بعد هذه النماذج المتنوعة والنتائج المختلفة في مصير الدعوة والدعاة، يعود القرآن للتذكير بأصل القضية التي بعث الله بها الرسل، والتي انقسم فيها الناس، وأنتَجَت كلَّ ذلك التاريخ المختلف أو المتنوِّع، إنها قضيَّةُ الإيمان، وفي هذه الآيات يعرِض القرآن أدلَّتَه في مناقشة المُنكِرين، وكما يأتي:
أولًا: يُوجِّه القرآن سؤالَه الكلِّيَّ الذي يهزُّ القلوب، ويحرِّك العقول ﴿ءَاۤللَّهُ خَیۡرٌ أَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾، وهو سؤالٌ يدعو أولًا للبحث في مفهوم الألوهية، والصفات اللازمة لها، ثم النظر في هذا الكون وحاجته في كل جزئية من جزئياته إلى القدرة المطلقة، والعلم الشامل، والحكمة الدقيقة التي لا يُمكن أن يتَّصِف بها إلا إلهٌ واحدٌ.
تجدُرُ الإشارة هنا أن هذا السؤال الكبير قد جاء مُتصلًا بتزكية شاملة لأولئك النبيين الذين أفنَوا حياتهم في سبيل هذه القضية، وإقناع أقوامهم بالجواب الصحيح على هذا السؤال: ﴿قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ وَسَلَـٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِینَ ٱصۡطَفَىٰۤۗ ءَاۤللَّهُ خَیۡرٌ أَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾.
ثانيًا: انتقل القرآن إلى شواهِدِ الإيمان في نشأة هذا الخلق وما فيه مِن عنايةٍ ورعايةٍ لهذا الإنسان ﴿أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَاۤىِٕقَ ذَاتَ بَهۡجَةࣲ مَّا كَانَ لَكُمۡ أَن تُنۢبِتُواْ شَجَرَهَاۤۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمࣱ یَعۡدِلُونَ﴾.
ثالثًا: تابَعَ القرآن حديثَه عن هذه الأرض، وكيف هيَّأها وأعدَّها لتكون مقرًّا صالحًا وممهَّدًا لهذه الحياة ﴿أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارࣰا وَجَعَلَ خِلَـٰلَهَاۤ أَنۡهَـٰرࣰا وَجَعَلَ لَهَا رَوَ ٰسِیَ وَجَعَلَ بَیۡنَ ٱلۡبَحۡرَیۡنِ حَاجِزًاۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ﴾.
رابعًا: في انعِطافةٍ وجدانيةٍ عاطفيَّةٍ خاطب القرآن هذا الإنسان من داخله، من ضميره ووجدانه ﴿أَمَّن یُجِیبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَیَكۡشِفُ ٱلسُّوۤءَ وَیَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَاۤءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِیلࣰا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾.
خامسًا: عاد القرآن ليذكِّر بنعم الله وآلائه المبثوثة في نواحي هذا الكون، والتي تشهد كلها بتدبير الخالق الواحد ﴿أَمَّن یَهۡدِیكُمۡ فِی ظُلُمَـٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَمَن یُرۡسِلُ ٱلرِّیَـٰحَ بُشۡرَۢا بَیۡنَ یَدَیۡ رَحۡمَتِهِۦۤۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ تَعَـٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾.
سادسًا: أكَّد القرآن النشأةَ الأولى للخلق، وقدرته سبحانه على إعادة الخلق كما هو مُشاهَد في دورة الماء والنبات مما لا يقدِر عليه إلا العليم الذي أحاطَ علمُه بالزمان والمكان، وأسباب الحياة وأسباب الموت تبارك ربُّنا وتعالى ﴿أَمَّن یَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُۥ وَمَن یَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَـٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ ﴿٦٤﴾ قُل لَّا یَعۡلَمُ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَیۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَمَا یَشۡعُرُونَ أَیَّانَ یُبۡعَثُونَ﴾.
﴿وَسَلَـٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِینَ ٱصۡطَفَىٰۤۗ﴾ هم النبيُّون السابِقُون، على نبيِّنا وعليهم الصلاة والتسليم. ﴿ءَاۤللَّهُ خَیۡرٌ أَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾ يدعُوهم بهذا السؤال الكبير؛ للتفكُّر في حالهم وحال أصنامهم التي لا تضر ولا تنفع، كيف يجعلونها ندًّا لله تبارك وتعالى. ﴿جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارࣰا﴾ صالحة لاستقرار الحياة فيها. ﴿وَجَعَلَ لَهَا رَوَ ٰسِیَ﴾ جبالًا ثوابت. ﴿وَجَعَلَ بَیۡنَ ٱلۡبَحۡرَیۡنِ حَاجِزًاۗ﴾ فلا يختلِط أحدهما بالآخر. ﴿أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ﴾ استفهام استنكاري، وقد تكرَّر بعد كل نعمة يعدُّها، كأنه يقول: هل من آلهتكم مَن كان مع الله في هذا الخلق وفي هذا الرزق الذي أنتم تعيشُون به وتتنعَّمُون؟ ﴿أَمَّن یُجِیبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ والمُضطر هو الذي بلَغَ به الضرر أو الخوف منه مبلغًا مع عَجزه عن دَفعِه. ﴿وَیَكۡشِفُ ٱلسُّوۤءَ﴾ يكشف الضر. ﴿أَمَّن یَهۡدِیكُمۡ فِی ظُلُمَـٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ﴾ بما أودع الله في هذا الكون من نجوم دالَّة في السماء، ومعالم شاخِصة في الأرض. ﴿وَمَن یُرۡسِلُ ٱلرِّیَـٰحَ بُشۡرَۢا بَیۡنَ یَدَیۡ رَحۡمَتِهِۦۤۗ﴾ أي: تحمل لكم البشارة بقدوم المطر. ﴿أَمَّن یَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ﴾ وهذا السؤال الذي يعصِف بكل الآلهة المزيَّفة؛ إذ لا يدَّعِي عاقِلٌ أنها كانت في لحظة الخلق الأول، أو قبله، بل هي مصنوعة وطارئة، فكيف تصحُّ أن تكون آلهةً لهذا الخلق؟ ﴿ثُمَّ یُعِیدُهُۥ﴾ في دورة الحياة المحسوسة في النبات وغيره، وفي الحياة الموعودة بالنسبة للإنسان. ﴿قُل لَّا یَعۡلَمُ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَیۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ﴾ تذكيرٌ بأن الذي يخلق هذا الخلق بكل من فيه وما فيه، لا بُدَّ أن يكون عالمًا بكلياته وجزئياته، بل هو عالمٌ به وبصورته وحقيقته قبل خلقِه، فكيف بالآلهة المزيفة التي لا علم لها ولا عقل، ولا تسمع ولا تبصر؟