولا تتألَّى على الله بالأماني، ومن ثَمَّ ترسُمُ طريقةَ عملها بما يُناسِب إمكانياتها لا بما يناسب رغباتها، والله الهادي إلى سواء السبيل.


﴿فَإِذَا هُمۡ فَرِیقَانِ یَخۡتَصِمُونَ﴾ فريق مصدِّق وفريق مكذِّب، والمصدِّقون هم القلَّة المستضعَفون، بدلالة قوله تعالى في مكان آخر: ﴿قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِینَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ لِلَّذِینَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ لِمَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُمۡ أَتَعۡلَمُونَ أَنَّ صَـٰلِحࣰا مُّرۡسَلࣱ مِّن رَّبِّهِۦۚ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَاۤ أُرۡسِلَ بِهِۦ مُؤۡمِنُونَ﴾ [الأعراف: 75]، والآية تشير إلى معنى المخاصمة أيضًا.
﴿قَالَ یَـٰقَوۡمِ لِمَ تَسۡتَعۡجِلُونَ بِٱلسَّیِّئَةِ قَبۡلَ ٱلۡحَسَنَةِۖ﴾ أي: لِمَ تطلبون العذاب وتستعجِلُونه عليكم بعِنادكم وتكذيبكم، ولا تطلبون رحمة الله وهي قريبة منكم لو اهتديتم؟
﴿لَوۡلَا تَسۡتَغۡفِرُونَ﴾ أسلوب من أساليب الحث والطلب، بمعنى: هلَّا تستغفرون الله.
﴿قَالُواْ ٱطَّیَّرۡنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَۚ﴾ أصلُه: تطيَّرنا، ومعناه: تشاءَمنا.
﴿قَالَ طَـٰۤىِٕرُكُمۡ عِندَ ٱلـلَّــهِۖ﴾ أي: ما قُدِّرَ لكم من خيرٍ أو شرٍّ فهو عند الله، وذلك بحَسب أعمالكم وما تُقدِّمُونه لأنفسكم.
﴿وَكَانَ فِی ٱلۡمَدِینَةِ﴾ الحِجر، وذِكرُ المدينة لا ينفي عنهم طبع القبيلة، فثمود قبيلة معروفة وقد استوطَنَت الحِجر، والحِجر بين الحجاز والشام.
﴿تِسۡعَةُ رَهۡطࣲ﴾ تسعة أشخاص، وأصل الرهط: العدد القليل من الناس، والظاهر أنهم من عتاة القوم وطغاتهم.
﴿تَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ﴾ تعاهَدوا وتحالَفوا بالله، وهذا دليلٌ أنهم كانوا يعرفون الله، لكنَّهم يُشركون به على عادة كثيرٍ من العرب.
﴿لَنُبَیِّتَنَّهُۥ وَأَهۡلَهُۥ﴾ لنقتلنَّه مع أهله غِيلةً وغدرًا.
﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِیِّهِۦ﴾ أي: لِوَليِّ دمه، والظاهر أنه ممن لم يشمَله وعيدهم؛ لأنه ربما كان من ملَّتهم.
﴿مَا شَهِدۡنَا مَهۡلِكَ أَهۡلِهِۦ وَإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ﴾ أي: لم نحضر مقتله ومقتل أهله، ولا ندري عن قاتلهم شيئًا، وإنا لصادقون فيما نُخبركم به.
﴿وَمَكَرۡنَا مَكۡرࣰا﴾ باستدراجهم إلى حَتفهم وهلاكهم.
﴿فَتِلۡكَ بُیُوتُهُمۡ خَاوِیَةَۢ﴾ خالية من أهلها، وكانت في الطريق بين الحجاز والشام يراها الناس.
﴿أَتَأۡتُونَ ٱلۡفَـٰحِشَةَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ﴾ بمعنى أن الذي يعقِل ويُبصِر لا يمكن أن ينتكِس إلى مثل هذا الشذوذ.
﴿أَخۡرِجُوۤاْ ءَالَ لُوطࣲ مِّن قَرۡیَتِكُمۡۖ﴾ فهم لا يريدون أحدًا يُعكِّر عليهم ما هم فيه مُنغمِسون، وهذا دَيدَن الغارق في الشهوة، بخلاف صاحب الشُّبهة والفكرة الخاطئة.
﴿إِنَّهُمۡ أُنَاسࣱ یَتَطَهَّرُونَ﴾ ربما كان ذلك على سبيل التهكُّم والسخرية، لكن حالة هؤلاء القوم لا يُستبعد معها أنهم يُفاخرون بالفساد والرذيلة، ولا يُحاولون تغطيتها أو تسميتها بغير أسمائها، وهذا دَرك ما تحته دَرك، وشذوذ ما بعده شذوذ.
﴿إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ قَدَّرۡنَـٰهَا مِنَ ٱلۡغَـٰبِرِینَ﴾ الهالكين الباقين في العذاب، بسبب موالاتها لهم.
﴿فَسَاۤءَ مَطَرُ ٱلۡمُنذَرِینَ﴾ إشارة إلى أن عذابهم لم يكن ابتداءً، رغم ما هم فيه من كفر وفساد، وإنما كان بعد النذارة وإقامة الحجة.
وهنا تدبُّرٌ دقيقٌ: أن قوم صالح تآمروا عليه لقتله، وقوم لوط تآمروا عليه لإخراجه، وقد نزلت هذه الآيات على سيدنا محمدٍ وهو في مكة، وكانت قريشٌ تتآمَر عليه أيضًا لقتله أو إخراجه، وكان في هذا إنذارٌ لهم، وتسليةٌ مُطمئِنةٌ لنبيِّنا الكريم عليه وعلى إخوانه الصلاة والتسليم.